|
||
لم أشارك في مراسم تشييع جنازة بيريس. لقد كانت مراسم سخيفة جدا، عموما. شعر كل من تحدث مرة واحدة معه أو صافحه أن عليه أن يكتب تأملات عميقة وطويلة عنه. كانت غالبية العبارات التي ذُكرت سخيفة. أحبُ أن أظهر في التلفزيون، لكني رفضت هذه المرة عشرات الدعوات للمشاركة في برامج تلفزيونية، إذاعية، وغيرها. لم ترق لي المشاركة في المراسم أبدا. فضلا عن كل ذلك، كانت هناك مفارقة أيضًا: شارك مئات المؤبّنين، ومن بينهم عشرات الشخصيات التي وصلت من خارج البلاد، في المراسم تكريما لـ "رجل السلام". ولكن كان الحدث ذاته إنجازا دعائيا كبيرا لحكومة نتنياهو، حكومة الاحتلال. يذكّرني فيض المقالات حول الراحل شمعون بيريس بالأسطورة اليونانية القديمة حول ثلاثة عميان صادفوا فيلًا. لقد وصفه كل واحد بطريقة مختلفة. قال الأول: "يشبه الفيل الأنبوب"، بينما كان يمسك بخرطومه. قال الثاني: "الفيل مستدير وحادّ"، بينما كان يمسك بأسنانه. أما الأعمى الثالث فقد قال: "الفيل كبير وخشن". كانت صفات مختلفة لدى شمعون بيريس، وجميعها معا شكّلت الرجل الحقيقي فقط. الرجل، الذي لم يره أحد من المؤبّنين. كل ما قيل وكُتب تقريبًا في مراسم تأبينه كان كذبا. تجاهل الجميع الفيل الحقيقي الواقف في وسط الساحة: الاحتلال. عندما مرض بيريس، كتبت عنه مقالا. لقد قررت أن أذكره هنا مجددا، مع إضافات تبدو لي مهمة أو، على أقلّ تقدير، مثيرة للاهتمام. يؤسفني أن المقال طويل إلى حد ما: كان شمعون بيريس عبقريا، ومتنكرا عبقريا، عمل طيلة حياته على رسم صورته. فحلت محله. رثى كل المؤبّنين تقريبا الرجل غير الحقيقي، وليس الرجل الحقيقي. لقد دُفن الرجل الحقيقي، رحمه الله. وستتذكر الأجيال الرجل غير الحقيقي. للوهلة الأولى، وُجدت بيني وبينه خطوط تشابه قليلة. فهو يكبرني بـ 39 يوما. قدم إلى البلاد بعدي بعدة أشهر. كنا آنذاك في العاشرة من عُمرنا. أرسلوني إلى نهلال، أما بيريس فقد أرسِل إلى بن شيمن. كان بيريس رجلا متفائلا، وبقيت أنا متفائلا أيضا. كنا ناشطَين طيلة أيام حياتنا. ولكن هنا ينتهي التشابه تماما. وصلتُ إلى البلاد من ألمانيا. كنا فيها أغنياء. ولكن خسرنا في البلاد كل أموالنا سريعا، فعشت حياة فقر مُدقع. أما بيريس فقد وصل إلى البلاد من بولندا. كانت أسرته ثرية في البلاد أيضًا. وما زالت اللهجة الألمانية بارزة لديَ في إسرائيل أيضا. وفي المقابل، كانت اللهجة البولندية الثقيلة بارزة في حديث بيريس. كان يبدو للجميع أنّها لكنة يديشية، ولكن عندما سألته مرة، نفى بيريس ذلك بشدّة. "لم يتحدث أفراد أسرتي اليديشية"! قال حازما. في تلك الأيام كانت اللغة اليديشية مكروهة في البلاد بشكل خاصّ. كان بيرييس، منذ طفولته، يتميّز بشيء ما جذب إليه خصومة أبناء جيله. كان أصدقاؤه في المدرسة اليهودية في بولندا يضربونه.. لذلك اعتاد أخوه جيجي، الذي كان أصغر منه، أن يدافع عنه. كما قال جيجي لاحقا، كان شمعون يسأله: "لماذا يكرهونني؟" ربما جعله ذلك التعامل يتوق إلى محبّة الناس، تقديرهم، وإعجابهم. كان لا يزال يُدعى بيرسكي في بن شيمن. ولكن نصحه أحد المعلّمين أن يُعبْرِنَ الاسم، كما فعل جميعنا تقريبا. فاقترح عليه اسم "بن آموص"، وهو اسم يشعيا النبي، ولكن شخصا اسمه موسيا تهيليمزعجر ("قارئ المزامير") سبق واستخدم هذه التسمية وكان اسمه دان بن آموص. ثم اقترح عليه المعلِّم اسم "بيريس"، بمعنى النسر وهو أحد الطيور الجارحة. وفقا لإحدى القصص شاهد شمعون بيريس هذا الطير عندما كان في رحلة في النقب فاستجاب للاقتراح. التقيت بيريس للمرة الأولى عندما كنّا في الثلاثين من العمر. كان قد أصبح في ذلك الحين مديرا عامّا لوزارة الدفاع. وكنت حينها مالك صحيفة "هعولام هازيه" ومحررها الرئيسي، وهي صحيفة أسبوعية أثارت ضجة في البلاد. دعاني بيريس إلى وزارة الدفاع طالبا مني التخلي عن نشر مقال مُعيّن. كان اللقاء بمثابة قصة لا حبّ من النظرة الأولى. فلم يكن يحبّني، ولم أحبّه أيضا. بل كانت علاقتنا واضحة قبل هذا اللقاء. عام 1948 كنت جنديا مقاتلا. كره جميعنا، نحن الجنود المقاتلون في تلك الحرب، أبناء جيلنا الذين لم يتجنّدوا وعاشوا حياتهم العادية، في الوقت الذي قُتل فيه الكثير جدا من أصدقائنا. كان شمعون بيريس من بين هؤلاء الذين لم يتجندوا. لقد أُرسله دافيد بن غوريون لشراء سلاح من خارج البلاد. كان ذلك عملا مهمّا، ولكن كان يمكن أن يؤدي شخص في سنّ الستين هذا الدور بنجاح أيضا. لذلك خيمت وصمة عار على بيريس طيلة سنوات. فقد احتقره أبناء جيلنا، الذين أحبوا إسحاق رابين، يغئال ألون، وأصدقاءهما. كتب حاييم حيفر، شاعر أغاني البلماح (اختصار "فلوجوت ماحتس" أي سرايا الصاعقة)، عن بيريس قصيدة باسم "كيف حدث وتحرك البرغوث نحو الأعلى". كان شمعون بيريس سياسيا منذ الولادة، سياسيا حقيقيا فقط. بدأ ذلك فعليا في بن شيمن، قرية الشبيبة المزارعة. كما أشار جدعون ليفي في مقال رائع، وقال إن بيريس عاش فيها بصفته "من مواليد الخارج"، فتى "من المنفى"، كان شابا مختلفا عن جميع مواليد البلاد السُمْر والمحصّنين الذين حوله. لم يحبّه الشبان أيضا لأنّه لم يكن جميلا وبسبب لكنته أيضا. ورغم ذلك فقد غزا قلب سونيا، ابنة معلّم النجارة، وتزوّجها. كان يتمنى كثيرا أن يحظى بالتقدير، المحبّة، وأن يستطيع أن ينضم إلى الشبان أبناء جيله. لذلك انضم إلى "الشبيبة العاملة"، وهي منظمة شبيبة تابعة للهستدروت، وبدأ نشاطه فيها جاهدا. بما أن مواليد البلاد لم يهتموا بممارسة النشاط السياسي، أصبح بيريس مرشدا. حدثت الفرصة السياسية الأولى لبيريس بعد أن أنهى تعليمه في بن شيمن وانضم إلى كيبوتس. في تلك الفترة حدث انقسام في مباي، وهو حزب عمال أرض إسرائيل، الذي كان يسيطر على الاستيطان العبري من دون حدود. انضم الجيل الشاب إلى "القائمة ب" المعارضة. كان بيريس تقريبا الوحيد من بين النشطاء الذي ظلّ وفيّا لحزب مباي، فنجح في جذب انتباه المراقب الحزبي، ليفي شكولنيك، الذي عُرف لاحقا باسم ليفي أشكول. كانت خطوة بيريس هذه خطوة سياسية لامعة. لقد احتقره أصدقاؤه، ولكنه نجح في أن يكون قريبا جدا من زعماء الاستيطان. أرسله أشكول إلى دافيد بن غوريون، وعندما اندلعت حرب 1948 أرسله بن غوريون إلى أمريكا لشراء السلاح. منذ ذلك الحين أصبح بيريس اليد اليُمنى لبن غوريون، فأعجِب به وحذا حذوه - وبشكل أساسي كان يعمل تحت إمرته، خليفا لنهجه. في مراسم التأبين وُصف بيريس أنّه "آخر جيل مؤسسي الدولة". كان ذلك هراء محض. لقد أقام الدولة جنود حرب عام 1948، القتلى، الجرحى، وآخرون. لقد أقيمت في ميادين القتال في كيبوتس نجبا واللطرون، وليس في مكتب ما في تل أبيب. صاغ بن غوريون وبقية السياسيين في تل أبيب شكلها، ولم يكن أفضل شكل تحديدا. كان بيريس حينذاك مجرّد ناشط صغير. فرض دافيد بن غوريون رؤيته للدولة الجديدة، وحتى اليوم تدار الدولة بناء عليها. كان شمعون بيريس أحد مطبّقيها الأساسيين. لم يؤمن بن غوريون بالسلام مع العرب. كان يعتقد أنّ العرب لن يحققوا السلام أبدا مع "الدولة اليهودية"، وأنّ السلام ممكن فقط بعد مرور أجيال كثيرة، إذا كان ممكنا أصلا. لذلك بحثت إسرائيل عن حليف غربي قوي. كان يمكن أن يكون الحليف من بين الدول الكولنيالية فقط، التي كانت تخشى من القوميّة العربية الصاعدة. كانت الفكرة حلقة مفرغة: من أجل حماية نفسها من العرب تحتاج إسرائيل إلى دولة كولنيالية معادية لهم، ومن شأن العلاقة بالدولة الكولنيالية أن تزيد من كراهية العرب لها، وهلمّ جرا. وتجدر الإشارة أنها ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. خيّبت الحليفة الأولى، بريطانيا، التي أعطت اليهود وعد بلفور، الآمال عندما احتضنت القومية العربية. ولكن ظهرت حليفة مثالية أخرى في اللحظة الصحيحة تماما: فرنسا. كانت لدى فرنسا إمبراطورية عظيمة في شمال إفريقيا. عام 1954 اندلعت حرب التحرير الجزائرية، لتحرير الجزائر التي كانت بشكلٍ رسميّ "جزءًا من فرنسا". ودارت الحرب بين البلدين بوحشية رهيبة. بحثت فرنسا يائسة عن حليف. لم تكن أية دولة مستعدة لدعمها في "الحرب القذرة" - باستثناء دولة واحدة: دولة إسرائيل. خاف بن غوريون كثيرا من القائد المصري الجديد، جمال عبد الناصر، الذي وحّد كل الحركة القومية العربية. لا يدور الحديث عن أفندي عربي آخر عجوز، من جيل بن غوريون، وإنما عن قائد عربي من نوع جديد، شاب، حيوي، كاريزمي. لقد دعم "ناصر"، من بين أمور أخرى، مقاتلي التحرير الجزائريين. ردا على ذلك طلبت فرنسا من الحكومة الإسرائيلية المساعدة، فاستجابت الأخيرة بسرور. عملت الحلقة المفرغة جيدا: دعمت إسرائيل حكومة القمع الفرنسية، فزاد هذا الدعم من كراهية العالم العربي كله لإسرائيل، فاضطرت إسرائيل إلى زيادة علاقاتها مع الظالمين. لقد حذرتُ حينذاك من ذلك التحالف الكارثي عبثا. عندما صعد عبد الناصر إلى الحكم في مصر أعرب عن استعداده للتفاوض مع إسرائيل. دعا ضابطا إسرائيليا كبيرا، يروحام كوهين، لزيارة سرية إلى القاهرة. ولكن منعه موشيه شاريت من السفر. أعتقد أنه قد ضاعت حينها فرصة تاريخية. فقد فعلت إسرائيل العكس. كان شمعون بيريس الشاب مبعوث بن غوريون إلى فرنسا. ورغم أنه لم يتقن الحديث بالفرنسية وكان يرتدي بدلة زرقاء غير ملائمة، أصبح معروفا في باريس. بفضل مساعدته، وصل التحالف إلى أبعاد قبيحة لا يمكن وصفها. على سبيل المثال: ناقشت الأمم المتحدة طلب تخفيف ظروف السجن للقائد الجزائري الأسير، أحمد بن بلة. لقد أيدت ذلك الطلب كل الدول. أما إسرائيل فكانت الوحيدة التي صوّتت ضده. (قاطعت فرنسا نفسها الجلسة). كانت أبرز نقاط هذا التحالف غير المقدس هو العدوان الثلاثي الذي شنته فرنسا، بريطانيا وإسرائيل على مصر في "عملية قادش". أثارت العملية غضبا عالميا هائلا، واتفقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ضدّها وأدانتاها بشدّة. فأجبِرَت القوى الثلاث على الانسحاب. واضطرت إسرائيل إلى التنازل عن كل شبه جزيرة سيناء التي احتلتها. في تلك الأيام أسستُ "المجلس الإسرائيلي لأجل الجزائر حرة" والتقيتُ بزعماء حركة التحرير الجزائرية، الذين كانوا يرغبون في أن يبقى يهود الجزائر في بلادهم بعد التحرير. في فرنسا عاد شارل ديغول الأسطوري إلى الحكم. لقد أدرك أنّ على فرنسا تحرير الجزائر. استمر بيريس بالإبحار في الثناء على فرنسا وقرر أنّ تحالفنا مع فرنسا غير مؤسس على المصالح، وإنما على القيم العميقة. (نشرتُ خطابه حينذاك، وأضفتُ لكل جملة تعليقا. توقعتُ أنّه في اللحظة التي ستنتهي فيها الحرب في الجزائر، سترسل فرنسا إسرائيل إلى الجحيم لاستعادة مكانتها في العالم الإسلامي. وهذا، بطبيعة الحال، ما حدث). قبل أن يغادر الفرنسيون الجزائر، أقام المستوطنون الفرنسيون هناك حركة سرية عملت ضدّ مقاتلي التحرير الجزائريين وضدّ ديغول. في أحد الأيام أمسِك في عرض البحر بسفينة مليئة بالسلاح. اتضح أنها سفينة إسرائيلية كانت تنقل السلاح للمستوطنين المتمردين. شكّ الجميع ببيريس. فاشتد غضب وزيرة الخارجية جولدا مائير، التي كانت تكرهه. في تلك السنوات وفرت وزارة الدفاع بقيادة بيريس السلاح بسخاء لأقذر الطغاة في العالم. كان المفاعِل في ديمونا إحدى ثمار التحالف مع فرنسا. تجذّر في البلاد الاعتقاد أنّ شمعون بيريس هو "أبو المفاعل". وهذا أيضًا هراء. والحقيقة هي أنّ المفاعِل كان جزءا من الصفقة بين إسرائيل وفرنسا، مقابل الخدمة العظيمة التي قدمتها إسرائيل لفرنسا في عملية "قادش". وكان يهدف إلى تشجيع الصناعة الفرنسية أيضًا. وفر مبعوثو الحكومة الإسرائيلية المواد المطلوبة من أجل تصنيع قنبلة ذرية في أماكن مختلفة في العالم عبر الاحتيال والسرقة. عموما، خسرت إسرائيل من كل تلك العلاقة مع فرنسا. وأصبحت الفجوة بينها وبين العالم العربي هوّة كبيرة. (خلافا لمعظم أصدقائي، لم أعارض إقامة المفاعِل. منحت القنبلة للإسرائيليين وعيا أمنيا كان يمكن استخدامه من أجل السلام. لم أشجب بيريس على دوره في هذه المفاعل أبدا). كانت حياته تشبه قصة سيزيف من الأسطورة اليونانيّة القديمة، الشخص الذي حكمت عليه الآلهة أنّ يحمل صخرة ثقيلة من أسفل الجبل حتى أعلاه. وفي كل مرة كان يقترب فيها سيزيف من القمة كانت تتدرحج الصخرة نحو الأسفل. بعد حرب العدوان الثلاثي سطع نجم بيريس أكثر فأكثر. فعُين مُهندسا للعلاقات مع فرنسا، وحصل على المُفاعِل النووي، ليشغل منصب نائب وزير الدفاع، وكان على وشك أن يتولى منصبا هاما في الحكومة - عندما انهار كل شيء فجأة. أطيحَ ببن غوريون من السلطة في أعقاب "فضيحة لافون"، فقرر إقامة حزب جديد باسم رافي. لم يتحمّس بيريس وموشيه ديان للفكرة أبدا، ولكن لم يكن أمامهما مناص. لقد كان بن غوريون مُسيطرا عليهما. لم يكن بن غوريون ناشطا في إقامة حزب "رافي"، ولم يفعل ديان كعادته شيئا. كان شمعون بيريس مجتهدا وعمل دون كلل. لقد تنقل في البلاد كثيرا، ووصل إلى كل مكان. ولكن النتيجة كانت مخيّبة للآمال: فاز حزب رافي، برئاسة "العجوز" الأسطوري، ذي المجموعة المتنوعة من الأسماء المتألقة، بـ 10 مقاعد فقط وبقي في المعارضة، عاجزا. مرة أخرى تدحرجت الصخرة إلى الأسفل. وحينها جاء الخلاص من جهة غير متوقعة. جمع عبد الناصر جيشه في سيناء. فساد في إسرائيل ذعر، وانضم حزب رافي إلى حكومة الطوارئ. ولكن وزارة الدفاع المنشودة لم تُعطَ لبيريس، الفاقد للكاريزما، وإنما لموشيه ديان البرّاق، ذي عصابة العين السوداء، الذي أصبح بطلا قوميا وعالميا. أصبح بيريس وزيرا ثانويا. عندما انضم حزب رافي إلى مباي التقيت بيريس في جلسة الهيئة العامة للكنيست وسألته عن رأيه حول حزبه الجديد-القديم. "ستجد الإجابة في النكتة التالية" كما قال، "تزوج أحد الرجال وسأله أصدقاؤه ما رأيك في زوجتك الجديدة. إنها مسألة ذوق، أجاب الرجل، إنها لا تعجبني". على مدى السنوات الست التالية لم يكن بيريس لامعا. وحينها اندلعت حرب يوم الغفران، فانهارت مكانة ديان، واشتعلت في البلاد احتجاجات واسعة، وفي النهاية اضطرّت جولدا مائير وموشيه ديان إلى أن يستقيلا. مَن الذي كان سيخلف جولدا بصفته رئيسا للحكومة القادمة؟ لقد أشار الجميع إلى بيريس. لم يكن مسؤولا عن كارثة يوم الغفران، كان رجل أمن، شابا وواعدا. اقتربت الصخرة أخيرا إلى القمة. وحينها حدث أمر لا يُصدّق: فجأة أصبح إسحاق رابين رئيسا للحكومة، وليس بيريس كما كان متوقع. أصبحت علاقة الكراهية بين الزعيمين، التي بدأت في حرب 1948، علاقة ذات عداوة. ولكن بخلاف رغبته اضطر رابين إلى تعيين بيريس وزيرا للدفاع، وبدأت بينهما حرب يأجوج ومأجوج. بصفته وزيرا للدفاع وحاكما للأراضي المحتلة فعل بيريس كل شيء كي يُفشل رئيس الحكومة، وفي الوقت ذاته فرح رابين بكل فشل يلحق بوزير دفاعه. أعلن بيريس مرة عن انتخابات في مدن الضفة، انطلاقا من هدف سيطرة كبار السن المحترمين عليها. جاءت النتيجة معاكسة: في كل مكان انتُخِب أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، كانت معروفة بصفتها "منظمة إرهابية" محظورة. في اليوم التالي دعيتُ إلى مكتب رابين. فوجدته يحتفل تماما. عمل أتباع بيريس، وعلى رأسهم الناطق باسمه، نهارا وليلا من أجل الإضرار برابين، تحديه وإغضابه. (في "هعولام هازيه" سمينا هذه المجموعة "يونايتيد بيريس"، على اسم وكالة الأنباء الأمريكية المعروفة. وسمينا الرجل نفسه "شمعون للإعلان"). في مثل هذا الواقع فعل بيريس الشيء الأكثر خزيا في حياته، فعلا تاريخيا لا يُغتفر. حتى ذلك الحين أقيمت مستوطنات قليلة في هوامش الأراضي المحتلة. لقد أقام بيريس المستوطنات الأولى في قلب الضفة الغربية، وأصبح بذلك أبا مؤسسا للكارثة الأكبر منذ قيام الدولة. لقد رثاه زعماء المستوطِنين يوم وفاته. لم يكن ذلك صدفة. منذ اليوم التالي للاحتلال، عندما دعوتُ إلى إقامة دولة فلسطين فورا، كان بيريس مقرّبا من مؤسسي حركة "أرض إسرائيل الكبرى". ولكن عندما أقام المستوطنات لم يعمل وفق أي مبدأ. عمل من أجل تقويض مكانة رابين البغيض فحسب. أدرك رابين ذلك أيضًا. لقد اعتمد ذكر إحدى تعبيراته اللاذعة: "مخرّب لا يعرف الكلل"، وهو الوصف الذي التصق ببيريس على مدى سنوات طويلة. عام 1976 تقرر تنفيذ عملية معقّدة في مطار إنتيبي في أوغندا، لتحرير مئات الرهائن الإسرائيليين. نجحت العملية الجريئة، وحظيت بالمجد. يدعي أنصار بيريس أنّ وزير الدفاع هو الذي اقترح تنفيذ العملية وأقنع رئيس الحكومة بها. ويدعي أنصار رابين أنّ رابين هو الزعيم الذي اتخذ القرار الشجاع وتحمّل المسؤولية. يلقي ذلك الضوء على حقيقة مهمة في حياة بيريس: لقد حقق إنجازات عندما شغل منصبا ثانويا. ففي أيام التآمر مع فرنسا عمل زعيما ثانويا مع بن غوريون، وعمل في عملية إنتيبي زعيما ثانويا مع رابين، وهكذا أيضًا في اتفاق أوسلو. بعد فترة قصيرة من ذلك اضطر رابين إلى الدعوة لانتخابات مبكّرة، لأنّ مجموعة من الطائرات من الولايات المتحدة قدمت إلى إسرائيل عشية يوم السبت، ولم يكن المدعوون يستطيعون الوصول إلى البيت قبل دخول العيد. أسقط المتديّنون الحكومة. فترأس رابين، بطبيعة الحال، مجددا قائمة حزب العمل. وحينها حدث شيء ما. مع انتهاء شغل منصبه كسفير لإسرائيل في واشنطن ترك رابين خلفه حسابا بنكيا، وهو أمر كان محظورا في ذلك الوقت. اتُهمَت ليئا رابين. كرجل حقيقي تحمّل إسحاق المسؤولية واستقال. أصبح بيريس الزعيم الأول وأخيرا اقتربت الصخرة إلى القمة. عشية الانتخابات كان بيريس يحتفل بفوزه - وحينها، في منتصف الليل، حدث شيء لا يصدّق: فاز مناحم بيجن، الذي اعتبره الكثيرون فاشيا. مرة أخرى تدحرجت الصخرة إلى الأسفل. عشية حرب لبنان الأولى (التي التقيتُ خلالها ياسر عرفات) اقترح زعيما المعارضة، رابين وبيريس، على بيجن أن يغزو لبنان. انتهت الحرب بمجزرة صبرا وشاتيلا، أصيب بيجن بالاكتئاب واستقال، فشغل منصبه إسحاق شمير. بدأت فترة انتقالية، لم يستطع فيها أي من الحزبين الكبيرين السيطرة من دون الحزب الآخر. فأنْجِز اتفاق تناوب. عندما تولى بيريس منصب رئيس الحكومة حقق أحد الإنجازات الإيجابية الكبرى في حياته: قضى على تضخّم من ثلاث خانات وقاد الشاقل الجديد. ارتفعت الصخرة مجددا إلى أعلى الجبل، وحينها حدث شيء قبيح. اختطف أربعة شبان عرب حافلة مليئة بالركاب اليهود وسافروا جنوبا. لدى مداهمة الحافلة قُتل اثنان من الخاطفين. أعلن البيان الرسمي أنّ الأربعة جميعهم قُتلوا في المداهمة. نشرتُ صورة (لعنات سرغوستي، مصورة "هعولام هازيه") وظهر فيها بوضوح أنّه تم اقتياد اثنان من الخاطفين من المكان وهم على قيد الحياة. اتضح لاحقا أنّهما قُتلا بدم بارد. خلال تلك الفضيحة خلَفَ بيريس شمير. قام بالعفو عن القتلة، ومن بينهم رئيس الشاباك. عندما عاد رابين إلى الحكم، عُيّن بيريس وزيرا للخارجية. في أحد الأيام علمتُ أنّ بيريس يسعى إلى لقائي. وكان هذا غير عادي، لأن العداوة التي كانت بيننا غدت جزءا من الفلوكلور السياسي. على مدى ساعة كاملة تحدث معي بيريس عن الحاجة إلى تحقيق سلام مع منظمة التحرير الفلسطينية. لأنّ ذلك كان موضوعا رئيسيا في حياتي على مدى سنوات طويلة، وغريبا. تمالكت نفسي بصعوبة لئلا أنفجر ضاحكا. حينها كشف لي بيريس سرا عن المفاوضات التي جرت في أوسلو وطلب مساعدتي على إقناع رابين. ساهم بيريس فعلا بدوره في تحقيق الاتّفاق، لم يتخذ رابين القرار المصيري – ولكن دفع حياته ثمنا. يراودني المشهد كيف ينتظر القاتل رابين على مشارف الدرج بينما يمسك مسدّسا مُلقما بيده. أتاح لبيريس أن يمر على بضع خطوات منه، ولكنه انتظر رابين، الذي نزل بعد بضع دقائق. قبل ذلك قررت لجنة جائزة نوبل مَنْح جائزة السلام لعرفات ورابين. أثار أصدقاء بيريس في العالم صخبا، حتى تقرر مَنْح الجائزة لبيريس أيضًا. وفقا للمنطق كان يجب أن تُمنح الجائزة أيضًا لأبي مازن، الذي وقع الاتفاق مع بيريس، ولكن لائحة الجائزة تسمح بثلاثة فائزين فقط. لم يحظَ أبو مازن بالجائزة. بعد وفاة رابين ورث شمعون بيريس مؤقتا رئاسة الحكومة. لو أعلن فورا عن إجراء انتخابات، كان سيحقق فوزا عظيما. ولكن بيريس لم يرغب في الفوز بفضل رابين، وإنما بفضل ذاته. أرجأ الانتخابات لأشهر قليلة. كانت تلك الفرصة الكبرى في حياته. أخيرا أصبح رئيسا للحكومة، حرّا في اتخاذ القرارات. وكانت تلك كارثة. في البداية أصدر أوامر لقتل "المهندس"، وهو بطل قومي فلسطيني. كرد فعل بدأت عمليات تفجير في الحافلات في أرجاء البلاد. بعد ذلك غزا لبنان، وانتهى ذلك بمجزرة جماعية في ساحة الأمم المتحدة في قرية قانا. فاز بنيامين نتنياهو في الانتخابات. (عندها بدأت بسرد إحدى نكاتي: "إذا كان بالإمكان الخسارة في الانتخابات، فإنّ بيريس سيخسر. إن لم يكن بالإمكان الخسارة في الانتخابات، فحينها سيخسر بيريس أيضًا"). لم أكره بيريس أبدا. أعتقد أنّه لم يكرهني أيضًا. كانت الخصومة بيننا خصومة سياسية "نقية". أحيانا، كنا نلتقي صدفة تقريبًا. في إحدى المرات دعا الفائز الكبير زوبين ميهتا زوجتي وأنا لتناوُل وجبة عشاء في شقته. عندما وصلنا، اكتشفنا لدهشتنا أنّه قد دعا الزوجن شمعون وسونيا بيريس فقط. كانت تلك أمسية مثيرة للاهتمام. ظهر لي بيريس كرجل حوار مسلٍّ جدّا، فكاهي ماكر. لقد وصف لنا بشكل مفصّل جلسة للحكومة، وهو ينتقل من وزير لآخر: حاييم بارليف ينظّف خلال الجلسة أظافر يديه، وهلمّ جرا. كانت إحدى الأساطير التي اهتمّ بنشرها بجدية هي أنّه كان شخصية مثقّفة. رثته صحيفة أمريكية مهمة باعتباره "السياسي الفيلسوف". والحقيقة أنه لم يقرأ كتبا على الإطلاق. كما كشف مساعده، بوعاز أفلباوم، فقد فرض عليه بيريس أن يعدّ من أجله مختصرا لكتب، مع إضافة فقرة أو اثنتين منها، وبهذه الطريقة كان باستطاعة بيريس أن يتحدث بمعرفة عن الكتب في لقاءاته، بل وأن يقتبس منها - وهو الأمر الذي أثار انطباعا كبيرا لدى محاوريه. هناك تأكيد على هذا الكلام بحقيقة بسيطة: عندما يقرأ إنسان الكتب، ينعكس الأمر في خطاباته بطريقة أو بأخرى. ولكن لم يتجسد ذلك في خطابات بيريس. كانت جميع خطاباته خطابات سياسية، جافّة، وسطحية. (لا يوجد سياسي ناشط لديه وقت لقراءة الكتب. تنكّر بن غوريون في شخصية مثقّفة، كباحث في الكتاب المقدس وكمجدّد اللغة العبريّة. قال إنّه تعلّم الإسبانية من أجل قراءة رواية "دون كيخوتي" بصيغتها الإسبانية الأصلية. ولكن بن غوريون أيضًا لم يكن سوى سياسي - سياسي عبقري، وليس مجرّد سياسي). كانت صياغة عبارات بارعة، بدت في ظاهرها كحِكَم عميقة من إحدى المواهب الحقيقية لدى بيريس. عبارات مثل "الشرق الأوسط الجديد"، التي كانت فارغة من أي مضمون، أو "الرأسمالية الخنزيرية"، وهي عبارة لم تشكل عائقا أمامه لإقامة صداقة مع الرأسمالية العالمية. في كل المعارك الانتخابية شُتِم بيريس وأسيء إليه. اشتكى مرة من "العدد الكبير للحركات الشرقية"، الأمر الذي زاد من كراهية الجمهور الشرقي تجاهه. في تلك الفترة قام بيريس بفعل حكيم: خضع لجراحة تجميلية حسّنت كثيرا من مظهر وجهه. ولكن ذلك لم يساعده على الفوز في الانتخابات - هناك حقيقة مذهلة وهي أن هذا الرجل، الذي كانت كل حياته مكرّسة للسياسة، لم يفز في الانتخابات أبدا. كان الحرج الأخير لبيريس عندما ترشح لمنصب رئيس الدولة. اختار الكنيست بدلا منه موشيه كتساف، وهو ناشط غير هام في الليكود. كانت تلك إهانة لاذعة. كان يبدو أنّ بيريس أنهى بذلك سيرته المهنية. فبقيت الصخرة في الأسفل. ولكن مجدّدا حدث أمر لا يُصدّق: أدين كتساف بالاغتصاب. في نوبة من الندم، اختار الكنيست بيريس رئيسا للدولة. أخيرا وصلت الصخرة إلى أعلى الجبل. أصبح الشخص الذي لا يكلّ بين عشية وضحاها محبوب الشعب. وقف الجمهور، الذي ألقى عليه في الماضي طماطم فاسدة، في كل مكان في الطابور من أجل معانقته. حظي بسنوات قليلة من السعادة. لقد تمتع بالمنصب وبمحبة الشعب. خدم بيريس حكومة نتنياهو كرئيس، حكومة الاحتلال، وكان بالنسبة لها بمثابة ورقة التوت. باستثناء الحديث إلى ما لا نهاية عن السلام المنشود، لم يفعل شيئا من أجل تعزيز السلام. مكّنته صدارته الوطنية والدولية من أن يقوم بأفعال كبيرة. ولكنه لم يفعل شيئا. كانت جنازته حدثا وطنيا ودوليا من الدرجة الأولى. تُوّج بيريس بصفته أحد عظماء الجيل في العالم، رجل السلام الأساسي، أحد مؤسسي دولة إسرائيل، مثقفا كبيرا. كان بإمكانه أن يصبح بطلا في مسرحية شكسبير. لقد دُفن سيزيف. ولكن صخرته ارتاحت في أعلى الجبل. |