اوري افنيري 

حرب أهلية؟ / أوري أفنيري


يطرأ تغيير غريب على رؤساء الشاباك عندما ينهون شغل منصبهم.

يُشكّل جهاز الشاباك الدعامة الأساسية للاحتلال الإسرائيلي. الإسرائيليون (اليهود) معجبون به، ولكن الفلسطينيين يخافون منه. تحترمه الأجهزة الأمنية في العالم. لم يكن بإمكان الاحتلال الاستمرار من دونه.

وهناك مفارقة: في اللحظة التي ينهي فيها رؤساء الشاباك خدمتهم، يبدأون بالتحدّث عن السلام. كيف يحدث هذا التغيير؟

هناك تفسير منطقي لهذا السؤال تحديدا. أعضاء الشاباك هم الجزء الوحيد من المؤسسة الذين على اتصال يومي، حقيقي، ومباشر مع الواقع الفلسطيني. إنهم يحقّقون مع الفلسطينيين، يعذّبونهم، يحاولون جعلهم مُخبِّرين. كما ويجمعون منهم المعلومات، يخترقون المناطق الأبعد في المجتمَع الفلسطيني. وهم يعرفون معلومات عن الفلسطينيين أكثر من أية جهة أخرى في إسرائيل (وربما في فلسطين أيضًا).

يفكّر الأذكياء من بينهم بالمعلومات التي تصل إليهم. ويتوصّلون إلى استنتاجات لا يستطيع الكثير من السياسيين تصوّرها: نحن نواجه قومية فلسطينية، صامدة ولن تختفي، ويريد الفلسطينيون دولة خاصة بهم، والحل الوحيد للصراع هو إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل.

إذا، نحن نشهد ظاهرة غريبة: عندما ينهي مسؤولو الشاباك خدمتهم، يصبحون - واحدا تلوَ الآخر – يبدأون بدعم "حلّ الدولتين".

تحدث الظاهرة ذاتها مع مسؤولي الموساد. إنهم على صراع مع العرب بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص. ولكن في اللحظة التي ينهون فيها وظيفتهم يتحوّلون هم أيضًا إلى دعاة لـ "حلّ الدولتَين"، على العكس تماما من سياسة رئيس الحكومة ووزراء حكومته.

الأشخاص الذين يخدمون في الأجهزة السرية هم، بطبيعة الحال، سريّون. جميعهم فيما عدا رؤساء تلك الأجهزة.

(هذا ما توصلت إليه. عندما كنت عضوا في الكنيست قدّمت مشروع قانون يفرض نشر أسماء رؤساء الأجهزة علنًا. وبالطبع رُفض مشروعي، كسائر مشاريع القوانين التي قّدّمتها. ولكن في اليوم التالي قرر رئيس الحكومة - يبدو لي أنّه كان إسحاق رابين - أنّه ستُنشر فعلا قائمة بأسماء رؤساء تلك الأجهزة.

قبل مدة قصيرة عُرِض فيلم وثائقي في التلفزيون بعنوان "حرّاس البوابة" (The Gatekeepers)، وقد ظهر فيه جميع رؤساء الشاباك والموساد السابقين والذين ما زالوا أحياء. وقد سُئلوا عن رأيهم حول الحلول للصراع.

عبّر جميعهم بطريقة أو بأخرى عن تأييدهم لصنع السلام الذي يستند إلى "حل الدولتين". إنهم يعتقدون أنه لا يمكن تحقيق سلام من دون أن يحظى الفلسطينيون بإقامة دولة خاصة بهم.

في تلك الفترة كان تامير باردو لا يزال رئيسا للموساد ولم يكن يستطيع التعبير عن رأيه. ولكن منذ بداية عام 2016 لم يعد باردو يُشغل منصبا هاما. وقد تحدث هذا الأسبوع علنًا للمرة الأولى.

وكما يدلّ اسمه، فإنّ باردو من أصول إسبانيا. وُلد قبل 63 عاما في القدس. جاءت أسرته من تركيا، والتي وجد فيها الكثير من اليهود ملجأ في فترة الطرد من إسبانيا قبل 525 عاما. وبناء على ذلك لا ينتمي باردو إلى "النخبة الشكنازية" المكروهة من قبل الجمهور الشرقي.

تضمن كلامه تحذيرا خطيرا: تقترب إسرائيل بسرعة إلى شن حرب أهلية. لم نصل إلى هناك بعد، كما قال، ولكننا نقترب إلى تلك اللحظة بسرعة.

يعتقد باردو أن هذا هو التهديد الرئيسي الذي يهدّد إسرائيل الآن. أكثر من ذلك: التهديد الوحيد الذي يهدّدها الآن. أي أنّ الشخص الذي كان منذ مدة قريبة رئيسا للموساد لا يرى أي خطر عسكري يهدد إسرائيل - لا من جهة إيران ولا من داعش أو أية جهة أخرى. وهو بذلك يناقض تماما ادعاء بنيامين نتنياهو، أنّ إسرائيل محاطة بالأعداء الخطيرين الذين يهدّدون وجودها.

ولكن باردو يرى تهديدا أكبر بكثير: الصدع داخل المجتمَع الإسرائيلي نفسه. نعم، لا نخوض حربًا أهلية بعد. ولكنها أصبحت وشيكة.

مَن ستكون الجهات المتنازعة في الحرب الأهلية؟ الإجابة العادية هي: "اليمين" و "اليسار".

كما ذكرت في أكثر من مرة، لا يوجد لمصطلحَي "اليمين" و "اليسار" في إسرائيل ذات المعنى كما في بلدان العالم الأخرى. في إنجلترا، فرنسا والولايات المتحدة يعود الخلاف بين اليمين واليسار إلى مشاكل اقتصادية ومجتمعية. ولكن الحال يختلف في إسرائيل.

نحن نواجه أيضًا، بطبيعة الحال، مشاكل اقتصادية واجتماعية، وبوفرة. ولكن الخلاف بين "اليمين" و "اليسار" في بلادنا يتعلق تقريبًا فقط بأسئلة السلام والاحتلال. إذا كان هناك شخص يدعو إلى إنهاء الاحتلال وصنع السلام مع الفلسطينيين، فهو "يساري". أما إذا كان يطالب بضمّ الأراضي المحتلة وتوسيع المستوطنات، فهو "يميني".

ولكن يبدو لي أن باردو يقصد مشكلة أعمق من ذلك بكثير، من دون أن يقول ذلك بالفم الملآن: الصدع بين "الشكنازيين" و "الشرقيين". (المجتمع "الإسباني"، الذي ينتمي إليه باردو نفسه، يُنسب عادةً إلى "الشرقيين").

إنّ الحقيقة التي تجعل هذا الصدع خطيرا جدا، والتي تفسّر قلق باردو، هي أنّ معظم الشرقيين هم "يمينيون"، قوميون ومتديّنون معتدلون، في حين أن معظم الشكناز هم "يساريون"، دعاة للسلام والعلمانية. ولأنّ الشكناز هم في الغالب أيضًا ذوو حالة اقتصادية واجتماعية أفضل من الشرقيين، فإنّ ذلك يعمّق الفجوة أكثر.

عندما وُلد باردو (عام 1953)، أولئك الذين شعروا من بيننا بصدع آخذ بالتشكّل أصبحوا يأملون على أن تكون تلك المرحلة عابرة. حدثت مثل تلك الفجوات في جميع البلدات التي استوعبت الهجرات الجماعية. ظننّا أنّ "بوتقة الانصهار" ستفعل فعلها، وأنّ الزواج المختلط سيساعد هو أيضًا، وبعد جيل واحد أو اثنين ستختفي كل هذه المشكلة، كما لو أنها لم تكن.

في الواقع، ليس هذا ما حدث حقا. بل على العكس تماما. أخذ الصدع بالتوسّع بسرعة. وأخذت علامات الكراهية المتبادلة بالازدياد. إنها تملأ الخطاب العام. يؤسس السياسيون، وخصوصا في اليمين، سيرتهم المهنية على التحريض الحزبي، ويتفوق بنيامين نتنياهو على الجميع.

لم تنفع الزيجات المختلطة. عادة يختار أبناء وبنات الأزواج المختلطين إحدى المجموعتين، ويتحوّلون إلى متطرّفين جدّا للجهة التي اختاروها.

إحدى العلامات المضحكة (تقريبًا) هي أنّ اليمين، الذي في السلطة منذ عام 1977 (مع استراحات قصيرة) يتصرّف كأقلية مضطهدة ويتّهم "النخب القديمة" بكل مشاكله. هذا ليس سخيفا تماما، لأنّ أعضاء "النخب القديمة" ما زالوا قائمين في مراكز الاقتصاد، الإعلام، المحاكم، والفنون. العداوة المتبادلة آخذة بالتوسع. يمكن أن يكون باردو نفسه إثباتا على ذلك: فالتحذير الخطير الذي أصدره لم يثر أيّة عاصفة. لم ينتبهوا إليه تقريبًا. كان مجرد بند قصير في أخبار التلفزيون، خبر صغير في الصحيفة. وبهذا انتهى الأمر. لماذا التأثر؟

أحد الأعراض الذي كان يمكن أن يخيف باردو أكثر هو أنّ ذلك الصدع قد لحق بالجيش الإسرائيلي أيضًا، وهو الجهة الوحيدة الموحّدة في البلاد. وُلد الجيش قبل الدولة نفسها بفترة طويلة، منذ أيام الانتداب البريطانيّ. كان ذلك البلماح، الذي أقام في الكيبوتسات التي كانت جميعها تقريبا اشتراكية وشكنازية. بقيت من هذا الماضي آثار في الجيش اليوم، وخصوصا في المناصب العليا. معظم الألوية هم من الشكناز. يمكن لذلك أن يُفسر اليوم أيضًا، بعد 43 عاما من الحرب الحقيقية الأخيرة (يوم الغفران، 1973) وبعد 49 عاما من تحوّل الجيش الإسرائيلي بشكل أساسيّ إلى شرطة استعمارية، السبب وراء كون القيادة العليا أكثر اعتدالا من المؤسسة السياسية. ولكن من الرُّتَب الدنيا ينمو جيش آخر - جيش يعتمر الكثير من ضباطه القلنسوات. جيش ازداد عدد مجنّديه من عائلات مثل عائلة إليئور أزريا، والتي تربت في المؤسسة التعليمية القومية المتطرفة في البلاد. بعد شهرين من بدء المحاكمة العسكرية للجندي أزريا، وقبل شهرين من إصدار الحكم المتوقع، تستمر القضية في تمزيق الشعب إلى قطع. تعصف هذه المحاكمة بالبلاد يوما بعد يوم. تواجه القيادة العليا ظاهرة بدأت كتمرّد جماعي. يدعم وزير الدفاع الجديد، المستوطن أفيغدور ليبرمان، علنًا الجندي ضدّ رئيس الأركان. وبنيامين نتنياهو، جبان كما هو الحال دائما، يدعم الطرفين. لم تعد هذه المحاكمة منذ زمن تقتصر على مناقشة الجانب الأخلاقي والانضباطي في الجيش. أصبحت جزءًا من الصدع الذي يمزّق المجتمَع الإسرائيلي. وقد أصبحت صورة الجندي القاتل، ذي الوجه الطفولي، حين كانت أمه تجلس خلفه وتداعب رأسه، رمزا للحرب الأهلية التي تهدّدنا، الحرب التي يتحدث عنها باردو.

بدأ الكثير من الإسرائيليين يتحدثون عن "جمهورَين من اليهود"، وهناك من يدعي أنّ هناك "شعبين من اليهود" في إسرائيل. إذن فما الذين يربطهما معا؟ الصراع، بطبيعة الحال، الاحتلال، وحالة الحرب التي لا تنتهي. وجد يتسحاق فرانكنتل، وهو أب ثكِل يعرفه كل شخص أنه داعية السلام في البلاد، صيغة مفيدة. لم يُفرض الصراع على إسرائيل، كما يقول، وإنما على العكس: إسرائيل تحافظ وتعزز الصراع، لأنها بحاجة له للحفاظ على وجودها. يمكن لهذه الصيغة التي يقترحها فرانكنتل أن تفسّر الاحتلال الذي لا ينتهي. وهذا يلائم أيضًا نظرية باردو حول الحرب الأهلية الوشيكة. إنّ الصراع فحسب، والذي يُنشئ شعورا من الوحدة في الشعب، هو الذي يمكنه منع الحرب الأهلية. ومن هنا، يجب اختيار استمرار الصراع أو صنع السلام.