|
||
تبدو فكرة اللقاء في رام الله بسيطة، ولكنها ليست كذلك أبدا. قبل وفاة ياسر عرفات عام 2004 كانت لقاءات كهذه اعتيادية تقريبا. منذ لقائي الأول مع عرفات في بيروت المحاصرة عام 1982، الذي كسر الحاجز بين الإسرائيليين والفلسطينيين، التقى عرفات مع الكثير من الإسرائيليين. كان عرفات يتميز بسلطة أخلاقية شبه تامة، وقد قبل منافسوه الداخليون قراراته أيضا. منذ ذلك اللقاء الأول، قرر عرفات أن اللقاءات الفلسطينية - الإسرائيلية تخدم السلام الإسرائيلي - الفلسطيني، فشجّعها. ولكن بعد أن قُتِل عرفات، تعزز الاتجاه المعاكس. فقرر متطرفون فلسطينيون أنّ كل لقاء مع الإسرائيليين، أيٍّ كان، يخدم "التطبيع" - وكان ذلك شيطانا رهيبا. وضع أبو مازن حدّا الآن لهذا الهراء. إنه يعتقد، مثلي، أنّ الدولة الفلسطينية المستقلة ستقوم فقط في أعقاب كفاح مشترك لقوى السلام من كلا الطرفين، بمساعدة قوى دولية. بناء على هذا الاعتقاد دعانا إلى رام الله (لأنّ الفلسطينيين لا يمكنهم دخول الأراضي الإسرائيلية). فشارك بعض الإسرائيليين ونحو مائة فلسطيني. أهتم أبو مازن بأن نجلس على المنصة معا، وهكذا بدأ اللقاء. أشار محمود عباس - أبو مازن، كما يُدعى عادة - بطيبة خاطره إلى أننا أصدقاء منذ 34 عاما، منذ أن التقينا للمرة الأولى في تونس، بعد فترة قصيرة من انتقال منظمة التحرير الفلسطينية إليها من بيروت. على مر السنين، عندما كنت أزور تونس مع أصدقائي، كان عملنا يسير وفق الترتيب التالي: في البداية كنا نلتقي بأبي مازن، الذي كان مسؤولا عن المحادثات مع الإسرائيليين. من ثم نعدّ برامج للعمل المشترك من أجل السلام. بعد ذلك كنا جميعا نلتقي في مكتب عرفات، الذي كان صاحب موهبة نادرة لاتخاذ القرارات خلال دقائق. كان يقرر فورا "مع" أو "ضد". لم يكن ممكنا وجود زعيمين ذوي طابع مختلف أكثر من عرفات وأبي مازن. كان عرفات شخصية "دافئة"، يعانق ويقبّل ضيوفه وفقا للطراز العربي القديم - قبلة واحدة على كل خد للضيف العادي، ثلاث قبلات للضيف المفضّل. بعد عشر دقائق كان الضيف يشعر كأنه كان يعرف عرفات طوال حياته. في المقابل، محمود عباس علاقاته ليست ودية. فهو يعانق ويقبّل أيضا، ولكن المعانقة والتقبيل لا يشكلان جزءا طبيعيا كما لديه كما هي الحال لدى عرفات. فأبو مازن منطو أكثر على نفسه. أحترم أبي مازن كثيرًا. تُطلب منه الكثير من الشجاعة من أجل أداء دوره، كقائد لشعب تحت الاحتلال، يضطر إلى التعاون معه في شؤون معينة، ورفض شؤون أخرى. هدف شعبه هو الصمود والبقاء على قيد الحياة. أبو مازن خبير في ذلك. عندما هنّأته على شجاعته، ضحك قائلا إنّه كانت هناك حاجة إلى شجاعة أكبر لدي عندما دخلت عام 1982 إلى بيروت المحاصرة، وسط الحرب، فشكرته. حتى قبل أن يكون نتنياهو رئيس الحكومة، نجحت حكومة إسرائيل في تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى قسمين. لقد انتهكت ببساطة التزامها وفقا لاتفاق أوسلو بإنشاء أربعة "معابر آمنة" بين الضفة والقطاع. أصبح ذلك الانقسام أمرا لا يمكن تجنبه تقريبا. تعاملت الحكومة الإسرائيلية مع أبي مازن المعتدل بشكل رسمي باعتباره صديقا ومع حماس المتطرفة باعتبارها عدوا، ولكن باتت تتعامل الآن خلافا لذلك - معاملة التسامح مع حماس، والعدواة مع أبي مازن. يبدو ذلك جنونيا، ولكنه منطقي جدا: كان بإمكان أبي مازن جذب الرأي العام العالمي إلى الجانب الفلسطيني، ولكن حماس ليست قادرة على ذلك. بعد اللقاء العام في رام الله التقيت بأبي مازن شخصيا واقترحت عليه اقتراحا. إنه يستند إلى الافتراض أنّ نتنياهو لن يوافق أبدا على التفاوض الحقيقي من أجل السلام، لأنّ ذلك سيؤدّي بالضرورة إلى حلّ الدولتين، لا سمح الله. اقتراحي هو: إقامة "مؤتمر سلام شعبي". فلنفترض أنه سيجتمع مرة في الشهر في رام الله (في رام الله، لأنّ الفلسطينيين غير قادرين على دخول الأراضي الإسرائيلية). في كل جلسة يُناقش في المؤتمر بند واحد من اتفاق السلام المستقبلي، مثل الحدود، شكلها (مفتوحة؟)، الترتيبات الأمنية، القدس، غزة، اللاجئين، الاقتصاد، مصادر المياه، وغيرها. سيشارك عدد مساو من الخبراء من كل جانب في النقاشات. سيضعون كل الشؤون على الطاولة بأدق تفاصيلها، بصراحة كاملة، ويشرّحونها. إذا تم التوصل إلى اتفاق على نقطة معينة، فهذا جيد. وإن لم يتم التوصل، فسيتم تعريف اقتراحات كل جانب بوضوح، ويتم تأجيل الموضوع حتى مرحلة متأخرة أكثر. في النهاية - لنفترض بعد نصف عام - يتم نشر "اقتراح سلام شعبي"، يتضمن كل النقاط المُتفق عليها، وأيضا البنود التي لم يُتفق عليها. سيُشار إلى النقاط غير المُتفق عليها بوضوح، وستُناقش، حتى التوصل إلى اتفاق بشأنها. استمع أبو مازن، وفي النهاية طلب مني إرسال مذكرة تفصيلية إليه. قمت بذلك، بعد أن تشاورت مع دائرة مصغّرة من النشطاء، مثل آدم كيلر، الناطق باسم "كتلة السلام". والآن سيسافر أبو مازن إلى باريس. الهدف الرسمي للمؤتمر هو تجنيد الدعم العالمي لحلّ الدولتين. أتساءل أحيانا كيف لم أصبْ بجنون العظمة. (يدعي بعض أصدقائي بأنّ هذا غير ممكن، لأنّني مصاب بجنون العظمة الآن فعلا). بعد أسابيع قليلة من حرب عام 1948 اجتمعت في حيفا مجموعة صغيرة من الشبان من أجل مناقشة طريق السلام. تقرر أنّ الحل يجب أن يستند إل ما يُسمّى في أيامنا هذه "حلّ الدولتين". كان من بين المجتمعين يهودي (أنا)، مسلم، ودرزي. ولأنّه كان قد تم إطلاق سراحي من المستشفى العسكري منذ مدة قصيرة فقط قبل ذلك، كنت لا زلت أرتدي الزي العسكري. تجاهل الشعب هذه المجموعة تماما. لم يكن هناك أي صدى لأفكارها. بعد نحو عشر سنوات من ذلك، بعد أن أصبحت عضو كنيست (أصبح الشخصان الآخران أيضا عضوَي كنيست)، سافرت إلى الخارج من أجل إقناع شخصيات بارزة. تجوّلت في واشنطن، والتقيت شخصيات هامة في البيت الأبيض، في وزارة الخارجية، في البنتاغون في واشنطن، وفي الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة في نيويورك. في طريق العودة زرت أيضا وزارات الخارجية في لندن، في باريس وفي برلين. النتائج؟ صفر! لم أجد في أي مكان داعما واحدا للفكرة. ماذا؟ دولة فلسطينية؟ هراء! لا يوجد شيء كهذا. على إسرائيل أن تجري مفاوضات مع الأردن، مصر، وغيرها. ألقيت في الكنيست خطابات كثيرة حول هذا الاقتراح. رويدا رويدا بدأت دول قليلة في العالم تتعامل مع هذه الفكرة بجدية. كانت الدولة الأولى هي الاتحاد السوفييتي، ولكنها هي أيضا قبلت فكرة الدولتين فقط بعد فترة طويلة، في عهد ليونيد بريجنيف (1969). مضت دول أخرى في أعقابها. واليوم لا يوجد شخص في العالم يعتقد أنّ هناك حلّا للصراع الإسرائيلي الفلسطيني سوى حل الدولتين، الواحدة بجانب الأخرى. تظاهر نتنياهو أيضا وكأنه يتبنى ذلك - بشرط أن يتهوّد الفلسطينيون أو يهاجروا إلى غرينلاند. نعم، أعلم أنني لم أحدث هذا التغيير العظيم. التاريخ هو من صنع ذلك. ولكن أطلب المغفرة إذا كنت أشعر بقليل من الفخر. فخر أو جنون عظمة إلى حد معين. حلّ الدولتين ليس حلّا جيّدا ولا سيّئا. إنه الحل الوحيد. ليس هناك حلول أخرى. أعلم أن هناك أشخاص جيّدين، ممتازين جدا، يؤيّدون ما يُسمى "حل الدولة الواحدة". ولكن يجدر بهم التفكير بالتفاصيل: كيف ستبدو تلك الدولة؟ كيف ستعمل؟ كيف سيبدو الجيش، الشرطة، الاقتصاد، والبرلمان. أبارتهايد؟ حرب أهلية أبدية؟ منذ ذلك اللقاء عام 1949 اختلف كل شيء. ولكن لم يتغير أي شيء. أعتذر، حلّ الدولتين لا يزال الحلّ الوحيد. |