|
||
قرر أعضاء الكنيست من القائمة المشتركة مقاطعة الجنازة. لقد ادعوا أنّ بيريس كرّس معظم حياته للحرب ضدّ العرب عموما، والفلسطينيين خصوصا. أثار قرار المقاطعة عاصفة احتجاجات في أوساط أعضاء الكنيست اليهود. فتساءلوا كيف يجرؤ أعضاء الكنيست العرب على عدم المشاركة في الجنازة؟ إن مقاطعة جنازة بيريس أشبه بمقاطعة الدولة! علينا طرد أعضاء الكنيست العرب من الكنيست! علينا الخروج من قاعة الهيئة العامة للكنيست عندما يلقون خطابا! (من الغريب أن أحدا لم يقترح حتى الآن حظرهم). الجزء المثير للاهتمام حقا في القضية هو الجدال الذي يدور بين العرب أنفسهم. أدان بعض المواطنين العرب قرار القائمة المشتركة. فاتُهموا أنّهم "عرب جيّدون" فورا، وهو وصف مهين للعرب الذين يسعون إلى إثارة إعجاب الغالبية اليهودية. استمر الجدل ومسّ جذور وجود الأقلية العربية - الفلسطينية في إسرائيل، والتي يبلغ تعدادها نحو 20% من سكان البلاد. يذكرني كل ذلك بتجربة منذ أيام طفولتي. عشت السنوات التسع ونصف الأولى من حياتي في ألمانيا الديمقراطية، التي سمّيت "جمهورية فايمار" (على اسم المدينة التي صيغ فيها دستورها والتي عاش فيها بعض أفضل المفكّرين الألمان). بعد ذلك عشتُ نصف عام في ألمانيا النازية. كنّا "يهودا ألمانا". أي، كنا ألمانيين من كل النواحي، ويهودا من الناحية الدينية. في الواقع، فإنّ معنى ذلك أنّنا كنا ألمانا، ولكن من نوع آخر، نوع ينتمي جزئيا إلى ألمانيا، وفي الوقت ذاته كنا ننتمي أيضا إلى ما يُعرف بـ "الشعب اليهودي". أذكر في أحيان كثيرة تجربة مهمة مررت بها في حياتي: واجهت حدثا وطنيا حدث في المدرسة، بعد فترة من صعود النازيين إلى الحكم. أذكر أنه قد تجمّع كل أطفال المدرسة في قاعة مؤتمرات كبيرة، وفي نهاية اللقاء قام الجميع من أجل إنشاد النشيدين الوطنيين: النشيد الوطني الألماني والنشيد الوطني النازي. وبما أنني كنت تلميذا في الصفّ الأصغر في المدرسة، وكان كل أصدقائي في الصفّ أكبر مني، كنت الطفل الأصغر في المدرسة. وكنت اليهودي الوحيد أيضا. وقفت مثل الجميع دون أن أفكر، ولكني لم أرفع يدي لأداء التحية العسكرية النازية، ولم أنشد ككل الطلاب الآخرين. فقد كنت طفلا واحدا صغيرا بين مئات الأطفال الأكبر مني سنا. عندما انتهى الحفل، توجّه إليّ بعض الأطفال الأكبر مني وهدّدوني أنهم سيكسروا عظامي إذا كررت ذلك. لحسن الحظ، غادرنا ألمانيا بعد عدة أيام من تلك الحادثة. ربما ساعدني ذلك الحدث على فهم مشاعر المواطنين العرب في البلاد. إنهم بالتأكيد يتساءلون عن هويتهم، وإذا كانوا إسرائيليين؟ عربا؟ فلسطينيين؟ عربا إسرائيليين (مصطلح يكرهونه)؟ مواطنين فلسطينيين في إسرائيل (كما يفضّلون أن يطلق عليهم مؤخرا)؟ أم كل هذه التعريفات معا؟ أو ليس أيّا منها؟. بعد حرب 1948، والتي قامت في أعقابها دولة إسرائيل، وهرب خلالها نحو 700,000 عربي وطُردوا (ولم يُسمح لهم بالعودة)، كان عدد السكان في الدولة الجديدة نحو 650,000 نسمة، من بينهم 20% عرب. المثير للدهشة، أنه بفضل مساعدة الهجرة اليهودية، لم تتغيّر هذه النسبة منذ ذلك الحين، رغم نسبة الولادة المرتفعة في أوساط العرب. بعد قيام دولة إسرائيل، كانت تخضع كل المدن والقرى العربية تحت سيطرة "الحكم العسكري"، وهو وضع لا يُطبق على الأرض، إلا على السكان العرب فقط. لم يُسمح للعرب بالخروج من مدنهم وقراهم دون أن يحصلوا على تصريح مكتوب من المسؤولين في الحكم، حتى لو كانوا يريدون زيارة قريب عائلة في قرية مجاورة فقط. لم تكن أية صفقة - بدءًا من شراء جرّار ووصولا إلى تسجيل البنات في المدارس - ممكنة دون الحصول على تصريح مكتوب من الحكام في البلاد. استمر هذا النظام البغيض 18 عاما. كان معسكر السلام اليهودي والحزب الشيوعي (الذي كانت غالبيته من العرب) نشيطَين من أجل إلغائه. شاركتُ في عشرات المظاهرات. بل اخترعت رمز الحملة: الحرف X. ولكن طالما كان دافيد بن غوريون، وشمعون بيريس، في الحكم، لم تثمر احتجاجاتنا. تم إلغاء الحكم العسكري فقط بعد أنّ تم إبعادهما من حزبهما. دعم الشاباك (الذي كان يُسمى حينذاك "شين بيت") الإلغاء. ادعى أنّ الحكم العسكري يلحق ضررا أكثر من الفائدة، وأنّ الجهاز سيعمل بكفاءة أكبر من دونه. على مدى تلك السنوات كانت علاقة بين وبين السكان العرب في إسرائيل. كان لدي أصدقاء في الكثير من القرى والمدن. كان لهيئة تحرير "هعولام هازيه" أصدقاء عرب، وهو أمر لم يكن مقبولا في ذلك الوقت، وعندما أسست حزبا جديدا، "هعولام هازيه - قوة جديدة"، كان يتضمن مرشّحين عرب وناخبين عرب أيضا. لمزيد الأسف، تقلصت تلك العلاقات بعد حرب الأيام الستة (1967)، عندما احتلّت إسرائيل قطاع غزة والضفة الغربية. بذلت كل جهودي من أجل العمل على إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل والنضال من أجل حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. إذا، ما هو وضع المواطنين العرب في دولة إسرائيل؟ هناك حالتان: إحداهما أنّهم مواطنون ذوو حقوق متساوية مع بقية المواطنين في الدولة "اليهودية والديمقراطية". والحالة الأخرى هي أنّهم أقلية مضطهدة، تعاني من التمييز ضدّها في كل المجالات وتعيش في ضائقة مستمرة. أي من الوصفين صحيح؟ في رأيي، كلاهما غير صحيح. قبل سنوات، قبل أن يصبح أفيغدور ليبرمان وزيرا للدفاع وعندما كان لا يزال حرّا في الحديث بكل ما يخطر له، قال تصريحات مذهلة: إقامة كيان فلسطيني إلى جانب دولة إسرائيل وضمّ منطقة المثلّث إليه، التي يسكن فيها العرب. مقابل ذلك يجب أن نضم إلى إسرائيل الكتل الاستيطانية في الضفة. وفقا لهذا الاقتراح، كان سيصبح الكثير من المواطنين العرب مواطنين في الكيان الفلسطيني، وكذلك ممتلكاتهم. ما السيّء في ذلك؟ ولكن استجاب المواطنون العرب في إسرائيل للاقتراح بغضب. لم يُسمع صوت مؤيد عربي واحد له. أراد الجميع البقاء في إسرائيل. لماذا؟ يزيد متوسط دخل مواطني إسرائيل، بما في ذلك المواطنون العرب، بعشرة أضعاف وأكثر من دخل العرب في البلدان المجاورة وفي الأراضي المحتلة. تبدو لهم حقوق الإنسان والمواطِن في إسرائيل أكثر ضمانا. يعمل في إسرائيل أطباء مسؤولون في المستشفيات. يحظى الممرّضون العرب في المستشفيات بالثناء أيضا. هناك قاض عربي محترم في المحكمة العليا، والذي يصدر حكم السجن ضد وزراء يهود. هناك بروفيسورات عرب في الجامعات. إذا كان الأمر كذلك، فهل يتمتّع العرب بالمساواة في الحقوق؟ كلا بالتأكيد. يتم التمييز ضدّ العرب تقريبا في كل المجالات. تحظى البلدات العربية بميزانيات حكومية أقل من جاراتها اليهودية. مستوى المدارس العربية منخفض أكثر من تلك اليهودية (وإنْ كان بعض المدارس العربية قد وصل إلى القمة). يتم هدم قرى البدو ونقل سكانها بالقوة إلى أماكن أخرى. لا يحلم أي حزب يهودي بإقامة ائتلاف مع حزب عربي. إن متوسط مستوى المعيشة في أوساط المواطنين العرب أقل من مستوى المواطنين اليهود، ولكنه أعلى من مستوى السكان في الأراضي المحتلة وفي معظم البلدان المجاورة. والأهم: يتم تذكير المواطنين العرب في كل مناسبة أنّ هذه الدولة هي "دولة يهودية"، وأنها ليست ملكا لهم، وأنّه يتم تحملهم في أحسن الأحوال. يُجبر أطفالهم على إنشاد النشيد الوطني للدولة ("نفس يهودية تتوق...")، وهو أمر يذكّرني بتلك الحادثة في طفولتي. العلَم وبقية رموز الدولة هي يهودية فقط. (غيرت كندا في ذلك الوقت علمها ونشيدها الوطني حتى تشعر الأقلية الفرنسية فيها وكأنها في البيت). ولكن قال لي أصدقاء عرب سرّا إنّهم عندما يزورون أقرباءهم في الأراضي المحتلة، يشعرون بشعور متعال. ولكن عندما يزورون شاطئ البحر في تل أبيب، وهو حدث نادر تماما، فهم لا يجرؤون على الحديث بالعربية. بالمجمل - حال ممزوج جدا، بعيد عن الصورة المبسّطة لكل واحد من الطرفين. لا توجد أقلية قومية في العالم سعيدة تماما. يبدو أنّ هذا وضع يخالف الطبيعة البشرية. في السنوات الأولى من قيام الدولة، كانت الأقلية العربية خاضعة. كان معظم أعضاء الكنيست العرب عملاء في أحزاب صهيونية. قال أحد أعضاء الكنيست، عبد العزيز الزعبي (مبام): "دولتي تقاتل شعبي". نفى كل اليهود في إسرائيل تقريبا، وكل الأحزاب اليهودية تقريبا، حينها بشدّة مجرّد وجود الشعب الفلسطيني. "ليس هناك شعب يُعرف بالشعب الفلسطيني"! كما صرّخت جولدا مائير. قضيتُ آلاف الساعات من حياتي في محاولة إقناع اليهود أنّه هناك حقا شعب هو الشعب الفلسطيني، وأنّنا لن نعيش بسلام أبدا إذا لم يحظ هذا الشعب بالاستقلال. ولّت تلك الأيام منذ فترة طويلة. وأصبح المواطنون الفلسطينيون في دولة إسرائيل اليوم واثقين بأنفسهم. (ابنة أخرى لعائلة الزعبي، حنين، تثير جنون اليهود بإشكالات استفزازية). ولكن إنْ كنّا نأمل على مدى سنوات طويلة أن يشكّل هذا الجمهور العربي "جسرًا" بين إسرائيل والعالم العربي، فإنّ هذا الأمل قد خاب منذ زمن. (الجسر هو شيء يدوسون عليه"، كما قال لي مرة صديق عربي). الأسوأ، أنّ الهوّة بين المواطنين العرب واليهود داخل إسرائيل تتوسّع باستمرار. في نظري هذه مأساة. لو كانت كل تلك الآراء المسبقة قد اختفت، ولو حققنا السلام بين إسرائيل وفلسطين، لاختلط اليهود والعرب في إسرائيل نفسها بسهولة في شعب إسرائيلي عام واحد. أمر واحد سيكون أكيدا تماما: لن يكون هناك تغيير نحو الأفضل في إسرائيل، سواء كان تغيير الحكومة أو تغيير في السياسة، إلا إذا أصبح المواطنون العرب وممثّلوهم جزءًا لا يتجزّأ من حركة سلام كبيرة وموحّدة، حركة لا أمل من دونها. وأنا، كما هو معلوم، متفائل. |