|
||
طيلة ستين عامًا كان يبدو أن لعنة الآلهة قد حلت بالرجل، مثلها مثل لعنة سيزيبوس، الرجل الذي فُرض عليه دحرجة صخرة ثقيلة إلى قمة الجبل، وفي كل مرة كانت الصخرة تنزلق من يديه وتتدحرج إلى الحضيض. أقول بصراحة: لقد دارت حياتي وحياته نوعًا ما بخطين متوازيين. إنه يكبرني بشهر واحد. كلانا جاء إلى فلسطين حين كنا أولادا. كلانا شارك في الحياة السياسية منذ سن المراهقة. ولكن هنا ينتهي وجه الشبه. لقد التقينا للمرة الأولى قبل ستين عامًا، حين كنا نبلغ من العمر 30 سنة. كان بيرس مدير عام أهم وزارة حكومية، وكنت أنا ناشر ومحرر المجلة الأسبوعية الأكثر هجومية. لم نحب بعضنا من النظرة الأولى. لقد كان مساعد بن غوروين الرئيسي. كنت أنا العدو اللدود لبن غوريون (كما عرّفني رئيس الشاباك آنذاك). منذ ذلك الحين صادفنا بعضنا البعض مرارًا وتكرارًا. لم نتحول إلى صديقين حميمين. منذ طفولته في بولندا، اشتكى بيرس (وكان اسم عائلته آنذاك برسكي) من أن زملاءه في المدرسة (اليهودية) يضربونه من دون أي سبب. وقد اضطر أخوه الصغير إلى حمايته. لقد قدِم إلى البلاد مع عائلته، تعلم في قرية الشبيبة الأسطورية بن-شيمن ومثله مثل جميع زملائه، توجه إلى الكيبوتس. ولكن مهاراته السياسية كانت قد برزت منذ نعومة أظفاره. لقد كان مرشدًا في حركة "الشبيبة العاملة". عندما انقسمت الحركة، وانضم معظم المرشدين فيها إلى "وحدة العمل"، التي كانت تعتبر حركة شابة ونضِرة، التصق بيرس بمباي وهكذا استقطب إليه انتباه زعماء الحزب. في عام 1948 اتخذا قرارا حاسمًا أكثر بكثير. كان ذلك هو الحدث الأهم في حياة ذلك الجيل. لقد سارع الجميع إلى الالتحاق بالوحدات المحاربة. ولكن بيرس لم يفعل ذلك – فقد أرسله دافيد بن غوريون إلى خارج البلاد ليشتري السلاح. كانت هذه الوظيفة وظيفة هامة جدا، غير أنه كان بالإمكان تنفيذها من قبل شخص مسنّ. اعتُبر هذا الأمر تهرّبًا. وقد لاحق ازدراء جيل 1948 بيرس طيلة عشرات السنوات. في سن 30 سنة، عينه بن غوريون ليدير وزارة الأمن - وهذه ترقية هائلة، ضمت له مستقبلا باهرا. وبالفعل، فقد لعب دورًا هاما في دفع إسرائيل إلى حرب عام 1956. كانت فرنسا متورطة آنذاك في حرب التحرير الجزائرية، وكان يبدو لها أن عدوها الرئيسي هو الرئيس المصري جمال عبد الناصر. كانت باريس بحاجة إلى إسرائيل في الهجوم الذي كان هدفه إسقاط عبد الناصر وقد نجح بيرس في دفع بن غوريون إلى الهجوم. كعرفان من الفرنسيين له، فقد قدموا له المفاعل النووي في ديمونا. (أعتقد أن تلك الحرب كانت بمثابة كارثة سياسية على إسرائيل. لقد حفرت الهوّة بين إسرائيل والعالم العربي). كان بيرس في تلك الفترة كلها صقرًا متطرفًا، وكان عضوًا مركزيًا في مجموعة كشفت المجلة الأسبوعية "هعولام هازيه" النقاب عنها وتوجتها بلقب "شباب بلاط بن غوروين". لقد كنا نشتبه بأن النية هي السيطرة على الحكم في الدولة بطرق غير ديموقراطية. حين اقترب بيرس كثيرًا من القمة، سقطت الصخرة: قام قدامى حزب بن غوريون بإقصائه، حيث قبلوا تقديرنا، وأقام "رافي". لقد عمل بيرس جاهدًا من أجل الحزب الجديد، الذي تتوج بأسماء رنانة، ولكنه حظي بعشرة مقاعد فقط وتم إقصاؤه إلى المعارضة. وها هي الصخرة في الأسفل مرة أخرى. حرب حزيران هي التي أنقذت الوضع. عشية الحرب، انضم حزب رافي إلى حكومة الوحدة الوطنية، ولكن في اللحظة الأخيرة ظهر موشيه ديان وخطف الجائزة – لقد تم تعيينه وزيرًا للأمن وتحول إلى معبود الجماهير في البلاد والعالم. وبقي بيرس في الظلال. كانت الفرصة التالية عقب حرب تشرين. لقد تم طرد غولدا مئير وموشيه ديان من السلطة بهبة من الغضب الجماهيري، وكان بيرس هو المرشح الطبيعي لرئاسة الحكومة. في اللحظة الأخيرة ظهر إسحق رابين من العدم وخطف تاج الزعامة. وقد اضطر بيرس إلى الاكتفاء بمنصب وزير الأمن. كانت السنوات الثلاث التي تلت ذلك بمثابة رواية من النزاع الدفين بين بيرس ورابين، وفي أعقابه أطلق رابين على بيرس كنية "مخرّب لا يكلّ". بهدف تدبير المكائد لرابين، صادق بيرس، من بين أمور أخرى، على إقامة المستوطنة الأولى في قلب الضفة الغربية - مستوطنة كدوميم. يكننا أن نكنّيه وبحق أب الحركة الاستيطانية، كما سموه أب القنبلة النووية. انتهى هذا الفصل بـ "حساب الدولارات". عندما أنهى إسحق رابين مهمته كسفير لإسرائيل في واشنطن، أبقى في البنك الأمريكي حساب مفتوح بالدولار – حيث كان ذلك بمثابة مخالفة جنائية. وقد كانت تنتهي هذه المخالفات عادة بغرامة مالية. ولكن تم فتح ملف تحقيق جنائي ضد ليئا رابين، مما اضطر رابين إلى الاستقالة لحمايتها. ها هي صخرة بيرس تقترب أخيرا من القمة. ولكن الآلهة قد سخرت فقط – فقد مني الحزب برئاسة بيرس بأكبر هزيمة في تاريخه. بعد 44 سنة متواصلة من السيطرة على الاستيطان وعلى الدولة، حدث "الانقلاب". لقد صنع مناحيم بيغين السلام مع مصر، ووقف موشيه ديان إلى جانبه. ولكن كان يبدو أن بيرس في الانتخابات القادمة قد تغلب عليه رغم ذلك. في مساء يوم الانتخابات، تم تتويج بيرس في التلفزيون كرئيس الحكومة التالي. في الصباح استيقظت الدولة ليكون بيغين هو رئيس الحكومة. عشية حرب لبنان الأولى، التقى بيرس بيغن وشجعه على اجتياح لبنان. هذا لم ينهه عن إلقاء خطاب بعد ذلك في المظاهرة الكبيرة ضد الحرب. وقد انتهت الانتخابات التالية بالتعادل. ها هو بيرس يحظى أخيرًا بلقب رئيس الحكومة، ولكن ذلك كان في إطار اتفاقية تبادل مع إسحق شامير. بعد أن بدّله شامير، حاول بيرس إسقاطه بواسطة مؤامرة مع المتدينين وفشل فشلا مخجلا. وما كان من رابين، بلدغاته الاعتيادية، إلا أن أسماه "التمرين النتن". وصلت عدم شعبية بيرس إلى حضيض جديد. كانوا يشتمونه ويرمونه بحبات البندورة في الاجتماعات الانتخابية. حين طرح في منتدى حزب السؤال البديهي "أنا خاسر دائمًا"؟ رد عليه الجمهور وكأنه جوقة واحدة: "نعم!" بهدف تغيير حظه، استعان بجرّاح في مجال التجميل وغير وجهه. لقد اختفى مظهر "الكوكر سبنيال" (اسم كلب – المترجم) عن وجهه. ولكن لا يمكن لأي جراح تجميل أن يصحح الفظاظة. ولا جودة خطاباته – هذا الرجل الذي ألقى في حياته عشرات آلاف الخطابات، لم يعبّر ذات مرة عن فكر مميز أي كان. خطابته كلها مؤلفة من استعارات سياسية ذابلة. ولكنها تستعين بصوت عميق ومقنع - وهذا ما يحسده عليه كل السياسيين. (على فكرة، هذا يدحض الرواية وكأنه قرأ آلاف الكتب. لا يمكن قراءة هذا العدد الهائل من الكتب من دون أن تظهر آثارها في الكتابات والخطابات. لقد كشف لي أحد مساعديه ذات مرة سرًا أنه حضّر ملخص لكتب رائجة، لكي يتمكن بيرس من اقتباسها من دون أن يعاني مشقة قراءتها). في هذه الأثناء تحول بيرس من الصقر المتطرف إلى داعي السلام المتطرف. كان له نصيب في التوصل إلى اتفاقية أوسلو، ولكن هذا المجد كان قد حصده إسحق رابين. (هذا ما حدث أيضا قبل ذلك، غداة عملية عنتيبه التي حظيت بمجد عظيم، حين كان بيرس يشغل منصب وزير الدفاع ورابين كان يشغل منصب رئيس الحكومة). بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو، كانت اللجنة النرويجية تنوي منح رابين وعرفات جائزة نوبل للسلام. قام بيرس بتفعيل ضغط دولي مكثف بهدف إضافة اسمه. ولأن ثلاثة أشخاص فقط يمكنهم أن يتقاسموا الجائزة، لم يتم منح الجائزة لأبي مازن، الذي وقع على الاتفاقية مع بيرس. كان اغتيال رابين بمثابة تحول. لقد وقف بيرس إلى جانبه عندما أنشد "نشيد السلام". وقد سبقه بيرس وهو يهبط الدرج. في الأسفل، كان يغئال عمير ينتظر، والمسدس المحشو بيده. سمح القاتل لبيرس بالمرور، وقتل رابين. هذا كان أيضا بمثابة إهانة حارقة. أخيرا، كان بيرس رئيس حكومة حقيقي. ولكن عوضا عن أن يستغل أذرع الجمهور المفتوحة بسبب الاغتيال، وأن يعلن عن الانتخابات فورا، التي كان سوف يُنتخب فيها بأغلبية ساحقة كوريث للزعيم المحبوب، أراد بيرس أن يتم انتخابه لشخصه. لذلك أجّل الانتخابات. لقد كان ذلك بمثابة خطأ. حين قرر بيرس قتل يحيى عياش، "المهندس" الذي كان يحضر قنابل حماس، رد التنظيم بسلسلة مرعبة من العمليات الانتحارية. وبهدف تحسين صورته، قرر بيرس اجتياح لبنان، ولكن هذه المسألة انتهت بمجزرة كفر كنا، حين قصفت مدافع الجيش الإسرائيلي منشأة لاجئين تابعة للأمم المتحدة. هذا أنهى الحملة بشكل مخجل. لقد خسر بيرس الانتخابات وفاز بها نتنياهو. حين وصل أريئيل شارون إلى سدّة الحكم، عرض عليه بيرس خدماته. رجل السلام، الذي تنبأ بـ "الشرق الأوسط الجديد"، قبل على نفسه تبييض اسم شارون، الذي كان يعتبره العالم رجلا دمويًا، ومسؤولا عن أعمال المجازر في قيبية وفي مخيمات اللاجئين صبرا وشاتيلا. هذه الخدمة ساعدت شارون في قبوله في المجتمعات العادلة. لم يفز بيرس أي مرة طيلة حياته السياسية الطويلة في الانتخابات. لذلك قرر في نهاية الأمر التخلي عن مسيرته السياسية وأن يتم انتخابه رئيسًا للدولة. كان نصره مؤكدًا، ناهيك عن أنه قد وقف أمامه سياسي صغير من حيروت، وهو موشيه كتساف. ويا للعجب: فاز كتساف الصغير على بيرس الكبير. كانت هذه هي الإهانة الأخيرة. وقد سخر الجمهور بقوله: "إذا كانت هناك انتخابات لا يمكن خسارتها، فبيرس سوف يخسرها على الرغم من ذلك". ولكن يبدو أن الآلهة قررت أن هذا يكفي. تورط كتساف في فضيحة جنسية، وخلت الطريق. أخيرا تم انتخاب بيرس رئيسًا للدولة. منذ ذلك الوقت وهو يحتفل. الآلهة التي اعتراها الندم تؤثر عليه بشكل إيجابي. الجمهور، الذي مقته كل حياته، يحتضنه بالمحبة. السياسيون يكرمونه كأحد كبار زعماء العالم. لا شيء يكفيه. كل حياته كان عطشًا للمحبة، والآن يبتلع المدانهات كبئر ليس له قرار. إنه يثرثر بلا توقف عن "السلام" و "الشرق الأوسط الجديد"، ومن دون أن يفعل شيئا يُذكر لتحقيق الرؤيا. مذيعو التلفزيون لا يبذلون جهدا لإخفاء البسمة الخفيفة حين ينقلون أقواله. من الناحية العملية، يُستخدم بيرس كورقة تويج لأعمال نتنياهو، الذي يواصل بناء المستوطنات ويدمر احتمالات السلام. وقد وصلت الأمور إلى ذروتها يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع. فحين كان يجلس إلى جانب نتنياهو، احتفل بيرس بعيد ميلاده الـ 90 (قبل شهرين من التاريخ الحقيقي). وقد جلست من حوله نخبة من المشاهير المحليين والعالميين، وهو يتمتع بتألقهم وكأنه مراهق. لقد كلف ذلك الكثير من المال – كان قد حصل بيل كلينتون لوحده على نصف مليون مقابل المشاركة في الاحتفال ويمكن أن نتخيل فقط كم تلقى الآخرون. ولكن بعد كل هذ السنوات التي نكّلت به الآلهة فيها، فإنه يستحق ذلك. حتى الآلهة ضحكت بقلب مبتهج. |