اوري افنيري 

زعيم دون مجد / أوري أفنيري


التقيتُ للمرة الأولى بأبي مازن في تونس، عام 1983.

علمتُ أنه كان مسؤولا عن المكتب الإسرائيلي في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. قال لي سعيد حمامي وعصام سرطاوي، المبعوثان الفلسطينيان اللذان كنت على اتصال وثيق بهما منذ حرب يوم الغفران، إنّه كان هو المسؤول. ولكنه لم يكن حاضرا في اللقاء الأول لي مع ياسر عرفات في بيروت المحاصرة.

ذهبتُ إلى تونس مع اللواء ماتي بيلد ومع يعقوب أرنون، مدير عامّ الخزينة سابقا، كوفد رسمي نيابة عن "المجلس الإسرائيلي من أجل السلام الإسرائيلي - الفلسطيني" الذي أسسناه عام 1975. قبل أن نلتقي بعرفات نفسه، طُلب منا الالتقاء بأبي مازن (واسمه الحقيقي هو محمود عباس). كان الهدف هو أن نصل إلى موافقة على اقتراحاتنا، وحينها نقدّم لعرفات الاقتراح المتفق عليه ليأخذ القرار النهائي. كان هذا هو المعتاد أيضًا في جميع اللقاءات الكثيرة في وقت لاحق.

يختلف أبو مازن كثيرا عن عرفات. كان عرفات حيويّا، عفويّا، منفتحا. أبو مازن شخصية متداخلة في نفسها، منطوية، حذرة ودقيقة. كان انطباعي الأول عنه أنّه يشبه مدير مدرسة.

عندما قُتل عرفات (كما أعتقد) كان هناك مرشّحان بارزان ليحلّا مكانه: محمود عباس وفاروق القدومي. ينتمي كلاهما إلى جيل المؤسسين لفتح. كان القدومي أكثر تطرّفا. لم يكن يؤمن بأنّ إسرائيل ستُحقق يوما ما السلام، وأيّد نظام حافظ الأسد في سوريا. اختارت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أبو مازن.

عدما وصل أبو مازن إلى "الحكم" - بين علامتي تنصيص - وجد نفسه في حالة شبه مستحيلة.

قَبِل عرفات الحصول على صفة "سلطة فلسطينية" تحت الاحتلال الإسرائيلي. كان ذلك في نظره مخاطرة محسوبة.

قبل كل شيء، فقد آمن بإسحاق رابين، مثلنا جميعًا (وكما نصحته). اعتقدنا أن رابين في طريقه الصحيحة لإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. كان من المفترض أن تتحوّل الدولة الفلسطينية إلى حقيقة خلال خمس سنوات. لم يكن أحد يتوقع مسبقا باغتيال رابين، والتنبّؤ بخوف خليفته، شمعون بيريس، أو صعود بنيامين نتنياهو إلى الحكم.

قبل ذلك خضع رابين لضغوط "قادة المنظومة الأمنية" وانتهك بنودًا رئيسية في اتفاق أوسلو، مثل المعبر المفتوح بين قطاع غزة والضفة الغربية.

ورث أبو مازن هذا الوضع. مات رابين. أصبح اتفاق أوسلو ظلّا لنفسه. وازدهر الاحتلال والمشروع الاستيطاني أيضًا.

كان هذا الوضع شبه ميؤوس منه من البداية: حكم ذاتي مشكوك به تحت الاحتلال. وفق صفقة أوسلو، التي كان من المفترض أن تستمر لخمس سنوات على الأكثر (حتى عام 1999)، فقد بقي الجزء الأكبر من الضفة الغربية (المنطقة "ج") تحت سيطرة إسرائيلية تامّة، وكان لدى الجيش الإسرائيلي أيضًا الحرية للعمل في المنطقتين الأخريين (المنطقة "أ" والمنطقة "ب"). ببساطة لم يتم انسحاب إسرائيلي آخر، كان من المفترض أن يُنفَّذ.

في الانتخابات الفلسطينية التي جرت في تلك الظروف فازت حماس (بالإضافة إلى أنّ مرشّحي فتح تنافسوا مع بعضهم البعض). عندما منعت إسرائيل والولايات المتحدة نقل السلطة إلى حماس، سيطرت حماس بالقوة على قطاع غزة. وقد امتلأ زعماء إسرائيل بالفرح: فالشعار الروماني القديم "فرّقْ تسُدْ" قد أثبت نفسه.

منذ ذلك الحين عملت جميع الحكومات الإسرائيلية من أجل إبقاء أبو مازن في "الحكم" ولكن مع تقليص مكانته من أجل تحويله إلى عميل للاحتلال. فقدت السلطة الفلسطينية، التي كان من المفترض أن تكون جنين دولة فلسطين، أية سلطة حقيقية. اعتاد أريئيل شارون على وصف أبو مازن بـ "الدجاجة منزوعة الريش".

ومن أجل الوقوف على الخطر الشديد الكامن في حالة أبو مازن يكفينا أن نذكر سابقة تاريخية من القرن الماضي: نظام فيشي.

في صيف عام 1940، احتلّ الألمان شمال فرنسا ودخلوا إلى باريس. استسلم الفرنسيون. تم تقسيم فرنسا إلى قسمين: بقي الشمال، مع باريس، تحت الاحتلال الألماني المباشر، والجنوب، حظي بدرجة ما من الحكم الذاتي. عُيّن المارشال العجوز فيليب بيتان، وهو من أبطال الحرب العالمية الأولى، زعيمًا للجزء غير المحتلّ وحدّد عاصمته في مدينة المنتجع الصغيرة فيشي.

رفض جنرال فرنسي واحد فقط، وهو شارل ديغول، الاستسلام وفرّ إلى لندن مع مجموعة من مؤيّديه. وُضعت تحت تصرّفه هناك محطّة إذاعية، وحاول جعل الفرنسيين يثورون. كان النجاح قليلا.

بخلاف التوقعات استمر البريطانيون في الحرب ("حسنا، إذن وحدنا!")، وأصبح نظام الاحتلال الألماني في فرنسا صارمًا أكثر وأكثر. تم إعدام رهائن، وتم أرسال اليهود إلى معسكرات الموت في بولندا. أصبح اسم فيشي أكثر وأكثر اسما مرادفا للتعاون مع العدوّ، وتزايدت "المقاومة" ببطء. في النهاية، غزت قوات الحلفاء فرنسا، سيطر الألمان على كل أراضي فيشي وهُزموا. عاد ديغول كالمنتصر. تم الحكم على بيتان بالموت، ولكن لم يتم تنفيذ حكم الإعدام فيه.

اختلفت الآراء حول بيتان، ولا تزال كذلك حتى اليوم. فمن جهة أنقذ باريس من الدمار وأنقذ الشعب الفرنسي من فظائع النازيين. بعد الحرب استعادت فرنسا عافيتها بسرعة، في الوقت الذي كانت بلاد أخرى (ومن بينها ألمانيا) أنقاضًا.

ومن جهة أخرى، اعتبر الكثيرون بيتان خائنًا، بطلا من الماضي أصبح متعاونا مع العدوّ، وسلّم مقاتلي المقاومة واليهود للنازيين.

من المفهوم أنه لا يمكن مقارنة الحالات التاريخية المختلفة. والإسرائيليون رغم كونهم محتلّين شديدين، فهم ليسوا نازيين. وأبو مازن ليس بيتان آخر. ولكن هناك أيضًا مقارنات مفيدة.

إحدى الطرق لمحاكمة السياسة هي طرح السؤال: ماذا كانت البدائل؟

لا مبالغة في القول أنّ جميع طرق المقاومة قد جُرّبتْ من قبل الفلسطينيين، وفشل جميعها.

حلم الفلسطينيون في البداية بـ "عصيان مدني" على طريقة غاندي. فشل ذلك تماما. الفلسطينيون ليسوا هنودًا، وسلطات الاحتلال، التي لم يكن أمامها طريقة للتغلّب على المقاومة المدنية، فتحت النيران ببساطة، وهكذا أجبرت الفلسطينيين على أن ينتقلوا هم أيضًا إلى العنف.

فشل العنف. تمتّع الجانب الإسرائيلي بتفوّق عسكري هائل. بواسطة المخبرين والتعذيبات تم اكتشاف جميع خلايا المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك الخلية التي تم الكشف عنها في الأسبوع الماضي.

يأمل الكثير من الفلسطينيين بالتدخّل الدولي. وقد مُنع ذلك من قبل جميع الرؤساء الأمريكيين، واحدًا تلوَ الآخر. والذين استجابوا لمطالب المؤسسة اليهودية الأمريكية. أما مؤيّدو الفلسطينيين في العالم، مثل حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل (BDS)، فهم أضعف من أن يُحدثوا تغييرا.

الدول العربية جيّدة في نشر التصريحات والبرامج، ولكنها غير مستعدّة لمساعدة الفلسطينيين في الواقع.

ماذا تبقّى؟ القليل جدّا.

يؤمن أبو مازن - أو يتظاهر بأنّه يؤمن - بـ "الضغوط الدولية". الكثير من الإسرائيليين، الذين يئسوا من شعبهم، وصلوا إلى نفس النتيجة.

بجهود صبورة ينجح أبو مازن ببطء في اكتساب النقاط في الأمم المتحدة. هذا الأسبوع، تم رفع العلم الفلسطيني في أعلى السارية بين أعلام الدول في الأمم المتحدة. يرفع ذلك من الفخر الوطني (أذكر حدثا مماثلا من ماضينا) ولكن في الواقع فهذا لا يُغيّر شيئًا.

يأمل أبو مازن أيضًا بأنّ الرفض المتبادل بين الرئيس أوباما ونتنياهو سيتسبّب في عدم فرض الأمريكيين حق الفيتو على القرار القادم في مجلس الأمن ضدّ الاحتلال. أشكّ في ذلك. ولكن حتى لو حدث ذلك، فالحكومة الإسرائيلية ستتجاهل القرار ببساطة. سيحدث الأمر ذاته إذا نجح أبو مازن في إدانة ضباط الجيش الإسرائيلي بجرائم حرب في المحكمة الدولية في لاهاي. سيتجاهل الإسرائيليون. إنهم يؤمنون فقط بالحقائق على الأرض.

أفترض أنّ أبي مازن يعرف كلّ ذلك جيّدا. إنّه يحاول كسب الوقت. إنّه يحاول منع انتفاضة عنيفة، انطلاقا من الإيمان بأنّها ستفيد الاحتلال فقط، وهو يشغّل "القوى الأمنية" الخاصة به، والتي دُرّبت من قبل الأمريكيين، من خلال التعاون مع جيش الاحتلال. يقرّبه ذلك كثيرًا من حافّة الهاوية.

لديه عزاء واحد: يبدو أنّ حكم حماس في قطاع غزة قد اضطرّ إلى التوصل إلى نفس الاستنتاج ويحافظ هو أيضًا على نوع من الهدنة مع إسرائيل.

إحدى الفروق الرئيسية بين اليهود في إسرائيل وبين العرب هي التعامل مع عامل الوقت. اليهود بطبيعتهم غير صبورين. لدى العرب هناك الكثير من الصبر. إنّهم يحبّون الجمل، وهو حيوان لديه صبر لا نهائي. هناك لدى العرب تاريخ طويل جدا، وليس هناك تاريخ لدى إسرائيل تقريبًا.

أعتقد أنّ أبي مازن قد توصل إلى استنتاج أنّه في هذه الفترة هناك لدى الفلسطينيين القليل جدّا مما يقومون به. ولذلك فهو يقود استراتيجية الاستعداد طويل الأجل. وهي تشمل منع الصراعات العنيفة، التي سيخسر الفلسطينيون فيها. وهو ينتظر تغيير الوضع. العرب جيّدون في إدارة استراتيجية كهذه، والتي تُدعى "الصمود".

ومع ذلك، فالاحتلال لا يعيش على أمجاد الماضي. فهو يسلب الأرض العربية ويعمل بلا كلل لتوسيع المستوطنات الإسرائيلية.

على المدى البعيد هو صراع من المثابرة وقوة الإرادة. وكما قيل فعلا، فهذا صراع بين قوة لا يمكن إيقافها وبين كتلة لا يمكن تحريكها.

كيف ستتم محاكمة أبي مازن من قبل التاريخ؟

من المبكّر أن نقول.

أعتقد أنّه رجل وطني فلسطيني حقيقي، ليس أقلّ من عرفات. ولكنه في خطر كبير: فمن الممكن أن ينزلق لوضع مشابه لذلك الذي كان فيه بيتان.

لا أستطيع أن أصدّق أنّه فاسد، كما يدّعي أعداؤه، أو أنّه يمثّل طبقة رقيقة من كبار رجال الأعمال الفلسطينيين الذين يزيدون ثروتهم من الاحتلال.

لقد أدخله التاريخ إلى وضع مستحيل تماما. وهو يُظهر شجاعة كبيرة في قيادة شعبه في هذه الظروف.

ليس لهذا الدور الكثير من المجد. فهذا ليس عهد للتمجيد.

قد يذكره التاريخ كشخص قام بأفضل ما يمكنه في ظروف كارثية.

وأنا أتمنى له كلّ التوفيق.