اوري افنيري 

القليل من الفساد / أوري أفنيري


قبل سنوات اتصلوا بي من مكتب رئيس الوزراء. قيل لي إن إسحاق رابين يريد التحدث معي شخصيا.

وعندما وصلت فتح رابين الباب بنفسه واستقبلني. كان وحده في المنزل. بعد أن جلست في مقعد مريح، سكب كأسين سخيّين من الويسكي لنشربهما معا، وبدأ في الكلام مباشرة (كان رابين يكره "المحادثات الصغيرة"): أوري، هل قررت القضاء على كل الحمائم في حزب العمل؟"

في تلك الأيام أدارت صحيفتي الأسبوعية، "هعولام هازيه"، حملة ضدّ الفساد، وكُشفت خلالها أعمال مسؤولَين كبيرَين في حزب العمل - محافظ بنك إسرائيل الجديد، أشير يدلين، ووزير الإسكان، أبراهام عوفر. برز كلاهما في معسكر السلام في حزب العمل.

شرحت لرابين أنّه في الكفاح ضدّ الفساد لا يمكنني أن أتنازل للأشخاص القريبين من أفكاري. الفساد هو قضية بحدّ ذاته.

كان الجيل الأول لمؤسسي الدولة خاليا من الفساد. لم يكن ممكنا التفكير بأعضاء حزب فاسدين.

وصلت الطهارة حينذاك إلى حدّ متطرّف حقا. بنى أحد زعماء حزب العمل، إليعيزر ليفني، لنفسه فيلا في كريات-يوفال في القدس. لم تكن هناك أية علامة تشير إلى الفساد. لقد ورث المال. ولكن ذلك أدى رغم كل شيء إلى فضيحة. ماذا، زعيم حزب العمال يبني لنفسه فيلا فخمة؟ حكمت عليه "محكمة الأعضاء" بالطرد من الحزب، وهكذا كانت نهاية مسيرته.

في الوقت ذاته بنت الدولة مقرّا رسميا لوزير الخارجية، ليستقبل الضيوف الأجانب استقبالا مشرفا. اعتقد الوزير في ذلك الوقت، موشيه شاريت، أنّه من غير المناسب امتلاك شقة خاصة وهو يعيش في شقة حكومية. فباع شقّته وقسّم المال على الجمعيات الخيرية.

كان الجيل التالي مختلفا تماما. تصرفت شخصياته كما لو كانوا أصحاب البيت.

كان الممثّل الأكثر نموذجية هو موشيه ديان. كان من مواليد البلاد، وعيّنه دافيد بن غوريون رئيسا للأركان. انتصر في "العمليات الانتقامية" وراء الحدود وفي "العدوان الثلاثي"، لغزو مصر والذي انتهى بانتصار عسكري كبير (إلى حد بعيد بمساعدة جيوش فرنسا وبريطانيا، التي قصفت الجبهة الداخلية المصرية).

كان موشيه ديان عالم آثار هاوٍ، وهو مجال كان شائعا. لقد ملأ فيلّته الشخصية (حينها كان قد أصبح من المسموح العيش في فيلا) بمقتنيات قديمة كُشف عنها في حفرياته في جميع أنحاء البلاد. الحفريات الشخصية هي غير قانونية تماما، لأنّ الحفر الهاوي يؤدي إلى تدمير الخلفية التاريخية ولا يسمح بتأريخ النتائج. ولكن الجميع غضّ الطرف. بعد كل هذا، كان ديان بطلا قوميا.

وحينها كشفت مجلة "هعولام هازيه" عن حقيقة مذهلة: ليس فقط أن ديان كان يحفر بشكل غير قانوني ووضع المقتنيات التي اكتشفها في حديقة منزله، وإنما باع أيضًا الكثير منها حول العالم، مع إضافة رسالة شخصية موقّعة رفعت سعرها أضعافا. أدى هذا الكشف إلى فضيحة كبيرة وأثار موجة من الكراهية - الكراهية تجاهي. في استطلاع للرأي العام في العام ذاته وُجد أنّني "أكثر شخصا مكروها في البلاد"، بل تغلّبت على مئير فيلنر، الزعيم المكروه للحزب الشيوعي المكروه. (لم تعد تُجرى مثل هذه الاستطلاعات في البلاد).

كان صهر ديان عيزر فايتسمان، وهو اللواء الذي بنى سلاح الجو الذي كان مسؤولا عن الانتصار المذهل في حرب 1967. ليس سرّا أن فايتسمان كان يعيش على حساب مليونير يهودي أمريكي ويسكن في فيلا فخمة على شاطئ قيساريا، أحد أغلى الأحياء في البلاد (والذي تعيش فيه الآن أيضا أسرة بنيامين نتنياهو).

على مدى عدة سنوات كانت تلك موضة عامة. كان لكل مليونير يهودي في الولايات المتحدة جنرال إسرائيلي "خاص به". أتاح له المليونير معيشة بمستوى عال. بالنسبة ليهود ثري في أمريكا، فقد كان حضور لواء إسرائيلي في الاحتفالات العائلية رمزا للمكانة.

كان أريئيل شارون، على سبيل المثال، ابنا لوالدين فقيرين، عضوين في موشاف كفار-ملال. لقد أنهى حياته العسكرية، ثم أصبح فجأة - ويا للعجب - مالكا لمزرعة كبيرة جدا. لقد قدمها له كهدية مليونير إسرائيلي يعيش في أمريكا. (وفقا للشائعة، فقد ساعدت دولة إسرائيل ذلك المليونير في خصم الأموال من ضريبة الدخل الأمريكية).

في تلك الفترة كان الألوية الإسرائيليون أبطال ليس في البلاد فحسب، وإنما في العالم كله. كان من السهل التعرف على موشيه ديان، الذي كان يضع على عينه ضمادة سوداء. كان بطلا محبوبا في لوس أنجلوس بما لا يقل عنه في حيفا.

نشأ هؤلاء الألوية (فيما عدا عيزر فايتسمان، الذي كان ابنا لعائلة ثرية) في ظروف معيشية سيئة للغاية. كان معظمهم أبناء كيبوتس أو موشاف، وكانوا حينذاك لا يزالون فقراء جدا. قال لي شارون، ابن موشاف كفار ملال، إنّه كان يمشي كل يوم نصف ساعة من المحطّة المركزية في تل أبيب إلى مدرسة "جئولا"، من أجل توفير ثمن تذكرة الحافلة.

كان هذا ينطبق أيضا على الجيل التالي من الزعماء. نشأ إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الأسبق الذي يقبع الآن في السجن، في حيّ فقير جدا في بنيامينا. لقد أصبح جامعا قهريا للمقتنيات الثمينة. ورغم أن جاره في السجن، الرئيس الأسبق موشيه كتساف، قد أدين بالاغتصاب، إلا أنه هو أيضًا نشأ في ظروف فقر.

(هناك طرفة وهي أنه بعد حفلة موسيقية في السجن في هذه الأيام أعلن السجان: "الجميع يبقى جالسا حتى يخرج الرئيس ورئيس الحكومة!")

إيهود باراك، الذي كان رئيسا للأركان ورئيسا للحكومة، يكسب المال اليوم من عمله كـ "مستشار" لحكومات أجنبية، ويعمل لمصلحته الخاصة، قد نشأ أيضًا في بلدة فقيرة.

(منعني مصيري من الخنوع إلى هاجس المال هذا، رغم أنني تعرضت أيضًا في شبابي لفقر مدقع. ولكن قبل مجيئنا إلى البلاد، عندما كنت في العاشرة، كانت أسرتي غنية جدا. لأننا كنا في البلاد أكثر سعادة من خارج البلاد، فاستنتجت في سنّ صغيرة أنّه لا توجد علاقة بين المال والسعادة).

خطر كل ذلك في بالي لأننا نتعرف كل يوم عن حالات فساد في أسرة نتنياهو وزوجته سارة.

كانت سارلا، كما يدعوها الجميع، في الماضي مضيفة طيران والتقت زوجها في إحدى سفرياته التي لا تحصى. ويبدو أنها تتعامل مع موظفي المسكن الرسميّ معاملة سيئة. ولذلك طالب بعضهم بمحاكمتها. لقد اكتشفوا أنّها تستخدم أموال خزينة الحكومة لأغراضها الشخصية.

ولكن ما أزعج الشعب حقا هو أنّ سارة نتنياهو، التي لم يخترها أحد، موكلة كما يبدو على التعيينات الكبرى في البلاد. لا يمكن لأحد أن يصل إلى منصب كبير من دون أن تجري سارة نتنياهو معه مقابلة وتوافق عليه شخصيّا.

هكذا عيّنت على سبيل المثال المسؤولين الثلاثة عن إنفاذ القانون: المستشار القضائي، مراقب الدولة، والمفتش العام للشرطة.

إذا كان الأمر كذلك، فهي ذات رؤية بعيدة. لأنّ هؤلاء الثلاثة يجلسون الآن ليلا ونهارا ويتناقشون في قضية وابل الاكتشافات ذات الصلة بشؤون أسرة نتنياهو المالية. يحاول الثلاثة بكل قوتهم منع محاكمة بيبي وسارلا. وهذه مهمة أكثر صعوبة، لأنّ عين المحكمة العليا يقظة.

كتبتُ في الماضي حول هذه القضايا، ولكن تقريبا كل أسبوع تُكشف قضايا جديدة. أصبح هذا الوضع بمثابة رياضة وطنية.

بدأ ذلك بكشف منذ سنوات، قبل أن يصبح نتنياهو رئيسا للحكومة. حينها كان بدلا من ذلك عضوا في الحكومة وشخصا عاديا. اتضح أنه كان قد اعتاد على أخذ ثمن تذكرة الطيران الخاصة به في نفس الوقت من اثنين أو ثلاثة أشخاص مختلفين، من دون أن يصرح عن المال كدخل. والآن يسمون ذلك "بيبي تورز".

منذ ذلك الحين كان نتنياهو متورطا في العديد من الأعمال المحاذية للفساد الجنائي. تمر هذه الأمور الآن في مراحل مختلفة من "الاختبار". تضاف أمور جديدة على القائمة طوال الوقت. الأشخاص الثلاثة الذين عيّنهم نتنياهو لإنفاذ القانون منشغلون الآن في مشاورات متكررة حول السؤال إذا ما كان يجب دعوته إلى تحقيقات جنائية، الأمر الذي كان، ربما، سيجبره على الاستقالة أو على الأقل على أن ينحّي نفسه مؤقتا.

وصلت هذه المعضلة إلى ذروتها عندما اتُّهم رجل ثري يهودي في فرنسا بارتكاب عملية غش ضخمة وقال للقضاة إنه تبرّع بمليون دولار لنتنياهو بشكل شخصي، وكذلك دفع حسابات إقامة بيبي وأسرته في الفنادق الفاخرة الأكثر تكلفة في أوروبا، بما في ذلك فنادق في الريفيرا الفرنسية. المبالغ الدقيقة مشكوك بها، ولكن لا أحد ينفي أن نتنياهو قد حصل على مبالغ كبيرة من هذا الشخص، الذي كان حينذاك مشتبها به فعليا بارتكاب جنايات اقتصادية خطيرة.

دفع دافعو الضرائب الإسرائيليون الأسخياء (وأنا من بينهم) في الخريف الماضي 600 ألف دولار مقابل خمسة أيام قضاها نتنياهو في نيويورك، بمناسبة خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة. كلف ذلك نحو عشرات آلاف الدولارات يوميا، بما في ذلك الدفع للحلاق الخاص (1600 دولار) وأخصائية الماكياج الخاصة (1750 دولار). دفع دافعو الضرائب الإسرائيليون الأسخياء (وأنا من بينهم) في الخريف الماضي 600 ألف دولار مقابل خمسة أيام قضاها نتنياهو في نيويورك، بمناسبة خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة. كلف ذلك نحو عشرات آلاف الدولارات يوميا، بما في ذلك الدفع للحلاق الخاص (1600 دولار) وأخصائية الماكياج الخاصة (1750 دولار). كان خطابا مُكلفا. آمل أن مستمعيه قد استفادوا حقا.

بالمناسبة، كُشفت هذه المعلومات في أعقاب تقديم دعوى إلى المحكمة، وفقا لقانون حرية المعلومات.

يسمع الجمهور الإسرائيلي الأخبار ويستمتع بها. ويبدو أن أحدا لا يغضب. وأصبحت تُداول النكات عن "الزوجين الملكيين" بحرية.

تثبتُ الاكتشافات لناخبي نتنياهو، ومعظمهم أشخاص شرقيين يعيشون بصعوبة، فقط أنّ بيبي نذل كبير، يعرف كيف يستغل الفرص. كانوا يريدون القيام بنفس الأمر.

كيف نتعامل مع مثل هذه الاكتشافات، التي تهيمن على معظم نشرات الأخبار في التلفزيون وفي عناوين الصحف؟

عليّ أن أعترف أنّني أتطرق إلى هذه الأفعال باحتقار ما. ما هي أهمية حالات الفساد الصغيرة هذه مقارنة بأفعال نتنياهو وفشله، والتي ذات علاقة مباشرة بمصير البلاد؟

أعلن هذا الأسبوع بفخر في اجتماع لرؤساء حزبه أنّه لن يوافق "أبدا" على التفاوض على أساس "المبادرة العربية"، التي تتضمن نهاية الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية، وإخلاء المستوطنات. يعتقد الكثيرون أنّ هذا رفض قاتل.

مقابل هذه الكوارث، لماذا علينا أن نتأثر من حوادث صغيرة من الفساد؟

ولكن أذكر قصة آل كابوني، رجل العصابات الأمريكي الذي كان مسؤولا عن جرائم فظيعة، ومن بينها قتل العديد من البشر بدم بارد. ولكنه في النهاية أدين وسُجن فقط بتهمة جريمة الاحتيال الضريبي.

إذا كان بالإمكان إدانة نتنياهو بالفساد الصغير وإجباره على الاستقالة - فهل سيأتي خلاص البلاد حينها؟