|
||
في وقت متأخر أكثر واجه أحد المغتالين، وهو قومي صربي متطرف اسمه غافريلو برينسيب، صدفةً ضحيته المنشودة. دخلت سيارة الدوق عن طريق الخطأ إلى الشارع الخطأ، وسارت نحو الوراء، لذلك علقت السيارة، وعندها أطلق برينسيب النار على الدوق فقتله. كانت تلك "الرصاصة التي تردّدت أصداؤها حول العالم". أدت هذه الحادثة الصغيرة إلى الحرب العالمية الأولى، التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية، واللتين قُتل فيهما معًا نحو 100 مليون إنسان. أنتجت هذه الحروب البلشفية، الفاشية، النازية، والكارثة. ولكن في حين أن أسماء لينين، ستالين، وهتلر ستُذكر مئات السنين، فإنّ اسم غافريلو برينسيب، الرجل الأكثر أهمية في القرن العشرين، قد نُسي. (لأنّ برينسيب كان في التاسعة عشرة فقط، لم يسمح القانون النمساوي بفرض عقوبة الإعدام عليه. أرسِل إلى السجن ولم ينتبه أحد إلى وفاته بمرض السلّ، خلال الحرب العالمية الأولى). بطريقة ما، فإنّ هذا الشخص غير المهم، بفعل هامشي قام به، بطلقة نار صنعت تاريخا عالميا، يذكّرني بشاب إسرائيلي غير مهم اسمه إليئور أزريا، والذي قد يغيّر وجه تاريخ دولة إسرائيل. حقائق القضية واضحة تماما. شابان فلسطينيان هاجما جنديا إسرائيليا في تل ارميدة، وهي مستوطنة يسكن فيها يهود متعصّبون في وسط الخليل. وقد أصيب الجندي بجراح طفيفة. فتم إطلاق النار على المهاجمَين، وعندها توفي أحدهما فورا، وأما الثاني فقد أصيب بجراح بالغة فاستلقى على الأرض، وهو ينزف دما. قام مواطن فلسطيني بتصوير الحادثة عبر إحدى الكاميرات الكثيرة التي وزعتها جمعية "بتسيلم" على السكان المحليين سابقا. ظهر في مقطع الفيديو فريق الإسعاف الإسرائيلي الذي يعالج الجندي الجريح، من خلال التجاهل التام للجريح العربي الذي يحتضر على الأرض. كان يقف بعض الجنود في موقع الحادثة، وتجاهلوا هم أيضًا الفلسطيني الجريح. بعد مرور نحو عشر دقائق يظهر الرقيب إليئور أزريا، وهو مُسعف. يقترب من الفلسطيني الجريح ويطلق النار على رأسه من مسافة صفر. وفقا لشهود عيان، فقد صرّح أزريا قائلا "إرهابي يجب أن يموت". فقط بعد مرور وقت، يبدو أنه وفقا لنصيحة محاميه، ادعى أزريا أنّه خشي أن يكون العربي الجريح حاملا على جسده عبوّة ناسفة وقد يقتل الجنود الذين كانوا واقفين في المكان. إنّ مقطع الفيديو، الذي يُظهر الجنود يقفون إلى جانب الجريح من دون أي خوف، يدحض هذا الادعاء. تم الحديث أيضًا عن سكين خفية، لم تظهر في بداية مقطع الفيديو، والتي كانت موضوعة قرب الجثّة في نهاية مقطع الفيديو. نُشر مقطع الفيديو في وسائل التواصل الاجتماعي ولم تكن هناك إمكانية لتجاهله. تمت محاكمة أزريا عسكريا وأصبح مركز عاصفة سياسية مستمرة حتى اليوم. عاصفة تقسّم الجيش، الشعب، الساحة السياسية، والدولة كلها. أودّ أن أضع هنا ملاحظة شخصية. لستُ ساذجا. في حرب عام 1948 كنت جنديا مقاتلا على مدى عشرة أشهر متتالية من القتال، حتى أصبتُ بجروح خطيرة. لقد شاهدت كل أنواع الأفعال الفظيعة. في نهاية الحرب كتبت كتابا تحت عنوان "الوجه الآخر للعملة"، ووصفتُ فيه تلك الأفعال، ولكن حُظر نشره. تزيد الحرب من تطرّف الخير والشرّ الذي يتميز به البشر، لقد شاهدت جرائم حرب نفّذها أشخاص أصبحوا، بعد الحرب، مواطنين جيّدين، لطفاء ومحافظين على القانون. إذا ما هو المميز جدا في إليئور أزريا، باستثناء حقيقة أنه تم تصويره خلال الحادثة؟ شاهدناه جميعنا وهو في المحكمة العسكرية خلال المحاكمة، التي لا تزال مستمرة. يظهر على شاشة التلفزيون جندي ذو نظرة طفل معتوه. كانت تجلس خلفه والدته وتلاطف رأسه طوال فترة المحاكمة. ويجلس والده بقربه وفي الاستراحات يصرخ على المدّعي العام العسكري. ما المميّز في هذه الحادثة؟ تحدث مثل هذه الأفعال في الأراضي المحتلة طوال الوقت، وإن لم يكن أمام الكاميرا. وخصوصا في الخليل، والتي يقطن فيها بضعة مئات من المستوطنين المتعصّبين بشكل خاصّ في وسط 160 ألف فلسطيني، معظمهم متديّنين ووطنيّين. الخليل هي إحدى أقدم المدن في العالم. مدينة كانت قائمة منذ فترة طويلة قبل عهد الكتاب المقدّس. يقع في وسط الخليل مبنى، والذي بحسب التراث اليهودي مدفون فيه آباء وأمهات الشعب اليهودي. يدحض علماء الآثار هذا الاعتقاد ويشيرون إلى مكان آخر. وفقا للمعتقد العربي فهذا في الأصل مسجد دُفن فيه شيوخ مبجّلون. منذ بداية الاحتلال يشكّل هذا الموقع في الخليل مركزا للصراعات العنيفة. الشارع الرئيسي مغلق أمام العرب ويخدم اليهود فقط. في نظر الجنود، الذين يتم إرسالهم إلى تلك المناطق لحماية المستوطِنين، فهذه المناطق هي جهنّم. يظهر في مقطع الفيديو أزريا بعد إطلاق النار فورا وهو يصافح بحرارة باروخ مارزل، ملك المستوطِنين في تل ارميدة. مارزل هو خليفة "الحاخام" مائير كاهانا، الذي سمته المحكمة العليا في إسرائيل "فاشيا". (دعا مارزل علنيا إلى قتلي). خلال المحاكمة اتضح أن مارزل يزور كل أسبوع ضباط وجنود القوة التي تحمي المستوطنة. معنى ذلك أن أزريا كان يتعرّض للأفكار الفاشية قبل حادثة القتل. ما الذي يجعل حادثة "الجندي مطلق النار" (كما سُمّي بلطف في الإعلام الإسرائيلي) نقطة تحوّل في تاريخ المشروع الصهيوني؟ كنت قد أشرت في مقال سابق إلى أنّ المجتمَع الإسرائيلي الآن ممزّق بين "قطاعات" مختلفة، وأنّ الفجوات بينها آخذة بالازدياد. يسكن فيها اليهود والعرب، الشرقيون والشكناز، العلمانيون والمتديّنون، الحاريديون والمتديّنون-القوميون، الذكور والإناث، الغيريّون والمثليون، القدماء والجدد (وخصوصا من روسيا)، الأغنياء والفقراء، وهناك مدينة تل أبيب و "الضواحي"، اليسار واليمين، سكان البلاد نفسها، والمستوطنون في الأراضي المحتلة. المؤسسة الوحيدة التي توحّد تقريبًا كل القطاعات - والمعادية في الغالب لبعضها البعض - هي الجيش. الجيش الإسرائيلي ليس مجرد قوة مقاتلة. إنه المكان الذي يلتقي فيه كل الشباب تقريبا (فيما عدا الحاريديين والعرب) ويجمعهم عامل مشترك. إنه "بوتقة الانصهار" الحقيقية، قدس الأقداس. ليس أكثر. تغيّر كل شيء مع ظهور الرقيب إليئور أزريا. ليس فقط أنه قتل فلسطينيا جريحا (والذي اسمه، بالمناسبة، عبد الفتاح الشريف). فهو أصاب الجيش الإسرائيلي بجروح خطيرة. منذ سنوات تجري جهود سرية من "المتديّنين-القوميين" لاحتلال الجيش من الرُّتب الصغيرة. كان هذا الوسط يوما ما مجموعة صغيرة مثيرة للازدراء. في تلك الفترة رفض معظم اليهود المتديّنين الصهيونية الدينية باشمئزاز. وفقا لمعتقدهم، فقد نفى الله الشعب اليهودي من البلاد بسبب ذنوبه، ويحق لله فقط أن يسمح بعودته. تخلى الصهاينة عن هذا الحقّ الإلهي، ولذا فهم آثمون بخطيئة فظيعة. عاش اليهود المتديّنون في أوروبا وتم القضاء عليهم في الكارثة. جاء جزء صغيرة إلى البلاد ويعيش الآن بعزلة في أحياء خاصة. في المقابل، نما وازده "المتدينون القوميون". بعد أن كانوا مجموعة صغيرة ومتواضعة أصبحوا قوة كبيرة وهائلة. يمنحهم معدّل الولادة الهائل لديهم - عادة تتكون الأسرة من 7-8 أبناء بشكل طبيعي - تفوّقا هائلا. عندما احتلّ الجيش الإسرائيلي القدس الشرقية والضفة الغربية، المليئتين بالأماكن المقدسة، أصبح المتديّنون-القوميون جمهورا حازما وواثقا من نفسه. زعيمهم الحالي، نفتالي بينيت، هو مبادر ناجح في التكنولوجيا الفائقة، وزير بارز، سياسي يتنافس بشكل مستمر، ومعاد لبنيامين نتنياهو. هناك منظومة تعليمية خاصة بالمتديّنين-القوميين، والتي تسمى بطريقة أو بأخرى الرسمية - الدينية. منذ عشرات السنين يستثمر هذا الحزب قوته في جهود عازمة لاحتلال الجيش من الأسفل. لديه مراحل تمهيدية ما قبل عسكرية تنتج ضباطا للمستقبل ذوي فاعلية عالية. إنهم يتسلّلون باستمرار في صفوف الضباط الصغار. رتب النقيب والرائد ممن يرتدون القلنسوة، والتي كانت نادرة يوما ما، آخذة بالازدياد. والآن كل ذلك ينفجر. قضية أزريا تقسّم الجيش من أساسه. لا تزال القيادة العليا مؤلّفة في غالبيّتها من القدماء، المعتدلين (نسبيًّا). لقد قدّمت أزريا للمحاكمة. إنّ قتل جريح هو انتهاك خطير لأوامر إطلاق النار في الجيش الإسرائيلي. يُسمح للجنود أن يطلقوا النار ويقتلوا فقط عندما يشعرون بخطر مباشر على حياتهم. احتج جزء كبير من الشعب، وخصوصا في الأوساط الدينية واليمينية، بقوة ضدّ محاكمة أزريا. ولأنّ أسرة أزريا تنتمي إلى الوسط الشرقي، فالاحتجاج يشمل أيضًا معظم الوسط الشرقي. شم أنف بنيامين نتنياهو السياسي الحساس فورا من أين تهبّ الريح. لذلك قرر إجراء زيارة تضامنية لأسرة أزريا، وفي اللحظة الأخيرة فقط استطاع مستشاروه إيقافه. بدلا من ذلك هاتف نتنياهو والد أزريا وأعرب عن تضامنه. أجرى أفيغدور ليبرمان زيارة تظاهرية إلى المحكمة العسكرية للتضامن مع الجندي. حدث ذلك قبل وقت قصير من تعيينه وزيرا للدفاع. كانت تلك صفعة طنانة للقيادة العليا. تمزّق الجيش، وهو الحصن الأخير للوحدة القومية، الآن إلى قِطع. تتم مهاجمة هيئة الأركان العامة علنا بادعاء أنها "يسارية"، وهو مصطلح غير بعيد عن "خائن" في الخطاب الإسرائيلي المعاصر. تحطّمت أسطورة فوقية الجيش، ولحقت بسلطة القيادة العليا أضرار بالغة. في الصراع بين الرقيب إليئور أزريا وبين رئيس الأركان، غادي أيزنكوط، فالرقيب هو الذي خرج منتصرا. إذا تمت إدانة أزريا بانتهاك صارخ لأوامر الجيش، فسوف تكون عقوبته، بطبيعة الحال، خفيفة. لقد حوّل قتلُ جريح عاجز أزريا إلى بطل قومي. كانت تلك الرصاصة التي تردّدت أصداؤها في كل البلاد، وربما أيضًا حول الكرة الأرضية. |