هذا النداء الصادر من القلب سمعناه عشرات المرات كل يوم في الموجة المفتوحة التي بثها التلفزيون، وقد تفوه بها السكان المُلاحقون في البلدات الجنوبية.

لقد حل هذا الشعار محل الشعار الذي كان سائدًا طيلة عشرات السنوات: "زبينغ (لكمة) وانتهينا".

وهذا لم يكن فعالاً.

حين تتلاشى سحابة "عمود السحاب"، نحن نرى أن المنتصر الكبير هي حماس.

حتى هذه الجولة، كان لحماس وجود قوي في قطاع غزة، ولكن لم تكن لها أية مكانة دولية. كان الوجه الدولي للشعب الفلسطيني هو وجه السلطة الفلسطينية التابعة لأبي مازن.

ليس بعد الآن.

لقد منحت حملة "عمود السحاب" اعترافا دوليا واسع النطاق لدولة حماس المصغّرة في غزة. قصد غزة رؤساء دول ومجموعات من الشخصيات الأجنبية الأخرى.

في البداية، حضر حاكم قطر الثري جدا وكبير التأثير، وهو مالك قناة "الجزيرة". لقد كان أول رئيس دولة يحضر إلى غزة. بعده، حضر رئيس الحكومة المصرية، وزير الخارجية التونسي، سكرتير الجامعة العربية ومجموعة من وزراء الخارجية في العالم العربي وتركيا (ولكن ليس وزير خارجية السلطة الفلسطينية).

لقد نظرت العلاقات الدبلوماسية إلى غزة على أنها دولة فعلية، وفيها حكومة فعلية (حماس). لم تخرج وسائل الإعلام الإسرائيلية عن هذه القاعدة. لقد كان من الواضح لدينا أيضا أن أي تسوية ستكون ذات قيمة إذا وافقت عليها حماس فقط.

لقد ارتفع شأن حماس إلى الفضاء بين أوساط الشعب الفلسطيني. لا عجب في ذلك فقطاع غزة وحده هو الذي واجه أحد أقوى الجيوش في العالم، وصمد ولم ينهار. كانت النتيجة العسكرية، في أفضل الأحوال، هي التعادل.

التعادل بين غزة الصغيرة وبين إسرائيل الهائلة يشكل نصرا للطرف الضعيف.

من يتذكر الآن إعلان إيهود باراك في خضم الحرب، بأن الحملة "ستتواصل حتى تركع حماس على ركبتيها وتتوسل لوقف إطلاق النار"؟

أين يُبقي هذا كله أبا مازن؟ في اللا مكان.

بالنسبة للشخص الفلسطيني العادي، سواء كان في نابلس، في غزة أو في بيروت، فقد أصبح الفرق الآن واضحًا للعيان. حماس شجاعة، فخورة ومنتصبة القامة، بينما أصبحت فتح لا حول لها ولا قوة، خانعة ومُحتقرة. علينا التنويه إلى أن العزّة والكرامة تلعبان دورًا هاما في الثقافة العربية.

يعتبر الجمهور العربي، بعد نصف قرن من الإهانة والإذلال، أي فلسطيني يقف مرفوع الهامة أمام الاحتلال بمثابة بطل قومي. يبدو أبو مازن كمن تقيم قواه تعاونًا وثيقًا مع جيش الاحتلال المكروه.

والحقيقة الأهم هي أن أبا مازن لا يمكنه ألا يُظهر أي إنجاز، حتى ولو كان صغيرا، مقابل ذلك.

لو كان لدى أبي مازن أي إنجاز جدي، لكان الوضع مختلفا. لو كان أبو مازن يقترب ولو بخطوة واحدة نحو تحقيق حلم الدولة الفلسطينية، لقال معظم الفلسطينيين، حسنا، إنه ليس بطلا كبيرا ولكنه زوّدنا بالبضاعة.

ما حدث هو العكس. حماس التي تدعو إلى العنف هي التي أحرزت نتائج، أما أبو مازن الذي يدعو إلى اللا عنف فلم يتوصل إلى أي شيء. وكما قال لي صديق فلسطيني "إنه "أبو مازن" قد أعطاكم (الإسرائيليون) كل شيء، الأمن والهدوء، وما الذي حصل عليه بالمقابل؟ أنتم تبصقون في وجهه!"

ما ستفعله هذه الجولة ما هو سوى تقوية للإيمان الأساسي لدى الفلسطينيين: "الإسرائيليون يفهمون لغة القوة فقط!" (أما لدينا فيقولون الشيء ذاته بالطبع عن الفلسطينيين).

لو كانت أمريكا تتيح لأبي مازن أن يتوصل على الأقل إلى قرار من قبل هيئة الأمم المتحدة، يعترف بفلسطين كدولة ليست عضوة، لكان بإمكانه أن يقف منتصبًا أمام حماس. ولكن حكومة نتنياهو قد عقدت العزم على منع ذلك بأي ثمن. عندما يقوم باراك أوباما، وبعد أن أعيد انتخابه أيضا، بسد الطريق أمام هذه الخطوة الفلسطينية، فهو يدعم حماس ويلحق الضرر "بالمعتدلين". يجب أن نرى زيارة هيلري كلينتون المقتضبة، هذا الأسبوع، إلى رام الله على من هذا المنظور.

صحيح، هذا يبدو جنونا تامًا. ما الحاجة إلى كسر "المعتدلين"، المستعدين والقادرين على صنع السلام معنا؟ ما الحاجة إلى تقوية "المتطرفين"، الذين يعارضون السلام؟

لقد زوّدنا بالإجابات أفيغدور ليبرمان، رقم 2 بعد نتنياهو: يجب القضاء على أبي مازن بهدف ضم الضفة الغربية وإخلاء المنطقة من أجل المستوطنين.

ناهيك عن حماس، فإن المنتصر الكبير هو محمد مرسي.

هذه حكاية لا تكاد تُصدّق. حين تم انتخاب مرسي رئيسًا في مصر، أصيب جميع الزعماء بالهستيريا.مرعب، مرعب بالفعل! إسلامي متطرف قد وصل إلى السلطة في أهم دولة عربية! لقد ذهبت اتفاقية السلام بيننا وبين أكبر جاراتنا أدراج الرياح!

رد الولايات المتحدة كان مشابهًا.

وها نحن - بعد أقل من أربعة أشهر! - ننهل بشغف كل كلمة تخرج من شفتي مرسي! إنه الشخص الذي وضع حدًا للقتل والدمار المتبادل! إنه رجل سلام! هو الوحيد القادر على الوساطة بين إسرائيل وحماس! إنه كفيل بالتفاهمات حول وقف إطلاق النار!

هل هذا معقول؟ هل هذا نفس المرسي؟ هل هؤلاء نفس الإخوان المسلمين؟

مرسي الذي يبلغ من العمر 61 عامًا، هو إنسان جديد ويفتقر إلى أي تجربة على الحلبة الدولية. (اسمه الكامل هو محمد مرسي عيسى العياط. عيسى هو الاسم العربي ليسوع الناصري، الذي يعتبر نبيًا في الإسلام أيضا). أصبح كافة زعماء العالم يثقون به الآن.

حين تلقيت الربيع العربي بسرور، فكرت بأشخاص مثله. معظم المحللين، الجنرالات المتقاعدين والسياسيين، الذين تفوهوا بتحذيرات تقشعر لها الأبدان، يمجدون الآن إنجازه الكبير في وضع اتفاقية لوقف إطلاق النار.

خلال الحملة فعلت ما كنت أفعله دائما في مثل هذه الحالات: تنقلت بين محطات التلفزيون لدينا وبين قناة الجزيرة. في بعض الأحيان، حين كانت تسرح أفكاري، كنت أحدق بالشاشة ولم أكن واثقا من المحطة التي أشاهدها.

نساء يبكين، جرحى على حمّالات، منازل مهدمة، عائلات تحزم أمتعتها وتهرب. من هنا ومن هناك. كصورة في مرآة. ولكن عدد القتلى لدى الطرف الفلسطيني قد فاق بـ 30 ضعفا عددهم لدى الطرف الإسرائيلي، - بفضل النجاح الباهر الذي أحرزته منظومة "القبة الحديدية" وبسبب الغرف الآمنة، بينما كان المواطنون في غزة بلا حماية أبدًا.

في اليوم الرابع، تلقيت دعوة من قبل القناة 2 للبث في الموجة المفتوحة. تم إلغاء الدعوة، بالطبع، في اللحظة الأخيرة. ولكن لو جعلوني أتكلم، لكنت سأطرح على المشاهدين سؤالا واحدًا بسيطًا:

هل كان كل ذلك مجديًا؟

كل المعاناة، القتلى، الجرحى، الأطفال المصدومين، ليالي الخوف، أيام الرعب؟

وكذلك كنت سأضيف - التغطية التلفزيونية اللا نهائية، قطيع الجنرالات السابقين الذين ظهروا على الشاشة ورددوا عن ظهر قلب نشرة الرسائل التي يصدرها ديوان رئيس الحكومة. والتهديدات التي تجمّد الدم في العروق من قبل سياسيين وأغبياء آخرين، ومن بينهم نجل أريئيل شارون الذي اقترح تدمير أحياء كاملة في غزة، أو على وجه التفضيل، تدمير غزة كلها.

عندما انتهى كل شيء، وصلنا تقريبا إلى نفس المكان الذي كنا فيه قبل بدء هذه الحملة. الحملة، التي اعتبرها الجميع "جولة أخرى"، كانت بالفعل مستديرة - لقد وصلت إلى نفس المكان الذي بدأت منه.

حماس بقيت السيد الوحيد في قطاع غزة، ومن المحتمل أن سلطته قد تعززت أكثر. سكان غزة سيكرهوننا أكثر مما فعلوا حتى الآن. كثيرون من سكان الضفة الغربية، الذين أجروا طيلة أيام الحرب مظاهرات جماهيرية من أجل حماس، سوف يصوتون في الانتخابات القادمة إلى جانب حماس بأغلبية أكبر بكثير. وأما الناخبون الإسرائيليون فسيصوتون بعد شهرين كما كانوا سيصوتون بالضبط قبل بدء كل شيء.

الآن يحتفل الجانبان بالنصر. لو كانا يجريان حفلا مشتركا، لكان بالإمكان توفير الكثير من المال.

ما هي العِبر السياسية؟

الاستنتاج الأكثر وضوحا هو: التحدث مع حماس. بشكل مباشر. وجها لوجه.

لقد روى لي إسحق رابين ذات مرة كيف قرر أنه يجب التحدث مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو أمر كان يعارضه بشدة حتى ذلك الوقت. لقد توصل إلى الاستنتاج أن ياسر عرفات وزملاءه هم القوة الكبيرة الوحيدة لدى الطرف الآخر. وقال لي "كان من المثير للسخرية أن نتحدث معهم بواسطة وسطاء".

هذا صحيح الآن بالنسبة لحماس. إنها موجودة. إنها لن تختفي. من المثير للسخرية أن يجلس المندوب الإسرائيلي في إحدى الغرف في قيادة المخابرات المصرية في القاهرة، بينما يجلس مندوب حماس في الغرفة المجاورة، ومصريون دمثون يتراكضون بينهما هنا وهناك.

وفي الوقت ذاته، بذل جهد جدي للتوصل إلى سلام.

يجب إنقاذ أبي مازن. حتى الآن، لا يوجد له بديل. يجب تمكينه من إحراز نصر فوري، لموازنة انتصار حماس. يجب على إسرائيل أن تصوّت في الجمعية العامة إلى جانب طلب الفلسطينيين لقبولهم كدولة غير عضوة في الأمم المتحدة.

يجب التقدم نحو السلام مع كل الشعب الفلسطيني، ومن ضمنه فتح وحماس - لوضع حد أخيرا للحروب.

دفعة واحدة!