اوري افنيري 

قوميات متخيّلة / أوري أفنيري


قبل أسبوعين توفي بنديكت أندرسون. كما متبع القول في بلادنا، فقد غادر إلى العالم الآخر.

أندرسون هو إيرلندي ولد في الصين، تعلّم في إنجلترا وتحدّث بعدة لغات جنوب آسيوية، وقد أثر كثيرا في عالمي الفكري.

أنا ممتنّ كثيرا لكتابه المهم "الجماعات المتخيلة".

لكل واحد منّا هناك عدّة كتب شكّلت صورة عالمه وغيّرتها أيضًا.

في شبابي الباكر قرأت كتاب أوسفالد شبينغلر الضخم "تدهور الحضارة الغربية". كان له تأثير طويل الأمد فيّ.

اعتقد شبينغلر، الذي كاد أن يُنسى في أيامنا، بأنّ كل التاريخ البشري مركّب من عدة "حضارات"، والتي تشبه البشر: تولد، تكبر، تشيخ وتموت - وكل ذلك في فترة من ألف عام.

تأسست الحضارة "القديمة" لليونان وروما منذ 500 قبل الميلاد حتى 500 بعد الميلاد. تأتي بعدها الحضارة "السحرية"، التي وصلت إلى ذروتها في الإسلام. وتليها الحضارة الغربية، التي تحتضر الآن. وفقا لشبينغلر، ستأتي بعدها الحضارة الروسية. ولو كان حيّا اليوم، كان بالطبع سيغيّر الحضارة الروسية بالصينية.

تعرّف شبينغلر، وهو أحد عباقرة العالم، على عدة حضارات في القارات الأخرى أيضًا.

كان الكتاب التالي الذي أثّر على صورة العالم لدي "دراسة للتاريخ" لأرنولد توينبي. اعتقد توينبي، مثل شبينغلر، بأنّ التاريخ مركّب من "حضارات" تكبر وتشيخ، ولكنه أضاف بعض الحضارات الأخرى إلى قائمة شبينغلر.

ولأنّ شبينغلر كان ألمانيا، فقد كان قاتمًا ومتشائما. أما توينبي، الذي كان بريطانيا، فقد كان متفائلا. لم يقبل الرأي القائل إنّ على الحضارة أن تموت بعد فترة حياة معيّنة. ومع ذلك، فقد حدث ذلك دائما حتى الآن، ولكن البشر يمكنهم التعلّم من أخطائهم وتغيير طرقهم.

تناول بنديكت أندرسون جزءًا من القصة فقط: ولادة القوميات.

في نظره، فإنّ القومية هي اختراع بشري جديد، منذ القرون الأخيرة. لقد أبطل النظرة التقليدية القائلة إنّ القوميات نشأت منذ الأبد، وإنّها فقط لاءمت نفسها من بين الحين والآخر وفق الظروف المتغيّرة. هكذا تعلّمنا في المدرسة. ومع ذلك فقد ادعى أندرسون أنّ القوميات قد "تم اختراعها" فقط قبل نحو 350 عاما.

وفقا للرؤيا الأوروبية التقليدية، فقد اتّخذت "القومية" شكلها الحالي بعد الثورة الفرنسيّة، أو قبل ذلك بقليل. حتى ذلك الحين، عاشت البشرية بأشكال تنظيمية أخرى.

في العصور القديمة عاشت البشرية في قبائل، والتي كانت تتكوّن عادة من 800 نسمة. كانت مثل هذه القبيلة صغيرة بما يكفي لكسب الرزق من أرض صغيرة، وكبيرة بما يكفي للدفاع عن نفسها من القبائل المجاورة، والتي تآمرت دائما كي تسلبها.

منذ ذلك الحين نشأت تجمّعات بشرية مختلفة - كالدول المدن في اليونان، الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، الدولة البيزنطية متعدّدة الطوائف، "الأمة" الإسلامية، الممالك الأوروبية متعددة الشعوب والإمبراطوريات الاستعمارية الغربية.

كان يتناسب كل واحد من هذه الاختراعات مع عصره والواقع المتغيّر. كانت الدولة القومية الحديثة استجابة لتحدّيات عصرية (وفقا لرؤيا توينبي، فإنّ "التحدّي والاستجابة"، هما آلية كلّ تغيير). جعل الواقع الجديد - كالثورة الصناعية، اختراع القطار والبواخر، السلاح الذي أصبح أكثر فأكثر فتكًا، وسائل الإعلام الجماهيرية - الإمارات الصغيرة قديمة.

كانت هناك حاجة إلى صيغة جديدة. كانت الإجابة دولة ذات عشرات الملايين من البشر، وهو عدد كبير بما يكفي من أجل وعليها إقامة اقتصاد صناعي حديث، الدفاع عن أراضيها بواسطة جيوش حاشدة، تطوير لغة مشتركة كأساس للتواصل بين جميع مواطنيها.

(المعذرة إنْ كنت أخلط بين أفكاري البدائية وأفكار أندرسون. فأنا أكسلُ للقيام بالفرز والفصل بينها).

حتى ما قبل ازدهار القوميات الجديدة، تم توحيد إنجلترا، إسكتلندا، ويلز وإيرلندا بالقوة وأصبحت بريطانيا العظمى، وهي أمة كبيرة بما فيه الكفاية من أجل احتلال أجزاء واسعة من العالم. تحوّل الفرنسيون، البريتانيون، البروفنسيون، الكورسيكيون والعديد غيرهم إلى فرنسا، التي افتخرت بلغتها المشتركة. أورثتْ آلة الطباعة ووسائل الإعلام الجماهيري هذه اللغة لجميع المواطنين، الذين تحدّثوا قبل ذلك بلغات متنوّعة.

كانت ألمانيا، التي ظهرت على المسرح متأخرا، مركّبة من عشرات الممالك والإمارات. احتقر البروسيون والبافاريون بعضهم البعض، وكانت مدن مثل هامبورغ فخورة باستقلالها. تأسس الرايخ الألماني الجديد فقط خلال الحرب الفرنسية - البروسية عام 1870، في ساحة المعركة تماما. بل إنّ توحيد "إيطاليا" قد حدث في وقت متأخر أكثر.

كانت كل واحدة من هذه السلطات الجديدة بحاجة إلى وعي مشترك ولغة مشتركة، وكان هذا هو دور "القومية" الجديدة. كُتبت أغنية "ألمانيا فوق الجميع" حتى قبل التوحيد، ولم تكن تقصد بالأساس الإعلان عن أنّ ألمانيا فوق جميع الدول، وإنما أنّ الوطن الألماني المشترك يقف فوق جميع الإمارات المحلية.

أرادت جميع هذه "القوميات" احتلال الأراضي - ولكن قبل كل شيء فقد "احتلّت" ماضيها هي ذاتها. انطلق الفلاسفة، المؤرخون، المعلّمون والسياسيون إلى إعادة كتابة الماضي، من أجل اختراع تاريخ "قومي".

على سبيل المثال، أصبحت معركة غابة توتوني (في السنة التاسعة بعد الميلاد)، والتي هَزمت فيها ثلاثُ قبائل الجيش الروماني العظيم، لاحقا، عملية ألمانية قومية. أصبح الزعيم، هارمن، لاحقا بطلا قديما لجميع الألمان.

هكذا، وفقا لأندرسون، اختُرعت الجماعات "المتخيّلة".

ولكن بخلاف الرؤيا التقليدية ادعى أندرسون أنّ القوميات الجديدة لم تولد في أوروبا أبدا، وإنما تحديدًا في نصف الكرة الأرضية الغربي. عندما انتفضت البلدات البيضاء الجديدة في أمريكا الجنوبية والشمالية ضدّ دولهم الأم الأوروبية، فقد طوّروا قومية محلّية (بيضاء) وتحوّلوا إلى "قوميات": الأرجنتين، البرازيل، الولايات المتحدة وجميع الأمم الأخرى. كتبت كل قومية من هذه القوميات لنفسها تاريخا قوميا خاصا بها. ومن هنا رحلت الفكرة القومية إلى أوروبا، إلى أن انقسمت البشرية كلّها إلى قوميات.

عندما توفي أندرسون، كانت الأمم قد بدأت بالتفكك، كالأنهار الجليدية في القارة القطبية الجنوبية. تتحوّل الدولة القومية بسرعة إلى قديمة، إلى خيال. أنشأ الاقتصاد العالمي، التحالفات العسكرية متعددة القوميات، السفر إلى الفضاء، الاتّصالات العالمية، جودة البيئة، التغييرات المناخية والكثير من العوامل الأخرى واقعًا جديا. أخذت منظمات مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على عاتقها مهمات كانت تفرض في الماضي على الدول القومية.

وبالتوازي مع إنشاء الكتب الجغرافية والأيديولوجية الجديدة يحدث العكس أيضا - وليس من قبيل الصدفة. يبدو ظاهريّا أنها عملية عكسية، ولكنهما في الواقع عمليّتان تكملان بعضهما البعض. تتفكّك الدول القومية. يطالب السكوتيون، الباسكيون، الكتالانيون، الكيبكيون، الكرد وآخرون بالاستقلال. وقد تفككك فعلا كلّ من الاتحاد السوفياتي، يوغوسلافيا، صربيا، السودان ودول أخرى. يسأل الكتالانيون والباسكيون أنفسهم لماذا هم بحاجة إلى العيش تحت الحكم الإسباني، إذا كان بإمكان كل واحدة منهم إقامة دولة مستقلّة تكون عضوا مستقلا في الاتحاد الأوروبي؟

بعد نحو مائة عام من الثورة الفرنسيّة "اخترع" بنيامين زئيف هرتسل ورفاقه القومية اليهودية.

لم يكن التوقيت من قبيل الصدفة. فقد أصبحت كل أوروبا فعلا قومية. كان اليهود شتاتا عالميا عرقيا-دينيا، من بقايا الواقع العرقي-الديني للإمبراطورية البيزنطية. ولأنّ اليهود كانوا مختلفين، فقد أثاروا المخاوف والعداء. اعتقد هرتسل، وهو معجب متحمّس للرايخ الألماني الجديد وأيضا للإمبراطورية البريطانيّة، بأنّه لو عرّف اليهود أنفسهم كقومية إقليمية فسيضعون حدّا لمعاداة السامية.

بتأخر ما، قام هرتسل وتلاميذه بما قامت به أمم أخرى قبلهم: لقد اخترعوا تاريخا "قوميا" يستند إلى الأساطير التوراتية، الأساطير المختلفة والواقع أيضًا. ويسمّى هذا الصهيونية. كان شعار هرتسل: "إن أردتم، فهذا ليس أسطورة".

بمساعدة معاداة السامية المتزايدة، حقّقت الصهيونية نجاحا هائلا. استوطن اليهود في أرض إسرائيل، ومن ثم أقاموا دولة خاصة بهم، ومع مرور الوقت أصبحوا هنا قومية حقيقية.

جاءت الورطة لاحقا، إذ لم تتغلّب القومية الصهيونية أبدا على الكيان السابق لطائفة دينية. ومن زمن لآخر نشأت تسويات غير معقولة. ولأنّ الدولة الجديدة أرادت استغلال القوة والمال اللذين لدى اليهودية العالمية، فلم تقطع صلاتها بها وتظاهرت وكأن القومية الجديدة التي نشأت في أرض إسرائيل ليست سوى واحدة من المجتمعات اليهودية الكثيرة، وإن كانت المسيطرة عليها.

وبخلاف عملية انقطاع القوميات الأمريكية عن دولها الأم، كما وُصف من قبل أندرسون، فقد فشلت لدينا المحاولات الضعيفة لإرساء قومية عبرية جديدة ومنفصلة في البلاد، مثل الأرجنتين وكندا. (وصف شلومو ساند ذلك في كتبه).

واليوم، تحت حكم بنيامين نتنياهو، تفقد الدولة أكثر وأكثر طابعها الإسرائيلي، وتتحوّل أكثر وأكثر إلى يهودية. يسيطر معتمرو القلنسوات على المناصب الحكومية الرئيسية. ويتحوّل التعليم إلى ديني-يهودي أكثر وأكثر.

والآن تريد الحكومة تشريع قانون يعرّف إسرائيل باعتبارها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، بخلاف التعريف السابق لإسرائيل كـ "دولة يهودية وديمقراطية". ينبغي أن يكون الصراع على اقتراح القانون هذا المعركة الحاسمة لهوية الدولة.

الصيغة نفسها هي، بطبيعة الحال، سخيفة. "القومية" و "الشعب" هما مفهومان مختلفان تماما. الدولة القومية هي كيان ينتمي إلى مواطنيه. لا يمكنه أن يكون فرعا لطائفة تعيش في العالم كله، ينتمي أعضاؤها إلى قوميات مختلفة، يخدمون في جيوش مختلفة ويسفكون دماءهم من أجل أهداف مختلفة.

إنّ مصطلح "الدولة القومية للشعب اليهودي" يعني أنّ الدولة لا تنتمي إلى 20% من مواطنيها، وهم إسرائيليون ليسوا يهودا. هل يمكن تصوّر تغيير في الدستور الأمريكي يقول إنّ الأنجلو-سكسونيين في العالم هم مواطنو الولايات المتحدة، بينما الأمريكيون من أصل أفريقي والأمريكيون من أصل إسباني ليسوا مواطنين؟

يبدو أن دونالد ترامب يمكنه أن يتصوّر في نفسه تغييرا كهذا. وربما هو أيضا لا يمكنه.

لم ألتق أبدا ببنديكت أندرسون وجهًا لوجه. هذا مؤسف! كنت سأسعد لو ناقشته حول بعض تصوّراته.