|
||
أدّى ذلك الحكم إلى عاصفة جماهيرية في المعسكر اليميني. فشتم اليمنيون المحكمة وأدانوها. إثر هذه العاصفة، خضعت المحكمة وحكمت على أزريا بعقوبة مثيرة للسخرية مدتها 18 شهرا من السجن، وهي عقوبة تفرض في العادة على فتى فلسطيني ملقي الحجارة دون أن يلحق ضررا بأي شخص. لم يعتذر أزريا. بل أكثر من ذلك، فقد وقف هو وأفراد أسرته ومؤيّدوه في قاعة المحكمة وغنّوا النشيد الوطني. تصدر هذا المشهد في المحكمة العناوين. من الواضح أن هذا كان مظاهرة ضدّ المحكمة العسكرية، القيادة العليا، والديمقراطية الإسرائيلية كلها. ولكني أعتقد أنه كان أكثر بكثير من ذلك. كان ذلك تصريحا باستقلال شعب إسرائيلي آخر. إنه علامة على انقسام المجتمع الإسرائيلي لشعبين، تزداد التوتّرات بينهما حدة سنويا. في المقابل، فإن المشترك بين هذين الشعبين آخذ في التناقص. وقد باتت تربطهما علاقة مختلفة تماما مع الدولة، مبادئها الأخلاقية، وأيديولوجيّتها وبنيتها. ولكن حتى الآن كان مقبولا التفكير أنّه يوجد على الأقل مؤسسة واحدة مقدّسة في نظر الجميع، وهي المؤسسة التي تتخطى كل جدل، متجاوزة كل الخلافات: الجيش الإسرائيلي. لكن لم يعد الأمر كذلك. تعلّمنا قضية أزريا أنّ هذه العلاقة الوحيدة، التي تربط كل أجزاء الشعب، قد تفككت. من هم هذان المعسكران؟ ما هو العامل الأعمق في هذا الصدع؟ لا توجد طريق لتجاوز حقيقة: العامل العرقي. يحاول الجميع التهرّب من الاعتراف بهذه الحقيقة. تراكمت خطابات لا تعد ولا تحصى من أجل إخفائها. يخاف الجميع من النتائج. النفاق هو وسيلة دفاع ضرورية. هذه حقيقة: بات الآن شعبان يهوديّان في إسرائيل. وهما لا يحبّان بعضهما البعض أبدا. أحدهما يسمى الشكنازي (على اسم ألمانيا بالعبرية الكلاسيكية). وهو يتضمن كل الإسرائيليين الذين تعود أصولهم إلى أوروبا وأمريكا، والذين يتبنّون - أو يتظاهرون بأنّهم يتبنّون - القيم الغربية. ويسمّى الجزء الآخر من الشعب الشرقيين. في الماضي كانوا يسمّون السفاراديم، ولكن ذلك كان اسما خاطئا. كان يُعتبر جزء من الشرقيين فقط من أحفاد المطرودين من إسبانيا قبل 700 عام. (اختارت الغالبية العظمى من مطرودي إسبانيا الهجرة إلى بلدان مسلمة، وليس إلى أوروبا المعادية للسامية). يتضمن الجمهور الشرقي كل الإسرائيليين الذين قدمت أسرهم من البلدان الممتدة من المغرب حتى إيران. تاريخيا، كان اليهود مضطهدين في أحيان كثيرة في أوروبا، واضُطهدوا أقل بكثير في البلدان المسلمة. ولكن الشكنازيين يفتخرون اليوم بتراثهم الأوروبي (في حين أنهم يبتعدون عنه في الواقع) بينما يشعر الشرقيون كثيرا بالإهانة عند مقارنتهم بالعرب. كيف نشأ الصدع؟ تأسست الحركة الصهيونية في الأساس من قبل الشكناز، الذين كانوا يشكّلون قبل المحرقة الغالبية العظمى من يهود العالم. ومن ثم فقد كانوا الغالبية في الاستيطان الصهيوني الجديد في البلاد، وإن كانت فيه أيضا بعض الشخصيات الشرقية البارزة. نشأ الصدع العميق فورا بعد حرب عام 1948. كما ذكرت كثيرا في الماضي، كنت من بين القلة الذين توقّعوا الكارثة التي كانت وشيكة. كنت قائد فرقة في الجيش الإسرائيلي الجديد وكنت أقود فرقة من المتطوّعين من المغرب ومن بلدان شرق أوسطية أخرى (متطوعين أنقذوا حياتي، بالمناسبة، عندما أصبت). كنت شاهدا على بداية الصدع. بدءًا من العام 1949 حذّرت الدولة من هذا الصدع في عدة مقالات. وقد كان ذلك طبيعيا أن تكون هاتان الشريحتان السكانيّتان اللتان جاءتا من ثقافتين كبيرتين ولكن مختلفتين جدا، مختلفتين في تعاملهما في جوانب حياتية كثيرة. ولكن كان الجميع غارقا في الأساطير الصهيونية، وبناء على ذلك لم تُتخذ أية خطوات منعا للكارثة الوشيكة. يؤمن الشرقيون اليوم أنّهم هم "الشعب المثالي"، الإسرائيليون الحقيقيون. إنهم يحتقرون "النخب" الشكنازية. ويؤمنون أيضا أنّهم هم – الشرقيون - يشكّلون الغالبية العظمى. وهذا خطأ. يمرّ الصدع بشكل أو بآخر في الوسط، حيث يشكّل الحاريديون، الروس والشرقيون العرب فئات مختلفة ومنفردة. وهناك سؤال مثير للفضول يتعلّق بمواضيع تتناول الاختلاط. هناك الكثير. سميتهم "أشكرديين". كنت أعتقد أنّهم سيتسبّبون في أن تُحلّ هذه المشكلة تلقائيا. لكن لم يحدث هذا. ما يحدث في الواقع هو أنّ كل أسرة كهذه تنضمّ إلى إحدى الشريحتين السكانيّتين. الحدود ليست حادّة. هناك عدد كبير من الشرقيين البروفيسورات، الأطباء، المهندسين، والفنانين الذين انضمّوا إلى "النخب" ويعتبرون أنفسهم جزءًا منها. هناك الكثير من السياسيين الشكناز (بشكل أساسيّ في الليكود) يتظاهرون وكأنّهم ينتمون إلى "الشعب المثالي"، أملا منهم في كسب الأصوات. يشكّل الليكود ظاهرة بحدّ ذاتها. الغالبية العظمى من أعضاء الليكود وناخبيه هم شرقيّون. يمكن القول إنّ الليكود هو الحزب الشرقي بامتياز. ولكن تقريبا كل القادة في الحزب هم من الشكناز. يحرص نتنياهو أن يكون شكنازيا وشرقيا أيضا. عودة إلى إليئور أزريا. تقول استطلاعات الرأي إنّه في نظر الغالبية العظمى من الشرقيين فإنّ قتل "إرهابي" جريح هو الشيء الصحيح الذي يجب فعله. بعد غناء النشيد الوطني في المحكمة قبّل والد أزريا ابنه صائحا: "أنت بطل"! بينما اعتقد الكثير من الشكناز، أن ذلك كان عملا حقيرا وجبانا. إحدى الضحايا هو رئيس الأركان، غادي أيزنكوت. منذ فترة قصيرة كان الشخص الأكثر شعبية في البلاد. ولكن الآن بات يشتمه الشرقيّون باعتباره خادم "النخب" الشكنازية. ولكن رغم أن اسمه يبدو ألمانيا، فهو من أصول مغربية تماما. (ملاحظة شخصية: في حرب 1948 شهدت ما لا يحصى من أعمال البطولة الحقيقية لجنود ضحّوا بأنفسهم من أجل إنقاذ صديق أو أبدوا قدرة على الصمود في حالات ميؤس منها. أذكر حادثة الجندي ناتان إلباز، وهو من أصول شرقية، والذي رأى قنبلة يدوية على وشك الانفجار فاستلقى عليها منقذا أصدقاءه. باسم كل هؤلاء أشعر بإهانة كبيرة، عند نسب هذا اللقب لشخص أطلق النار بدم بارد على رأس عدوّ ملقى لا حول له ولا قوة على الأرض). منذ أكثر من 40 عاما لم يقاتل الجيش الإسرائيلي جيشا حقيقيّا. لقد نزل إلى درجة الشرطة الاستعمارية، بات جهازا بأيدي نظام يقمع شعبا آخر ويسرق ممتلكاته. خلال أداء هذه المهمة تُنفَّذ أعمال وحشية كل يوم. يجب أن نذكر حادثة المعلّم البدوي، الذي تورط صدفة في حادثة اشتبكت فيها عناصر شرطة مع السكان البدو المحليين. أطلقت عناصر الشرطة النار في الظلام على المعلم، الذي بدا لها عن طريق الخطأ "إرهابيا". ولكن ليست هذه هي القضية، كذلك ليست الأكاذيب الواضحة لوزير الشرطة ومفوّض الشرطة. (من المفهوم ضمنا أنّه في دولة ديموقراطية كان هذا الثنائي سيستقيل منذ مدة). القضية هي أنّ المعلّم قد أطلقت عليه النار فسقط أرضا وكان محاطًا بعناصر الشرطة، ولم يجد أحدا أنه من الضروري استدعاء مسعف. لذلك بعد مرور 20 دقيقة توفي المعلم إثر نزيف دموي. كان في وسع جندي إنساني بشكل خاص، من أسرة ذات قيم، مواجهة هذه الضغوط الوحشية. لحسن الحظ، ما زال هناك الكثير من أمثال هؤلاء الجنود. أنا أعتقد أنّ الحلّ يكمن هنا. علينا أن نتخلّص من الاحتلال، بكل الوسائل الممكنة، سريعا قدر الإمكان. وعلى كل صديق حقيقي لإسرائيل في العالم أن يساعد على ذلك. بعد أن نتخلّص من الاحتلال فقط يمكننا أن نكرس مواردنا الروحية والاجتماعية من أجل رأب الصدع الكبير ومن أجل أن نصبح مجددا شعبا يرغب الكثير منا الانتماء إليه. عندها يمكن أن نغنّي النشيد الوطني بثقة. |