اوري افنيري 

التوق إلى باراك / أوري أفنيري


ظهر فجأة وجه معروف في التلفزيون. ولكن ليس معروفا كثيرا. وقد أصبحت تغطية الآن لحية سوداء. (لو كنت مكانه، كنت سأحلقها سريعا).

يدور الحديث عن رئيس الأركان الأسبق، رئيس الحكومة الأسبق، إيهود باراك.

يظهر باراك بالإصدار الجديد. وهو حازم، حاد، وصريح. يدين بنيامين نتنياهو بكلمات لا لبس فيها. يكرر تقريبا الكلمات التحذيرية التي قلتها وهي أن نتنياهو ليس عاقلا تماما. يقول إنّ نتنياهو "خرج عن المسار"، وإنّ هناك "بوادر فاشية" في إسرائيل.

تستيقظ البلاد وتنتظر. هل سيعود باراك إلى السياسية؟ هل وُجد أخيرا شخص قادر على هزيمة نتنياهو؟

نفى باراك أنّه مرشّح لرئاسة الحكومة، ولكن لم يصدّقه أحد. بدأ كل محلل جدير يُشكل حول باراك برامج لحزب جديد. لماذا لا يكون باراك مع موشيه يعلون، رئيس الأركان الأسبق ووزير الدفاع الأسبق، الذي أقاله نتنياهو للتوّ؟ لماذا لا يكون مع جابي أشكنازي، رئيس الأركان الأسبق، والمعروف أنه شرقي؟ امتلأ الفضاء بالكثير من الأسماء المقترحة.

أصبحت تسود أجواء جديدة. كان هناك شعور أنّه "حان الوقت لرحيل بيبي". شعور أنّ هناك خيارا قابلا للتطبيق بالتخلص منه ومن سارة زوجته، التي يكرهها الجميع.

أرى أن هناك مشكلة صغيرة بالنسبة لإيهود باراك. يمكن تلخيصها بكلمتين: كامب ديفيد.

في نظري، كان مؤتمر كامب ديفيد نقطة تحوّل تاريخية. حتى مؤتمر كامب ديفيد عام 2000 ساد تفاؤل بخصوص السلام. ولكن منذ ذلك المؤتمر البغيض، اختفى السلام من الخطاب السياسي.

في نظري، فإن إيهود باراك هو المسؤول الوحيد تقريبًا عن ذلك.

سأعرض الأحداث، كما شاهدتها في الوقت الحقيقي.

أراد الرئيس بيل كلينتون لدى نهاية ولايته، تحقيق إنجاز كبير واحد على الأقل قبل ترك منصبه. ولأنّ الرئيس جيمي كارتر قد حقق قبله إنجازا تاريخيا وهو معاهدة السلام الإسرائيلية-المصرية في كامب ديفيد، فقد أراد كلينتون تحقيق نصر أكثر تاريخيا: اتفاق سلام إسرائيلي-فلسطيني.

لم يرغب الشريك الفلسطيني، ياسر عرفات، بالمجيء. وقد أشار بحقّ كبير إلى أنّه لم تتمّ أية تحضيرات للقاء. فلم تنعقد لجان خبراء. وفي النهاية اتّهموه بالفشل.

ومع ذلك نجح كلينتون في جرّ عرفات للمشاركة في مؤتمر كامب ديفيد، بعد أن وعده رسميا أنّه إذا فشل المؤتمر، فلن يلقي باللوم على أي طرف. ولكن أخلف كلينتون وعده لاحقا من دون تردّد.

وصل عرفات إلى المؤتمر وكان مزاجه سيئا جدا. كان عاقد العزم على ألا يقع في أي فخّ. بل لم يكن يأمل بحدوث انفراجة. لقد أراد ببساطة أن يغادر بسلام.

خلافا لما كان متوقع، فقد امتدّ المؤتمر لمدة أسبوعين كاملين. طوال هذه المدة لم يلتقِ باراك وعرفات ولو مرة واحدة بشكل شخصي. لم يزر باراك عرفات في مسكنه المجاور، ولم يدعوه إلى مسكنه، وهو على مسافة تبعد عدة أمتار منه.

في رأيي، كان هذا فشلا كبيرا جدا. كان عرفات شخصية اجتماعية. لقد أحبّ الاتصال الشخصي، واستضافة الناس. وأحيانا كان يطعمهم بيديه. كعربي حقيقي، كان يؤمن بالعلاقات الإنسانية.

وفي المقابل، كان يتمتع باراك بشخصية مخالفة تماما. فهو شخص بارد، ومنطوٍ على نفسه. يفضّل المنطق المجرّد على الاتصال الشخصي. لا يقيم علاقات حميمية.

أتساءل أحيانا ماذا كان سيحدث لو كان هناك أريئيل شارون بدلا من باراك. كان شارون، مثل عرفات، شخصا اجتماعيا، أحبّ استضافة الناس. كان يعمل على خلق أجواء مختلفة.

ولكن بطبيعة الحال كانت الخلافات السياسية أكثر أهمية من المشاكل الشخصية.

ولأنّه لم تكن هناك أيّة استعدادات، جاء كلا الطرفين إلى كامب ديفيد وفي أيديهما اقتراحات متناقضة تماما.

لم تكن لدى باراك تجربة مسبقة في الشؤون العربية. لقد شارك في كامب ديفيد وعرض اقتراحات كانت حقا بعيدة المدى أكثر من كل ما اقترحته إسرائيل حتى ذلك الوقت. لقد كان مستعدّا لقبول دولة فلسطينية، ولكن وضع الكثير من الشروط والتقييدات. ربما كان يعتقد أنّ الفلسطينيين سيقفزون من الفرحة ويعانقونه.

ولكن مع الأسف الشديد، فقد كان سقف الحدّ الأقصى الخاص بباراك أقل بكثير من سقف الحدّ الأدنى الخاص بعرفات. فكر الزعيم الفلسطيني بالاستقبال المتوقع له في الوطن إذا تنازل عن أدنى حدّ من مطالب الشعب الفلسطيني. وفي النهاية لم يتم تحقيق الاتفاق.

غضب كلينتون، وبخلاف وعده ألقى باللّوم على عرفات. من المرجح أنه كان يفكر في زوجته، التي سعت في ذلك الوقت للترشّح كعضو مجلس شيوخ في ولاية نيو يورك (وهناك من يسميها "JEW YORK").

ولكنّ باراك هو الذي حوّل الفشل إلى كارثة.

ماذا كان سيفعل سياسي حقيقي في مثل هذه الحالة؟

يمكنني أن أتصوّر خطابا على النحو التالي:

"مواطني إسرائيل، يؤسفني أن أخبركم أنّ مؤتمر كامب ديفيد قد تأجّل من دون تحقيق الاتفاق المنشود.

من المفهوم أنّه لم يكن ممكنا أن نأمل أنّ نتوصل إلى حل للصراع، المستمرّ منذ أكثر من مائة عام، خلال أسبوعين. لو حدث ذلك، لكان بمثابة معجزة.

أجرى الطرفان حوارا جادّا، يستند إلى الاحترام المتبادَل. تعلّمنا الكثير عن تصوّرات ومشاكل بعضنا البعض.

والآن عيّنّا بعض اللجان المشتركة التي ستستمر في الفحص بشكل مفصّل الجوانب المختلفة للصراع، مثل الحدود، القدس، الأمن، اللاجئين وغير ذلك. في الوقت المناسب سنعقد مؤتمرا ثانيا، وربما ثالثًا أيضًا وفق الحاجة.

يتفق الطرفان على أنّنا في الوقت الراهن سنبذل قصارى جهودنا لتجنّب الحروب وأعمال العنف.

نشكر مستضيفنا، الرئيس كلينتون، على الاستضافة وعلى جهوده".

ولكن بدلا من أن يصرح باراك هكذا اتخذ خطوة غيّرت هذه الخطوة التاريخية.

عندما عاد إلى البلاد أدان عرفات على وجه الخُصوص، والفلسطينيين على وجه العموم، ووصفهم بالأعداء اللدودين.

وليس أنّه ألقى كل اللّوم على الفلسطينيين فحسب، بل صرّح أيضًا "أنّهم ليسوا شركاء للسلام".

كانت كلماته كارثية. منذ ذلك الحين أصبحت عبارة "ليس لدينا شريك للسلام" مقدّسة في إسرائيل، وذريعة لكل الأفعال والفشل. لقد دفعت نتنياهو وزمرته قُدما نحو السلطة. لقد دفنت هذه العبارة حركة السلام، التي لم تستعيد منذ ذلك الحين قوتها.

إذن فماذا بالنسبة لترشّح إيهود باراك لرئاسة الحكومة؟

هل يمكنه إقامة حزب جديد وتشكيل ائتلاف كبير ضدّ نتنياهو؟

قيل لي إنّ باراك نفسه يشكّك في ذلك. "يكرهني الجميع"، كما قال.

هذا صحيح إلى حد معين. يُنظر إلى باراك باعتباره شخصا عديم المبادئ. يذكر الناس فساده السياسي الأخير، عندما قسّم حزب العمل كي يتولّى منصب وزير الدفاع في حكومة نتنياهو.

قالوا إنّه منذ انفصاله عن السياسة، راكم ثروة ضخمة من خلال خبرته وعلاقاته مع مسؤولين في حكومات أجنبية ومع الكثير من الأثرياء.

لم يخف باراك ثراءه، بل كان يتباهى به. لقد سكن في مبنى فخم في تل أبيب واشترى فيه عدة شقق. أظهر كل ذلك، كما يُفترض، أنّه ابتعد عن السياسة بشكل دائم.

ولكن الآن، بعد أن أطلّ وجهه الملتحي عبر التلفزيون، يبدو وكأنه يقول: "مرحبا، أيها الأصدقاء، لقد عدتُ!"

هل سيعود حقّا؟ هل يمكنه أن يصبح مركزا لائتلاف جديد، ائتلاف "أسقِطوا بيبي"؟

هذا ليس مستحيلا. أعتقد أن أشخاصا قليلين فقط لا يزالوا يكرهون باراك. بالمقارنة مع نتنياهو، يُنظر إلى باراك نظرة إيجابية أكثر بكثير.

يتغيّر بنو البشر، ومن ضمنهم السياسيين أيضًا. ربّما كان لباراك وقت كي يفكر في تجربته، بما في ذلك في كامب ديفيد، والتعلّم من أخطائه. ربّما من الأفضل اختياره بدلا من اختيار شخصيات جديدة، لم ترتكب بعد أخطاء، ومن ثم لن يكون لديها ما تتعلم منه.

باراك شخص ذكي جدا، خبير في التاريخ أكثر بكثير ممّا هو معتاد في الدوائر الرائدة في إسرائيل. لديه وعي اجتماعي. باختصار، هو يختلف عن نتنياهو.

الشروط المطلوبة لرئيس حكومة جديد هي كل رئيس فيما عدا "نتنياهو".

يقول المثل الألماني "عندما يجوع الشيطان، فهو يأكل الذباب أيضًا". حتى الأشخاص الذين لا يحبّون باراك كثيرا مستعدّون لقبوله كمخلّص من أيدي نتنياهو.

"البرق"، كظاهرة طبيعية، هو سطوع قوي يخترق الظلام في جزء من الثانية. هل يظهر في هذا الجزء من الثانية باراك جديد؟

باختصار، هل النسخة الجديدة لباراك واردة في الحسبان؟ في رأيي: نعم.