اوري افنيري 

الفجوة الآخذة بالاتساع / أوري أفنيري


في كل قائمة من عشر نساء مرموقات في إسرائيل، تحظى إيلانا ديان بمكانة مرموقة.

ديان، تربطها قرابة بعيدة من موشيه ديان، وهي صاحبة أحد البرامج التلفزيونية الأكثر تقديرا. في الوقت الذي يغرق فيه التلفزيون رويدا رويدا في وحل برامج "الواقع" الفارغة، يبرز برنامجها "عوفداه" (حقيقة) كصحافة تحقيقية ومسؤولة، من نوع الصحافة التي ظهرت في صحيفة "هذا العالم" الأسبوعية.

عادة ما تعتبر ديان "يسارية" معتدلة - ربما بسبب الانتقادات التي لا تتوقف ضد المؤسسة في العالم والتي يتم نسبها إلى اليسار.

والآن هي متّهمة وكأنها مقدّمة خدمات لليمين المتطرف، شبه الفاشي. وهذا أمر صادم.

في الجدل العاصف الذي نشأ، اعتمدت ديان تحديدا عليّ. خلال 40 عاما من وجود صحيفة "هذا العالم"، كان شعار الترويسة فيها "من دون خوف، وتحيّز". ادّعتْ ديّان بأنّها عملت وفقا لهذا الشعار.

هذا يُجبرني على التدخّل في النقاش - وإن لم أكن أرغب في ذلك كثيرا.

إنّ خلفية هذه القضية تتعلق بأسس الصراع التاريخي بين إسرائيل وفلسطين.

منذ حرب الأيام الستّة، وإسرائيل تسيطر على الأراضي التي احتلّتها. وهي تسيطر، من بين أمور أخرى، على أراض يسمّيها الكثيرون في البلاد وفي العالم "الضفة الغربية" بينما تسميها الحكومة الإسرائيلية ومؤيّدوها "يهودا والسامرة".

منذ بدء الاحتلال تقريبا، يبذل اليمين الإسرائيلي جهودًا كبيرة من أجل "توطين البلاد"، أي، أن تقام فيها مستوطنات، مدن و "بؤر استيطانية" في كل قطعة أرض جيّدة.

لمن تعود الأرض، التي تقام عليها هذه المستوطنات؟

جزء كبير منها هو "أراض تابعة للدولة". في أيام الحكم التركي للبلاد كان من المعتاد تسجيل الأرض التي لم تكن للفلاحين الأفراد وإنما لجميع أهالي القرية بمجموعها على اسم السلطان. عندما تغيّر الحكم العثماني بالانتداب البريطاني، سُجّلت هذه الأراضي كأراض تابعة للدولة. وعندما احتلّت إسرائيل الأراضي المحتلة، وضعت الحكومة الإسرائيلية ببساطة يدها على هذه الأراضي. ومنذ ذلك الحين وهي تُستخدم لإقامة المستوطنات.

تمت مصادرة أراض أخرى من قبل الإدارة العسكرية "لأسباب أمنية" أو "لأغراض عامة" - وتم تسليمها للمستوطِنين.

إن الكثير من المستوطنات ليس قانوني بشكل جليّ، حتى بموجب القانون الإسرائيلي المسيطر على هذه الأراضي. ولكن القانون يعمل فقط في أحيان قليلة جدّا. تدعم الإدارة العسكرية، الجيش والشرطة المستوطنات بجلاء، تحميها وتربطها بالسلطات الإسرائيلية. ونادرا ما تتدخّل المحاكم.

وماذا عن المستوطنات المقامة على أراض عربية تعود إلى ملكية فردية؟ هنا تكمن المشكلة. تم استخدام جميع الحيَل الممكنة وغير الممكنة من أجل السيطرة عليها. من بين أمور أخرى، استخدم المستوطِنون وثائق مزوّرة، بتوقيعات كاذبة أو باستخدام أسماء ملّاكي الأراضي الذين وافتهم المنيّة منذ زمن. ولكن الأسلوب الأكثر شيوعًا هو استخدام السماسرة العرب.

بالنسبة للفلسطينيين فهذا صراع وجودي. لا يخفي اليمين، المسيطر الآن على الحكومة، رؤيته في تطهير كل البلاد من العرب ("عرابر-راين" بالألمانية). بالنسبة للكثيرين، وخصوصا بالنسبة للمتديّنين من بينهم، هناك جذب كبير لرؤية إسرائيل الكبرى، المسكونة كلها من قبل اليهود، بعد تطهيرها من جميع السكان غير اليهود.

أنشأ المستوطِنون وحلفاؤهم منظومة كاملة لشراء الأراضي بشكل "قانوني". إنهم يعرضون على الملّاكين العرب مبالغ طائلة مقابل أراضيهم. تصل الأموال من أصحاب المليارات اليهود في الولايات المتحدة أو من صناديق حكومية سرية. يُغرى أصحاب الأراضي العرب أحيانًا. إنهم يريدون أخذ المال والهرب. ولكنهم يخافون من الجيران ومن المتعصّبين الفلسطينيين.

ولذلك هناك حاجة إلى السماسرة العرب. يعمل هؤلاء كعملاء سريّين للمستوطِنين ويشترون الأرض المطلوبة، بحيث يستطيع البائعون الزعم بأنّهم في الأساس باعوا أرضهم للعرب.

يعتبر الشعب الفلسطيني هؤلاء السماسرة خونة. بالنسبة لهم، يشكّل السماسرة خطورة على وجود الشعب الفلسطيني.

هذه هي خلفية القضية التي تحدّثت عنها إيلانا ديان.

يقف في وسطها ناشط سلام يهودي اسمه عزرا نافي (اسم يهودي عراقي واضح). وهو نشط جدا في جنوب جبل الخليل. اسمه معروف بالنسبة لي منذ عشرات السنين.

كان لديّ انطباع دائما أنّ نافي هو ذئب وحيد، كرّس نفسه كلّها للمهمة التي فرضها على نفسه، (دون توقّع أي مكافأة): مساعدة الفلسطينيين في هذه المنطقة. علمتُ أنّ لديه علاقات مع عدة منظمات سلام، وخصوصا مع منظمة إسرائيلية اسمها "تعايش".

في الخليل وما حولها هناك نسبة كبيرة من المستوطنين المتعصّبين جدّا. إنه المكان الذي نشط فيه القاتل الجماعي، المستوطِن باروخ جولدشتاين، الذي قتل عشرات المسلمين عند أدائهم للصلاة في المسجد وقُتل هناك بأيدي الناجين. والآن يعتبره المستوطِنون قدّيسًا.

ينشغل المستوطِنون بالنضال المستمرّ والوحشي لطرد السكان من جميع القرى في جنوب جبل الخليل. سكان هذه القرى فقراء جدّا، ويعيش بعضهم في الكهوف. ولذلك يأمُل المستوطنون بأنّه يمكن طردهم بسهولة. فيهدم المستوطِنون منازلهم، يقتلعون أشجارهم المثمرة، يسدّون آبارهم. ينشط عزرا نافي بلا كلل لمساعدة العرب في هذه المنطقة للصمود أمام الهجمة المستمرّة والبقاء على قيد الحياة.

في أوساط المستوطِنين تعمل عدة منظمات فاشية (أعتذر، ولكن لا يوجد أي تعريف آخر ملائم) مموّلة بسخاء من قبل أصحاب المليارات اليهود في الولايات المتحدة.

اتضح الآن أنّ منظّمات اليمين هذه قد أسست شبكة تجسّس لها أفرع من أجل التسلّل إلى داخل منظمات السلام وحقوق الإنسان الإسرائيلية. نجح أحد العملاء بكسب ثقة عزرا نافي البريء، الذي تفاخر أمامه بأنّه سلّم أسماء سماسرة الأراضي العرب إلى قوات الأمن الفلسطينية، والتي أعدمتهم بتهمة الخيانة.

نقلت المنظمات الفاشية هذا الكلام إلى إيلانا ديان، التي جعلت هذه "المعلومات" تتصدر برنامجها الأسبوعي. سارع نافي إلى المطار، ولكن الشرطة أخرجته من الطائرة.

هذا هو الوضع الآن.

في الجدل المستعر الآن في الإعلام، تُتّهم ديان من قبل اليساريين كجدعون ليفي بأنّها بدّلت جلدها وتخدم الفاشيين الآن. فردّت ديّان بمقال غاضب، نقلت فيه شعاري القديم، لتزعم بأنّه لا يعنيها إذا ما كان كشفها هذا يخدم اليسار أو اليمين. مهمّتها هي فقط التأكّد من أن المعلومات صحيحة، دون خوف، وتحيّز.

وزعمت أيضا أنّها غير معنيّة بمعرفة دوافع مقدّمي هذه المعلومات. في هذه القضية أيضًا أنا مُلزم على أن أوافقها الرأي. إذ تأتي المعلومات المهمة أحيانا من شخصيات سيّئة. وقد يتطلّب الصالح العام النشر مع ذلك.

وبهذا الخصوص: فأنا أعارض عقوبة الإعدام في جميع الظروف. أعارض التعذيبات أيضًا. ولكني لم أرَ أي إثبات بأنّ عناصر أجهزة الأمن في الضفة الغربية قد أعدمت سماسرة الأراضي العرب (أو أي شخص آخر)، رغم أنّه قد يكون تم التحقيق معهم بوسائل قاسية. لم يوقّع أبو مازن على أي حكم بالإعدام منذ استلامه للحكم. (قبل ذلك أكّد لي ياسر عرفات شخصيا بأنّه لم يوقّع ولن يوقّع على أي حكم بالإعدام، إلا في حالات القتل، عندما كان يتوقّع حدوث حرب بين العائلات).

هناك جانب هزلي أيضًا للقضية. اتُّهم عزرا نافي بأنّه أجرى اتصالا بعملاء أجانب، وهي جريمة بمثابة التجسس. هؤلاء عملاء أجانب؟ القصد هو قوى الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، التابعين لقيادة أبو مازن. ومع ذلك، فقبل أيام قليلة فقط اكتشفت جهات في أجهزتنا الأمنية بأنّ كلتا مؤسّستي الأمن - الإسرائيلية والفلسطينية - تتعاونان تعاونا وثيقا في محاربة "الإرهاب" العربي، وأنّه قد تمّ إنقاذ حياة الكثير من الإسرائيليين بسبب ذلك. إذا كان الأمر كذلك، فمتى تكون الأجهزة الفلسطينية من الأعداء، حيث يشكل الاتصال بهم جريمة خطيرة؟

وهناك سؤال آخر يعود إلى الكشف عن أنّ منظمات اليمين المتطرّف، المموّلة من قبل الأجانب (اليهود الأمريكيين) تقيم عمليات تجسس واسعة ضدّ النشطاء الإسرائيليين. كيف لم يعلم الشاباك بذلك، وإذا علم - لماذا بقي هذا الأمر سرّا؟

شيء واحد مؤكّد: السياسة الإسرائيلية تغوص في الفساد يومًا بعد يوم. إن الفجوة بين اليمين واليسار تتّسع وتصبح هاوية من العداء والكراهية.

بالنسبة لي تذكّرني الأساليب التي يستخدمها اليمين الآن بأفعال كنت شاهدا عليها كطفل في ألمانيا عام 1933.