اوري افنيري 

فدرالية؟ لمَ لا؟


نشر أبراهام بورغ، رئيس الكنيست الأسبق، الأسبوع الماضي في صحيفة "هآرتس" مقالة مثيرة للاهتمام اقترح فيها فدرالية إسرائيلية.

أثارت هذه المقالة لديّ الكثيرَ من الذكريات.

ففي ربيع 1949، بُعيد التوقيع على اتفاقيات وقف إطلاق النار الأصلية، اجتمعت مجموعة صغيرة لدعم فكرة إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل الجديدة، وقطع عهد بين الشعبَين. في تلك الأثناء، اعتبُرت الفكرة كفرًا مطلقًا، لأنّ إسرائيل أنكرت وجود الشعب الفلسطيني بالمطلق. فقد مُحي اسم "فلسطين" من الخارطة. ضُمّت الضفة الغربية للأردن، وقطاع غزة احتله المصريون.

ضمن المجموعة كان رستم بستوني، عربي مسلم، جبر معدي، عربي درزي، وأنا. (من الغريب أننا نحن الثلاثة انتخُبنا لاحقًا لعضوية الكنيست). لم نتحدث بشكل واضح عن فدرالية، لكننا اتفقنا أن الحدود بين الدولتَين يجب أن تكون مفتوحة للعبور الحر للناس والبضائع. حينما اتضح أنه ليس بوسعنا تأسيس حزب جديد، تشتتت المجموعة.

بعد العدوان الثلاثي (1956) قامت مجموعة جديدة، كان شريكًا فيها، إضافةً إليّ ناتان يلين - مور، قائد "ليحي" (مقاتلو حرية إسرائيل)، بوعز عبرون، عاموس كينان، وآخرون. نشرت هذه المجموعة، التي دُعيت "العمل السامي"، بعد نحو سنة "البيان الأساسي العبري"، وثيقة وحيدة عصرها عرضت نموذجًا مختلفًا كلّيًّا لدولة إسرائيل في كافة المجالات. بين أمور أخرى، اقترح "البيان" إقامة دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل، وفدرالية بين إسرائيل، فلسطين، والأردن. دعوناها "جامعة الأردن" (كان ذلك قبل أن يتبنى جيش الدفاع الإسرائيلي هذا المصطلح). بعد حرب 1967 مباشرةً، نشأت مجموعة دُعيت "فدرالية إسرائيل - فلسطين"، بنفس التشكيلة تقريبًا.

نشر أبا إيفن في السبعينات فكرة "حل بنلوكس" - الحروف الأولى من أسماء الدول بلجيكا، النذرلند (هولندا)، ولوكسمبورغ، التي توحدت حينذاك في شكل فدرالية. ولدهشتي، استخدم ياسر عرفات المصطلح نفسَه حين التقيتُ به للمرة الأولى في بيروت المحاصرة في تموز 1982: "فدرالية لإسرائيل، فلسطين، والأردن، وربما أيضًا لبنان - لمَ لا؟" وكرّر الفكرة نفسها، بالكلمات نفسها، في محادثنا الأخيرة، قبيل وفاته الغامضة.

مع مرور الوقت، تنازلتُ عن استخدام كلمة "فدرالية" لأنني فهمتُ أنها تخيف الطرفَين. رآها الإسرائيليون انتقاصًا من استقلال الدولة، فيما خشي الفلسطينيون من أنّ هذه حيلة صهيونية جديدة لاستمرار الاحتلال بوسائل أخرى. لكن من الواضح أنه في بلاد صغيرة كبلادنا، من غير الممكن أن تعيش دولتان الواحدة إلى جانب الأخرى وقتًا طويلًا دون علاقات وطيدة بينهما. كما تلبي فكرة الفدرالية طموحات الأرض الكاملة، الموجودة لدى الشعبَين.

يجدر أيضًا التذكر أن خطة التقسيم للأمم المتحدة عام 1947 شملت الفدرالية، دون أن تستخدم هذه الكلمة بصراحة. فقد ذكرت الخطة أنّ الدولة العربية والدولة اليهودية ستكونان متحدتَين اتحادًا اقتصاديًّا.

ثمة في العالم عشرات الفدراليات والكونفدراليات، ولا تماثل بين أي اثنتَين منها. فكل واحدة لها فرادتها الخاصة، نتاج التاريخ والظروف الخاصة بها. لكنها جميعًا مؤسسة على ميثاق - "فدوس" باللاتينية، ومن هنا جاء الاسم.

كانت الحرب الأهلية الأمريكية الفظيعة بين فدرالية (الشمال) وكونفدرالية (الجنوب). من المتعارَف عليه أنّ الفدرالية حلف وثيق، بإدارة مركزية قوية، فيما الكونفدرالية حلف أضعف بين دول شبه مستقلة.

القائمة طويلة. سويسرا تعرّف نفسها ككونفدرالية. روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي هي فدرالية، ألمانيا هي "جمهورية فدرالية"، وهكذا دواليك.

كذلك فدرالية بين إسرائيل وفلسطين، مع الأردن أو دونه، ستحتاج إلى ملاءمة نفسها لظروفنا الخاصة، وستتخذ شكلًا خاصًّا بها.

الأساس هو التوقيت.

يشبّه أبراهام بورغ برنامجه ببناية من ثلاثة طوابق، طابقها الأول حقوق الإنسان، طابقها الثاني الدولتان (إسرائيل وفلسطين)، وطابقها الثالث الفدرالية.

تُبنى البناية من الأسفل، طابقًا تلو طابق. قبل أن يكون ممكنًا بناء الفدرالية، يجب بناء طابق الدولتَين: قيام الدولة القومية الإسرائيلية إلى جانب الدولة القومية الفلسطينية. ما دامت دولة فلسطين لم تقم إلى جانب دولة إسرائيل، في إطار اتفاق سلام نهائي، فلا معنى لفكرة الفدرالية.

معنى هذا قيام دولة فلسطين على حدود 1967، عاصمتها القدس الشرقية، كدولة حرة، مستقلة، وذات سيادة، دولةً قوميةً للشعب الفلسطيني.

ما دامت هذه الفكرة الأساسية لم تتحقق، عبر حل كل المشاكل المرافقة، فلا معنى لأي شيء آخر.

الاحتلال هو جرح يفيض دمًا، ويجب بادئ ذي بدء شفاؤه في إطار سلام. لا يمكن قيام فدرالية حقيقية بين مُحْتَلِل ومُحتلَل. الفرضية الأساسية للفدرالية هي تساوي المكانة، حتى دون التساوي في القوة.

حلّ الدولتَين يضمن سلامًا - على الأقل سلامًا رسميًّا يضع حدًّا لمئة عام من النزاع. بعد تحقيق سلام كهذا، يمكن ويجدر التفكير في المرحلة القادمة: تمتين السلام وتحويله إلى واقع يومي في حياة الناس.

لنفترض أنه مع انتهاء جولة المحادثات الحالية، أو مع انتهاء جولة أخرى مستقبَلًا، سنتوصل إلى سلام رسمي، معناه إنهاء كل الشكاوى المتبادلة، كما دعا ذلك جون كيري. في هذه المرحلة يمكن التفكير في فكرة الفدرالية.

بمَ نفكّر؟ بفدرالية وثيقة أم بكونفدرالية ضعيفة؟ أية مناصب يقبل الطرفان - برغبتهما الحرة - نقلها من المستوى القومي إلى المستوى الفدرالي؟

يُرجّح ألّا تتنازل إسرائيل عن حقها في اتخاذ قرارات تتعلق بارتباطها بالشتات اليهودي وبأمور متعلقة بالهجرة. يُرجّح أنّ الأمر نفسه يصحّ في الفلسطينيين، بخصوص علاقتهم بالعالم العربي وعودة اللاجئين.

ماذا بالنسبة للعلاقات الخارجية؟ يُخيّل لي أنه في جميع الفدراليات والكونفدراليات الموجودة، تقرّر السلطة المركزية في هذه الأمور. شؤون الجيش والأمن أكثر إشكالية.

فحسب رأيي، تُعنى الفدرالية أساسًا بشؤون الاقتصاد، حقوق الإنسان، حرية الحركة، وما شابه.

وأهم من ذلك كلّه: يجب أن تُدار المفاوضات بين دولة إسرائيل ودولة فلسطين في شأن الفدرالية بين شريكَين متساويَين، دون ضغوط، وبنفس المستوى.

هل سيكون هذا نهاية الطريق في السلام الحقيقي؟ حسب رأيي، هذه هي الخطوات الأولى فقط.

إذا كان حلّ الدولتَين الطابق الأول، والفدرالية هي الطابق الثاني، يمكن توقع أن يكون الطابق الثالث اتحادًا إقليميًّا، شبيهًا بالاتحاد الأوروبي.

في ظلّ العواصف التي تعصف حاليًّا بالبلدان العربية، من الصعب توقّع أن يؤدي "الربيع العربي" إلى حالة من الهدوء والاستقرار. لكنّ ذاكرتنا قصيرة المدى. فالاتحاد الأوروبي هو نتيجة مباشرة للحرب الأفظع في تاريخ الجنس البشري - الحرب العالمية الثانية، التي راح ضحيتَها ملايين الأوروبيين.

اتحاد إقليمي (أدعوه عادةً "الاتحاد السامي")، يضم إسرائيل وفلسطين، سيجلب البركات لكل الشركاء فيه. ففي يومنا هذا، تشغل اتحادات إقليمية كهذه مكانة متزايدة في العالم.

الطابق الأعلى للبناية سيكون نظامًا عالميًّا جديدًا، نوعًا ما لإدارة عالمية، تبرز مكامن ضعفها منذ اليوم. أنا واثق أنها لن تبصر النور قبل نهاية هذا القرن. ليست هذه الرؤيا يوطوبية أكثر مما كانت رؤيا الاتحاد الأوروبي قبل مئة عام، حين اقترحت حفنة من الأيديولوجيين الثاقبي البصر ذلك.

منذ الآن، ثمة قضايا كبرى، لا إمكانية لحلها على المستوى القومي، أو حتى على المستوى الإقليمي. من بينها: إنقاذ الكرة الأرضية من كارثة بيئية، تنظيم الاقتصاد العالمي، منع الحروب والحروب الأهلية، تأمين حقوق الإنسان في كل مكان، مساواة النساء، حماية الأقليات، تأمين الغذاء لكل البشر، القضاء على الأمراض - كل هذا يتطلب إدارة عالمية ذات قدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها.

سيكون نظامٌ كهذا شبيهًا بالضرورة بفدرالية عالمية. لا يعني ذلك اختفاء الدول القوميّة. فهي ستستمر، كما هي الحال اليوم في الاتحاد الأوروبي. لكن سيادتها ستكون مقلّصة أكثر.

هل يمكن أن يكون نظامٌ عالميّ كهذا ديمقراطيًّا؟ يجب أن يكون. فيومًا ما، سيختار الجنس البشري برلمانًا عالميًّا، كما ينتخب الأوروبيون اليوم البرلمان الأوروبي، الذي يتزايد تأثيره ببطء، ولكن بثبات.

إنها رؤيا ليوم قادم، لكن يجدر التأمل بها منذ الآن، رغم أنها تُرى أشبه بيوطوبيا – كما كانت الفكرة الصهيونية أيام هرتسل.

لكن بالنسبة لنا، في بلادنا الصغيرة هذه، فإنّ المهمة العاجلة هي تحقيق السلام - سلام بين شعبَين يعيشان بتناغُم، أحدهما إلى جانب الآخر في دولتَين شقيقتَين، دولة إسرائيل ودولة فلسطين.