اوري افنيري 

البحر والنهر / أوري أفنيري


"فلسطين لنا، من النهر إلى البحر!" هذا ما أعلنه قبل أسبوع قائد حماس، خالد مشعل، في احتفال النصر الكبير في غزة.

"أرض إسرائيل هي لنا، من البحر إلى النهر!" يعلن سياسيون يمينيون في إسرائيل كلما سنحت الفرصة.

يبدو كلا التصريحين متماثلان، باستثناء اسم البلاد.

لكن إذا تمت قراءتهما مرة أخرى بإمعان، فسيتضح أن فيهما فرق صغير.

الاتجاه.

من البحر إلى النهر، من النهر إلى البحر.

يوجد في هذا الفارق معنى أكثر بكثير مما يُخيل للمرء من النظرة الأولى. إنه يبيّن كيف يحدد المتحدث موقعه – كمن يأتي من الشرق أو من الغرب.

عندما يقول شخص "من النهر إلى البحر"، فإنه يرى نفسه تابعا للمنطقة الكبيرة المعروفة في الغرب (وإسرائيل) باسم "الشرق الأوسط"، جزء من قارة آسيا. إن مصطلح "الشرق الأوسط" بحد ذاته هو مصطلح مستهتر ذو نبرة استعمارية – إنه يرمز إلى أنه لا توجد لهذه المنطقة مكانة مستقلة تخصها، وإنما هي موجودة فقط عند النظر إليها من مركز عالمي بعيد. "الشرق" من أين؟ من برلين؟ من لندن؟ من واشنطن؟

عندما يقول شخص "من البحر إلى النهر"، فإنه يرى نفسه كأنه يأتي من الغرب ويعيش في رأس جسر الغرب، بحيث تكون وجهته نحو أرض غريبة ومعادية.

لقد شهدت هذه البلاد، عبر تاريخها الطويل، الذي يعود آلاف السنين إلى الوراء، موجات كثيرة من الغزاة، الذين أتوا ليستوطنوا هنا.

معظم هذه الغزوات أتت من الشرق. الكنعانيون، العبريون، العرب وكثيرون غيرهم جاؤوا واستوطنوا هنا، اختلطوا بالمجتمع المتواجد واندمجوا بسرعة. لقد خلقوا امتزاجات جديدة وأقاموا علاقات مع البلدان المجاورة. لقد تحاربوا، صنعوا السلام، نجحوا في الأيام الجيدة وعانوا في فترات القحط.

الممالك الإسرائيلية القديمة (ليست الأسطورية منها، مثل مملكة شاؤول، داوود وسليمان، بل تلك التي تواجدت على أرض الواقع، مثل مملكة آحاب وما جاء بعدها) كانت جزءًا طبيعيًا من البيئة، كما تشهد الشهادات الآشورية وغيرها.

وهكذا كان الغزاة العرب في القرن السابع. لقد استوطنوا بين السكان المحليين. لقد انتقل هؤلاء مع مرور الزمن من المسيحية واليهودية إلى الإسلام، تبنوا اللغة العربية وتحوّلوا إلى "عرب"، كما تحوّل الكنعانيون من قبلهم إلى "بني إسرائيل".

لقد كانت مختلفة تماما طريقة الغزاة الذين أتوا من الغرب.

لقد جاؤوا في ثلاث موجات: الفلسطينيون القدماء في الزمان الغابر، الصليبيون في العصور الوسطى والصهاينة في العصر الحديث.

عند قدومه من الغرب (وحتى عبر البر، كما هي الحال في الحملة الصليبية الأولى)، يرى الغازي أمامه قارة شاسعة ومعادية. إنه يبقى على الشاطئ، يقيم رأس جسر ويوسّعه. هنالك معنى كبير لحقيقة أن المستعمر الـ"غربي" لا يخطط لنفسه حدودًا على الإطلاق – إنه يتقدم ويتراجع حسب قدراته وظروفه.

تلائم هذه الصورة التاريخية فقط، طبعا، الغزاة الذين أتوا واستوطنوا في البلاد. إنها لا تتعلق بالإمبراطوريات التي أرادت أن تحكم المنطقة. لقد أتت تلك من جميع الجهات واستمرت في طريقها – الحثيون والمصريون، الآشوريون والبابليون، الفُرس واليونانيون، الرومان والبيزنطيون، العرب والمغول، الأتراك والبريطانيون. (اجتاح المغول البلاد بعد أن دمروا العراق وهُزموا بجانب عين حارود على يد القائد العسكري المسلم ببرس، وريث صلاح الدين، في إحدى المعارك المصيرية في التاريخ. لا يتعلم الأولاد في إسرائيل عن ذلك شيئا).

استمرت الإمبراطوريات الشرقية بشكل عام في طريقها إلى مصر وما غربها. لقد ضموا شمال أفريقيا إلى المنطقة السامية. واصلت الإمبراطوريات الغربية، مع ذلك، من هنا إلى الشرق، متجهة إلى الهند.

تحوتيمس، قورش، الإسكندر، قيصر، نابوليون وآخرون جاؤوا وذهبوا – ولكن لم يترك أحد منهم علامة أبدية على البلاد.

للصهاينة، كما لسابقيهم الذين أتوا من الغرب، كانت وجهة نظر رأس الجسر. إنهم يحافظون عليها حتى يومنا هذا.

في الحقيقة، لقد كانت لديهم هذه الرؤية قبل أن يتم تأسيس الحركة الصهيونية بشكل رسمي. في كتابه المقدس، "دولة اليهود"، كتب بنيامين زئيف هرتسل، "المتنبئ بالدولة"، أن الدولة اليهودية المستقبلية ستشكل في فلسطين جزءًا من "السور ضد آسيا"، وهي ستعمل أيضا كـ"نقطة أمامية للحضارة ضد البربرية".

ليست مجرد حضارة، بل "الحضارة" بأل التعريف. وليست مجرد بربرية، بل "البربرية" بأل التعريف. إن قارءًا في نهاية القرن التاسع عشر لم يكن بحاجة إلى تفسير: الحضارة كانت بيضاء، أوروبية. وأما البربرية فكانت ما تبقى – البنيون، السود، الحمر أو الصفر.

في إسرائيل اليوم، بعد مرور خمسة أجيال، لم تتغير هذه العقلية. لقد نطق إيهود باراك بالكلمة التي تصف وجهة النظر هذه أكثر من أي شيء: "فيلا في الأدغال".

فيلا: حضارة، نظام، الغرب، أوروبا. الأدغال: البربرية، محيطنا العربي/إسلامي، مكان يعج بالحيوانات المفترسة، الذي يمكن لأي شيء فيه أن يحدث في أي لحظة.

السياسيون من جميع الجوانب والأطياف يكررون هاتين الكلمتين بلا انقطاع. يفضّل الضباط ذوو الرتب العالية استبدالها بكلمة واحدة: "الحارة". أمثلة يومية: "في الحارة التي نعيش فيها لا يمكننا أن نهدأ للحظة!" أو "في حارة كحارتنا نحن بحاجة إلى سلاح نووي!"

قبل 57 عامًا قال موشيه ديان، في أهم خطاب في حياته، بلغة شاعرية: "نحن جيل استيطان، ومن دون الخوذة الفولاذية وفوهة البندقية لا يمكننا زرع شجرة ولا بناء بيت... ذلك ما كُتب على جيلنا، ذلك واقع حياتنا - أن نكون جاهزين ومسلحين، أقوياء ومتينين - فإن سقطت الحربة من قبضتنا، لقينا حتفنا!"

في خطاب هام آخر، بعد 12 عامًا، وضّح ديان أنه لم يقصد جيلا واحدا فقط، بل أجيالا كثيرة ستأتي. كانت تلك هي العقلانية المنهجية لرأس الجسر، التي لا تعرف حدودا للوقت والمنطقة.

(ملاحظة شخصية: قبل 66 عاما، وقبل وقت قصير من قيام الدولة، نشرت كراسة افتتحتها بالكلمات: "عندما قرر آباؤنا الصهيونيون إنشاء "ملجأ آمن" في بلاد إسرائيل، كان أمامهم خيار بين طريقين: لقد كان بإمكانهم الظهور في مقدمة آسيا كمحتل أوروبي، يرى نفسه رأس جسر للعرق "الأبيض" وسيد لـ"أبناء البلاد"... [أو] كشعب آسيوي يعود إلى موطنه، يرى نفسه وريثا لتقاليد سياسية وثقافية للعرق السامي و [المستعد للمشاركة] في حرب التحرير لشعوب المنطقة من ظلم [الاحتلال] الأوروبي").

بناء على ذلك، فإن الفرق بين "من البحر إلى النهر" وبين "من النهر إلى البحر" ليس فقط سياسيًا، وهو بعيد من أن يكون سطحيًا. إنه يتغلغل إلى عمق النزاع.

لنعد إلى مشعل. لقد كرر في خطابه الخط الفلسطيني الأكثر تطرفا. كان يمكن أن يُسمع خطاب شبيه قبل سبعين عاما من المفتي، الحاج أمين الحسيني. لقد ساعد هذا الأسلوب الصهاينة، وقد أحل بالشعب الفلسطيني كوارث وعذابات لا حدود لها، حتى وصل إلى وضعه الحالي.

يقع بعض اللوم على اللغة العربية. إنها لغة جميلة، قادرة على أن تجعل المتحدث ثملاً بسهولة. يعج التاريخ العربي الحديث بالخطابات الرائعة، التي ثملت من ذاتها وفقدت التواصل مع الواقع.

إني أذكر إحدى المناسبات التي ألقى فيها القائد المصري، جمال عبد الناصر، وهو خطيب لا مثيل له ومعبود الجماهير العربية، خطابًا عاديًا. في أوج الخطاب، سُمع هتاف من الجمهور: "فلسطين، يا جمال!" نسي عبد الناصر الموضوع الذي كان يعالجه وشرع يتحدث بحماسة شديدة عن القضية الفلسطينية. لقد حمّس نفسه أكثر فأكثر، حتى أصبح في حالة ترانس تقريبا. لقد سببت له هذه الحالة النفسية أن يدخل في كمين نصبه له الجيش الإسرائيلي عام 1967. (لحسن الحظ، إن سياسيينا، على الأقل منذ مناحم بيغن، هم جميعهم متحدثون سيئون، ويتحدثون لغة عبرية سيئة الجودة، ركيكة).

يمكن القول، بالطبع، أن خطاب مشعل أمام الجماهير المحتشدة معدّ فقط للاحتياجات السياسية الداخلية وليست له أهمية. ما يهم فقط هو ما يقوله من وراء الكواليس في القاهرة وغزة. يبدو ذلك منطقيا. لكنه ليس كذلك.

أولا، لأن الخطابات تؤثر على الخطيب. سيكون من الصعب جدًا على مشعل أن يخلص نفسه من المصيدة الكلامية التي نصبها لنفسه – مع أن المستمعين العرب معتادون على التعامل مع الخطابات الثقيلة ببعض الشك.

ثانيا، لأن الخطابات العربية العنصرية تتحول فورًا إلى سلاح في يد السياسيين المتطرفين لدينا. إنها تقوي الادعاء الرائج، الذي وضعه إيهود باراك أيضا، وهو أنه "ليس لدينا شريك للسلام".

إن توأم مشعل لدينا، أفيغدور ليبرمان، قد استخدم خطاب مشعل كسلاح ضد الأوروبيين، الذين يحتجون على مشروع المستوطنات المدمر الجديد الذي يخوضه ببنيامين نتنياهو.

على أرض الواقع، مشعل مستعد الآن أكثر من أي وقت مضى للتنازل (كما كان عبد الناصر حين ألقى ذلك الخطاب). لقد كشف النقاب عن أنه على الرغم من عدم استعداده للتوقيع بنفسه على اتفاقية سلام مع إسرائيل، فإنه مستعد لقبول اتفاقية سلام يوقع عليها أبو مازن، شريطة أن يصادق عليها الشعب الفلسطيني باستفتاء شعبي. لقد قال أيضا أن سلاما كهذا يجب أن يرتكز على حدود 1967. إنه يعلم، بالطبع، أن أبا مازن مستعد لحل "متفق عليه" لمشكلة اللاجئين – بما معناه، "متفق عليه" مع إسرائيل، بحيث يمكن لعدد رمزي فقط من اللاجئين العودة إلى الأراضي داخل إسرائيل.

المصيبة هي أنه في خطابه الشعبي قال مشعل العكس التام، وأسوأ من ذلك. هكذا فعل عبد الناصر، وهذا ما قتله. ذلك ما فعله أيضا ياسر عرفات، حتى فهم الحماقة الكامنة في هذه الطريقة فتخلى عنها. كذلك خالد مشعل سيفهم ذلك، عندما يحين الوقت.

لا مهرب من الحقيقة البسيطة: ستكون هناك دولتان بين النهر والبحر – وأيضا بين البحر والنهر.

وإلا، فستتحول البلاد كلها – من البحر إلى النهر ومن النهر إلى البحر - إلى مقبرة واحدة هائلة.