اوري افنيري 

الخط الأخضر جدير بالاحترام / أوري أفنيري


إن أكثر تحليل ثاقب قرأته ذات مرة حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، هو للمؤرخ اليهودي البولندي الإنجليزي يتسحاق دويتشر. يتضمن التحليل كله تشبيها واحدا ووحيدا.

كان يعيش شخص في الطابق العلوي من مبنى، نشب فيه حريق. فمن أجل إنقاذ حياته، قفز من النافذة وهبط على أحدّ المارّة في الشارع. فأصيب بجراح بالغة وأصبح معاقًا. عندها اندلع بين الاثنين صراع لا ينتهي.

بالطبع فإن التشبيه ليس دقيقا تماما. فلم يهبط الصهاينة إلى أرض إسرائيل صدفة، وإنما بسبب الكتاب المقدّس. بالأساس فضّل مؤسس الحركة، بنيامين زئيف هرتسل، استيطان اليهود في البداية في الأرجنتين.

ومع ذلك، كانت هذه الحقيقة في أساسها صحيحة. على الأقل بخصوص الأحداث حتى عام 1967. فمنذ ذلك الحين فما بعد، استمر المستوطِنون في تخطي الخط الأخضر.

ليس هناك ما هو مقدّس في منطقة الخطّ الأخضر. لا تختلف هذه الحدود عن الحدود الأخرى في العالم، مهما كان لونها.

أنشئت معظم الحدود جغرافيا أو صدفة أثناء الحرب. شعبان يتقاتلان على أرض بينهما، وفي نقطة معينة يسأمان ويصنعان سلاما. هكذا نشأت الحدود.

حُدِدت الحدود البرية لإسرائيل - وهي "الخط الأخضر" - ونشأت صدفة، بعد الحرب. حُدِدَ جزء من هذا الخط في اتفاق بين الحكومة الإسرائيلية الجديدة والملك عبد الله الأول ملك الأردن، الذي أعطانا قرى المثلث إكرامة، مقابل موافقة إسرائيل على ضم الضفة الغربية إلى الأردن.

لماذا هذه الحدود مقدسة جدا؟ ليس هناك سبب، سوى حقيقة وجودها. وهذا يسري أيضا على الكثير من الحدود في أنحاء العالم.

تنشأ الحدود صدفة وتحظى بالموافقة ضمن اتفاقية. صحيح أن الأمم المتحدة حددت في قرارها التاريخي عام 1947 أن تقوم في البلاد دولتان، يهودية وعربية، ورسمت أيضًا الحدود بينهما. ولكن العرب شنوا حربا ضد ذلك القرار فاستغلت إسرائيل هذه الفرصة من أجل توسيع أراضيها.

انتهت حرب عام 1948 دون اتفاق سلام. صُودِق على قبول خطوط وقف إطلاق النار التي حددها كل العالم عند انتهاء الحرب كحدود للدولة الجديدة. لم يتغيّر ذلك في الـ 68 عاما التي مرت منذ ذلك الحين.

وما زال هذا الوضع قائم واقعيا ونظريا. ينطبق القانون الإسرائيلي فقط داخل الخطّ الأخضر. تمثّل كل بقية المناطق أراض محتلّة، ينطبق عليها القانون العسكري. ضُمِت مساحتان صغيرتان، القدس الشرقية وهضبة الجولان، إلى إسرائيل من جهة واحدة، وليست هناك دولة في العالم تعترف بهذا الموقف.

أتطرق بالتفصيل إلى هذه الحقائق المعروفة لأنّ المستوطِنين في الأراضي المحتلة بدأوا مؤخرا في السخرية ممّن ينتقدهم في إسرائيل: "ما الفرق الكبير بينكم وبيننا؟"

أنتم أيضًا تقيمون على أرض عربية، كما يقولون لنا. صحيح أنّه قبل عام 1948 استوطن اليهود على أرض اشتروها بالكثير من المال - ولكن اشتُريَ جزء من هذه الأرض فقط من الفلاحين الذين عملوا فيها في الواقع. اشترى الجزء الأكبر من الأراضي أشخاص ليسوا أصحابها بثمن ضئيل من السلطان التركي، عندما كانت السلطنة العثمانية على حافّة الإفلاس. طردت الشرطة التركية العمال في الأرض في الواقع، وبعد ذلك طردتهم الشرطة البريطانية.

"حُررَت" مساحات هائلة من الأراضي خلال حرب 1948، بعد أن هرب الكثير من القرويين وسكان المدن من الجيش الإسرائيلي المحتلّ، كما يفعل المدنيون في كل حرب. ولو لم يفعلوا ذلك، فكان سينجح بعض طلقات المدافع الرشاشة في طردهم.

نُقِل السكان الذين لم يهربوا من يافا أثناء الاحتلال بشاحنات إلى غزة. وطُرِد سكان اللد مشيا على الأقدام. بالإضافة إلى ذلك بلغ عدد المطرودين 750 ألف نسمة، أكثر من نصف الشعب الفلسطيني في تلك الفترة، في الوقت الذي بلغ فيه تعداد الاستيطان العبري نحو 650 ألف نسمة.

أشعر بحاجة إلى أن أذكر هنا بيني دونكلمان، وهو ضابط يهودي كندي كان قائدا للواء في الجيش الإسرائيلي في حرب عام 1948، بعد أن تميّز كضابط في الجيش الكندي في الحرب العالمية الثانية. فهو تلقى أمرا لاحتلال مدينة الناصرة، ولكنه نجح في إقناع زعماء المدينة في الاستسلام دون معركة. كان الشرط الذي وُضِع هو ألا يلحق أي ضرر بالسكان وممتلكاتهم.

بعد أن سيطر جنوده على المدينة، تلقّى دونكلمان أمرا شفويا بطرد السكان. فاعتبر دونكلمان ذلك الطلب مسّا بكرامته كضابط وكرجل، فرفض. لذا طلب تلقي أمر خطي. مثل هذا الأمر، بطبيعة الحال، لم يُعط (لم يصدر أي أمر طرد خطي حينذاك). ولكن أُقِيلَ دونكلمان من منصبه.

والآن، عندما أزور الناصرة، وهي مدينة تعج بالحياة، أتذكر ذلك الرجل الشجاع. لقد عاد بعد الحرب إلى كندا، ولا أظن أنه زار إسرائيل يوما ما. لقد توفي قبل 20 عاما.

أعترفُ: لقد شاركت في كل تلك الأحداث. شاركت فيما حدث، بداية كجندي، وبعد ذلك كقائد فرقة. ولكن بعد الحرب مباشرة وصفت الأحداث بصراحة في كتابي "الوجه الآخر من العملة". بعد مرور سنوات قليلة نشرت خطة مفصّلة لإعادة بعض اللاجئين إلى إسرائيل، ودفع تعويضات لكل الآخرين. وبالطبع لم يحدث ذلك.

أُعطيَ معظم أراضي ومنازل اللاجئين لقادمين جدد يهود.

الآن يقول المستوطِنون، بشكل لا يخلو من العدالة، "من أنتم أيها الإسرائيليون حتى تحتقروننا؟ لقد قمتم بالشيء ذاته الذي نفعله نحن! الفرق فقط هو أنكم قمتم بذلك قبل 1967، ونحن فعلنا ذلك لاحقا. ما الفرق؟"

ولكن هذا هو الفرق تماما! نحن نعيش في دولة يعترف بها معظم دول العالم. أنتم تعيشون في أراض ينظر إليها العالم باعتبارها أراض فلسطينية محتلة. على سبيل المثال: احتلت الولايات المتحدة في حرب ضدّ المكسيك ولاية تكساس. إذا غزا الرئيس ترامب الآن المكسيك وضمّ للولايات المتحدة منطقة أخرى منها (لمَ لا؟) فسيكون حال تلك المنطقة مختلفا تماما.

يدعم بنيامين نتنياهو - وهناك من يدعوه الآن ترامبياهو - المستوطنات جدا. وقد خضع هذا الأسبوع إلى ضغوط المحكمة العليا وأجرى عرضا لإخلاء بؤرة استيطانية صغيرة واحدة، وهي عمونا، رافقه الكثير من الأسى والحزن. لقد وعد نتنياهو مباشرة ببناء آلاف الوحدات السكنية الأخرى في الأراضي المحتلة.

سياسيا، تلامس الأطراف بعضها البعض في كثير من الأحيان.

المستوطِنون، الذين يعملون من أجل إظهار الفرق بيننا وبينهم، لا يقومون بذلك من أجل تبرير أنفسهم فقط. فهدفهم هو محو الخطّ الأخضر وضمّ كل الأراضي المحتلة إلى إسرائيل الكبرى، التي ستمتدّ من البحر المتوسّط إلى نهر الأردن.

يطمح الكثير من كارهي إسرائيل إلى تحقيق هذا الهدف - مع فارق واحد: يريدون أن تكون هذه دولة عربية.

في الواقع، كنت أرغب بأن أتولى منصب رئيس لجنة مشتركة بين كارهي إسرائيل وكارهي فلسطين. كنت سأقترح الحصول بداية على البنود المتفق عليها - لنفترض، إقامة دولة تمتدّ من البحر إلى النهر. كنت سأترك حتى النهاية مسألة كيف نسمي هذه الدولة - إسرائيل أم فلسطين.

في السنوات الأخيرة قامت حركة عالمية اسمها BDS تطمح إلى فرض مقاطعة على كل إسرائيل، من أجل تحقيق هذا الهدف. لدي مشكلة مع ذلك.

تفخر كتلة السلام، وهي الحركة التي أنتمي إليها، كثيرا بحقيقة أنّه قبل سنوات كثيرة كنا أول من فرض مقاطعة على منتجات المستوطنات. ما زلنا نحافظ على ممارسة هذه المقاطعة، رغم أنّ ذلك يناقض الآن القانون الإسرائيلي.

لم نعلن عن مقاطعة دولة إسرائيل، وليس فقط لكون إعلاننا مقاطعة ذاتية غبيا إلى حد ما بل لأسباب أخرى. كان الهدف الأساسي وراء مقاطعتنا هو تعليم الإسرائيليين الفرق بينهم وبين المستوطِنين. نشرنا قائمة مفصّلة ووزعنها على كل المصانع والمنتجات الواقعة خارج الخط الأخضر. ما زال الكثيرون يمارسون هذه المقاطعة حتى الآن.

ولكن مقاطعة الـ BDS تحقق العكس تماما: عندما يُذكر أنه لا فرق بين مواطني إسرائيل المقيمين داخل الخطّ الأخضر وبين المستوطِنين خارجه، فهذه الأقوال تدفع الإسرائيليين الأبرياء إلى أذرع المستوطِنين.

والمستوطنون سعداء بالطبع بالحصول على مساعدة الـ BDS في محو الخطّ الأخضر.

ليس لديّ صراع شخصي مع أعضاء الـ BDS. صحيح أن هناك بينهم بعض المعادين للسامية من النوع القديم ولكن بمظهر جديد. ولكن معظم مؤيدي الـ BDS هم مثاليون، متعاطفون مع معاناة الفلسطينيين. أحترم ذلك.

ومع ذلك، كنت سأطلب من هؤلاء المثاليين إعادة التفكير بالأهمية الكبيرة للخطّ الأخضر - الحدود الوحيدة التي تسمح بالسلام بين إسرائيل وفلسطين (مع تعديلات طفيفة في الحدود).

لن تختفي إسرائيل. لن يختفي الشعب الفلسطيني أيضًا.

إذا اتفقنا على هاتين الحقيقتين، يمكننا أيضًا الاتفاق على مقاطعة صناعة المستوطنات - والمستوطنات فقط.