اوري افنيري 

لو كنت في الخامسة والعشرين / أوري أفنيري


تظهر الدراسات أن إحدى أكثر الكلمات استخدامًا في اللغة العبرية هي "سلام". نحن نرحب بذلك "بسلام"، والكثير منا يفترقون هكذا.

ليس معنى كلمة "سلام" مجرد غياب الحرب، كما تتم ترجمتها للغات الأجنبية. إنها أكثر من ذلك. إنها تستند إلى الجذر س.ل.م، وتصف الحالة التي يكون فيها كل شيء بسلام وأمن وراحة. لا يمكن بأية لغة أوروبية وصف جملة مثل "هاجم جنودنا الليلة الأعداء وعاد جميعهم إلى قواعدهم سالمين".

للكلمة العربية "سلام" هناك نفس المعنى.

ولكن حتى في مفهومها الضيق، غياب الحرب، تعبّر المقولة عن توق إنساني عميق. منذ العصور القديمة، كان الناس يتوقون للسلام ويخافون من الحرب. تظهر آية DONA NOBIS PACE M "أمنحنا السلام يا (الله)!" في القداس الكاثوليكي. قام عدد من الملحّنين بتلحينها. ويظهر "السلام" في مصادرنا في عدد لا يُحصى من المرات.

ولكن اليوم أصبحت كلمة "سلام" عندنا تعبيرًا إباحيًّا تقريبًا. لا يزال بالإمكان التعبير عن الطموح لـ "تسوية سياسية"، ولكن هذا التعبير أيضًا يُعتبر مشبوهًا.

في الموضة الآن الإعلان عن أنّ معسكر السلام يحتضر، وأنّ "حلّ الدولتين" قد وافته المنيّة. والذي يُدعى "حلّ الدولة الواحدة" وُلد ميتًا.

الأكثر أمانًا أن تقول: "أنا مع السلام، ولكن..."

منذ وقت قريب كتب الصحفي آري شبيت في "هآرتس" مقالا أدان فيه بشكل متساو "اليمين المتطرّف" و"اليسار المتطرّف"، اللذين يتوقان للحرب وللسلام. لقد نجح في إثارة عاصفة. ذكر اليساريّون أنّهم لم يقتلوا يومًا ما خصمًا سياسيًّا، وبالتأكيد ليس رئيسًا للحكومة، في حين أنّ اليمينيّين قاموا بذلك وأكثر منه.

هل يمكن مقارنة زعيمة ميرتس، زهافا غلئون، بميري ريغيف على سبيل المثال؟ (مؤخرًا قامت ريغيف، وهي امرأة جميلة كانت في يوم من الأيام الناطقة باسم الجيش الإسرائيلي، بتقديم دعوى قضائية ضدّ شخص وصفها في مدوّنته بأنّها "عاهرة تملك فم فتحة المجاري". رفضت المحكمة الدعوى).

هاجم العديد من الناس شبيت على هذه المقارنة. أدان الصحفي عكيفا إلدار، والنحات ذا الاسم العالمي داني كارافان (مصمم الحائط الذي وراء رئيس الكنيست) وآخرون ادعاء شبيت. كيف يمكن المقارنة؟

يقود اليمين باتجاه دولة الفصل العنصري، والتي تكون فيها أقلية يهودية تضطهد الغالبية العربية، بينما يؤيد اليسار وضعًا يعيش فيه كلا الشعبين في سلام جنبًا إلى جنب. أين التماثل؟

يحب الصحفيون التماثل. حين يدينون كلا الطرفين فإنّ ذلك يعطي انطباعًا بالتفوّق والتوازن. تُشعر الكتابة التماثلية القرّاء بأنّهم أشخاص مستقلّون، يعيشون فوق همهمة الغوغاء.

ويجذب التماثل السياسيّين أكثر. يزعم اليساريون واليمينيون على حدّ سواء أنّهم ينتمون إلى "الوسط"، على افتراض أنّ هناك يقع أكبر عدد من الأصوات. سوى ذلك، فحين تكون يمينيّا فإنّك تفترض بأنّ أصوات اليمين مضمونة لك مسبقًا، ومن ثمّ فعليك أن تنفق الجهد الرئيسي في "الوسط". يفكر اليساريّون أيضًا بهذه الطريقة.

إنّ التجديف للوسط يؤدي إلى تشويه النظام السياسي. يخفي الطرفان أو يحلّيان آراءهما الحقيقية لإرضاء الناخبين الذين ليس لهم رأي إطلاقا، والذين لا يهتمّون بأيّ شيء.

بكلمات أخرى، فإنّ الأشخاص الذين لا يهمّهم شيء تحديدا هم الذين يحدّدون من يقود البلاد.

يذكرنا هذا بونستون تشرشل، الذي قال إنّ أضمن طريق لفقدان الثقة بالديمقراطية هي الحديث لخمس دقائق مع ناخب. رغم ذلك، فإنّ تشرشل نفسه قال إنّ الديمقراطية رغم أنها نظام سيء جدًا، إلا أن جميع النظم الأخرى التي تمّت تجربتها حتى الآن أكثر سوءًا.

آري شافيت ليس معارضًا للسلام. على العكس من ذلك، هو يحبّ السلام.

يحبه إلى درجة أنّ يود طرح اقتراح على أبي مازن: إذا أعلن الزعيم الفلسطيني مسبقا بأنّه يقبل اقتراح السلام الذي طرحه إيهود أولمرت، وإذا أعلنت جميع الدول العربية مسبقا بأنّها تتنازل عن حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين، فحينئذ فإنّ شبيت مستعدّ للتفاوض على السلام.

يبدو لي ذلك ساذجًا بعض الشي.

اقترح أولمرت اقتراح السلام الخاص به عندما كان في طريقه للخروج، بعد أن اتُّهم بالفساد. لا أذكر مضمون الاقتراح، ولكنني أخشى أن يكون الآخرون جميعهم قد نسوه كذلك. على أية حال، فقد كان ذلك الاقتراح أقلّ من الحدّ الأدنى الذي يمكن للفلسطينيين قبوله.

إذًا فلمَ يقبل أبو مازن قبل بداية المفاوضات اقتراح السياسي الإسرائيلي الذي هو بالفعل في طريقه للخروج؟

بشروط مسألة اللاجئين، فإنّ شرط شبيت أكثر غرابة. حقّ العودة هو الورقة الأقوى لدى الدبلوماسيّين العرب. قد يتنازلون عنه بعد صراع قاس ومرير، مقابل ثمن ملائم: إقامة دولة فلسطينية، عاصمة في القدس الشرقية، وصل الضفة بالقطاع، وغير ذلك.

التنازل عن هذه الورقة قبل بداية المفاوضات؟ يبدو لي ذلك ليس واقعيًّا قليلا. ولكن هذا يُظهر أنّ آري شافيت خالٍ من فهم معنى السلام.

اليسار الإسرائيلي لم يمت. إنّه في غيبوبة عميقة. في الألمانية يسمّون ذلك "محاكاة الموت"، وهناك خطر في دفن إنسان يبدو ميتا بينما لا يزال حيّا. عندما كنت طفلا كان هذا أحد كوابيسي، أن يتمّ دفني قبل أن أموت حقّا.

حزب العمل هو بقايا بائسة للقوة السياسية الأكبر الذي تزعم المجتمع العبري وأشرف على إقامة الدولة. يقف على رأسه اليوم أشخاص يُرثى لهم، وأوّلهم يتسحاق هرتسوغ، "زعيم المعارضة". في عملية "الجرف الصامد" كان الحزب صامتًا، باستثناء تقديم المشورة غير المطلوبة لبنيامين نتنياهو حول كيفية إدارة الحرب بشكل أفضل.

لم ترفع ميرتس أيضًا صوتها كثيرا. طالما أنّ المدافع تعمل، فإنّ تأملات ميرتس خمدت.

ليس لأي من هذين الحزبين ولو أدنى فرصة لتغيير وجه البلاد. في استطلاعات الرأي العام، ترى نسبة ضئيلة من السكان أنّ هرتسوغ ملائم ليكون رئيسًا للحكومة.

والأحزاب العربية؟ من يسأل؟ لا أحد؟ حسنًا.

قبل أسبوعين، في يوم ميلادي الواحد والتسعين، سألتُ نفسي: لو كنت في الخامسة والعشرين من عمري وتوّاقًا للعمل، كيف كنت سأقترب من مهمّة بناء يسار جديد؟

كانت النصيحة الأولى التي نصحت بها نفسي: لا تتصرّف كالذي وُلد في أستراليا، واشترى بُمَرِنْج جديدا ورمى القديم، الذي عاد وأصابه في رأسه. كنت سأغلق على البُمَرِنْج القديم في الخزانة وسأشتري بُمَرِنْج جديدا وبرّاقا.

كيف؟ قبل كل شيء كنت سأتخلّص من كل الشعارات، الأسماء والرموز، وأولها اسم "اليسار".

ما معنى اسم "اليسار" في نظر الإسرائيلي العادي؟ ولمليون ونصف من القادمين "الروس" الجدد، يعني الاتحاد السوفيتي وستالين والكي جي بي. بالنسبة لملايين الشرقيين فإنّ اليسار هو النخبة الأشكنازية الكريهة، والتي لا تزال تسيطر على مجالات عديدة في الدولة. بالنسبة للمتديّنين من جميع الأنواع فاليسار يعني الجمهور العلماني الذي نسي الله والوصايا الـ 613. بالنسبة للمواطنين العرب، فاليسار يعني خيانتهم من قبل حكومات يساريّة.

نحن نحتاج إلى اسم جديد، يمكن لكل فئات الشعب تقبّله ومحبّته: النساء والرجال، الأشكناز والشرقيّون، المتديّنون والعلمانيّون، اليهود والعرب.

هذا طلب صعب. كنت سأشكّل مجموعات استطلاع لكل واحد من القطاعات المختلفة من أجل الكشف عن شيء أصلي، عبري، يتحدث إلى قلوب الناس، وليس فقط إلى عقولهم.

العواطف مهمّة جدا جدا. منذ زمن طويل واليسار جافّ وعقيم، مملّ ويفتقر إلى القدرة على الإثارة. ليست هناك حماسة في مظاهرات "اليسار الصهيوني"، لا أغان مثيرة، ولا يوجد "سوف نتغلّب".

السلام، الديمقراطية، المساواة، الإنسانية؛ ليست هذه شعارات فارغة وعفا عليها الزمن. إذا أضيف لها احترام للتقاليد اليهودية والعربية وكلام الحكماء، وأيضًا احترام لمساهمة كل واحد من القطاعات المختلفة لصالح الجميع؛ يمكن إنشاء خليط جديد ومؤثر.

وكما يقول مارتن لوثر كينغ، نحن بحاجة لحلم. لرؤية. ليس فقط لبرنامج انتخابي.

والرؤية تحتاج إلى قوة لتنفيذها. دون رؤية جديدة ومؤثرة، لا يمكن إقامة قوة سياسية كبيرة. ولكن دون قوة سياسية كبيرة، ستظلّ الرؤية حلمًا.

يحتضر اليسار القديم بسبب تنازله خلال الأعوام الستّين الأخيرة، دون قتال، عن جميع أجهزة القوة التي كانت بيديه؛ بدءًا من الهستدروت، التي كانت قوية للغاية، وصولا إلى الإعلام. إنّ مرض الانقسام عند اليسار يشلّه الآن أيضًا. لدينا العشرات من المنظّمات من أجل السلام وحقوق الإنسان، والتي تتكون من نساء وأشخاص رائعين يقومون بعمل ممتاز في الكفاح ضدّ الحرب، الاحتلال، عدم المساواة الاجتماعية والقمع، كلّ منظّمة لها مكانتها الخاصة. ولكن وللأسف الشديد فهي لا تستطيع التوحّد حتى من أجل إنشاء الأدوات المشتركة الأساسية.

السياسة هي مسألة فكرة وقوة. علينا أن ننشئ كليهما من الصفر.

لحسن الحظّ لم أعد ابن الخامسة والعشرين، وسأترك المهمة بسعادة لجيل الشباب.

أمس بدأ عام عبري جديد، العام 5775. دعونا نهتمّ بالصوت الذي ينادينا.