اوري افنيري 

الاحتجاج الجديد / أوري أفنيري


شهد ميدان رابين مظاهرات كثيرة. ولم تشبه أي منها المظاهرة الأخيرة التي جرت يوم السبت الماضي.

لم يكن لهذه المظاهرة أي صلة للحدث الذي أعطى للميدان أسمه الحالي: التظاهرة الكبيرة من أجل السلام حيث تم اغتيال إسحاق رابين في نهايتها. كانت هذه المظاهرة مختلفة من جميع النواحي.

كان هذا حدث مفرح. التقت العشرات من الجمعيات، منها الصغيرة وأخرى الكبيرة ولكل واحدة هدفها، في الميدان، بمحاولة لدفع عجلة الاحتجاج الجماهيري الذي بدأ في السنة الماضية. ولكن لم يكن هذا استمراراً "للربيع الإسرائيلي" من العام المنصرم.

ثورة السنة الماضية لم يكن مخططاً لها. أقامت سيدة شابة، دافني ليف، خيمة في جادة روتشيلد على بعد عدة دقائق من المشي من ميدان رابين بعد أنها لم تستطع دفع إيجار شقتها العالي. على ما يبدو، لقد عزف هذا العمل على وتر حساس لأنه في غضون أيام قليلة امتلأت الجادة بالخيام وأماكن أخرى في البلاد. وصل ذلك الذروة في "مسيرة النصف مليون". وتم تشكيل لجنة تحقيق حكومية التي اقترحت عدة وسائل لتقليص عدم العدالة الاجتماعية. تم تحقيق جزء صغير منها.

أعلنت الحركة أنها "غير سياسية" ورفضت السياسيين من شتى الأطياف، كما ورفض أعضاؤها رفضا مطلقا التطرق إلى المشاكل القومية، السلام (ما هذا؟)، إنهاء الاحتلال، المستوطنات وأمور أخرى من هذا القبيل.

تم اتخاذ جميع القرارات من قبل قلة من الأشخاص المجهولين الذين آزروا دافني. تقبّلت الجماهير التي انضمت إلى الاحتجاج إملاءاتهم من دون اعتراض. وقد اشتهر القليل منهم أما لآخرون فلا.

ليس بعد. لم يعد الأمر كذلك. لا توجد بعد قيادة لمبادرة هذا العام. لم تكن منصة مركزية في المظاهرة كما لم يلقوا خطابات. كانت أشبه بهايد بارك في لندن حيث كان باستطاعة كل شخص أن يقف ويدعو إلى بشارته. كان لكل جمعية طاولة خاصة، عرضت عليها كراساتها ومنشوراتها. ولكل جمعية كان اسم خاص، أهداف خاصة، متحدثين خاصين، مراكز خاصة (ويُمنع دعوتهم بالزعماء).

نجح هذا الأمر، لأن الميدان كان كبيرا وكان تعداد الجمهور بالآلاف. تم عرض تصوّرات مختلفة من العدالة الاجتماعية، بدءًا بمجموعة دعت إلى "ثورة حب" (يجب أن يحب الجميع بعضهم بعضًا)، وإلى مجموعة اللا سلطويين (جميع الحكومات سيئة، وكذلك الانتخابات).

كانت كل المجموعات ساذجة في نقطة واحدة: كانت جميعها "لا سياسية". تجنب جميعهم المواضيع التي تعتبر بمثابة طابو (أنظر أعلاه).

دعا غدعون ليفي الموقف "بالفوضوي". لقد هاجمه المتظاهرون فورًا وكأنه شخص ينقصه الفهم (مع إشارة بسيطة لكونه متقدم في السن بما فيه الكفاية من أن يفهم). الفوضى جيدة. الفوضى رائعة. الفوضى هي الديموقراطية الحقيقية. تسمح الفوضى للشعب أن يُسمع صوته الأصيل. لا يستطيع القياديون سرقة الاحتجاج واستغلاله للتطور الذاتي وتعزيز "الأنا" حيث تتواجد الفوضى. هكذا تعبّر عن ذاتها الطبقة الوسطى الجديدة.

كل هذا ذكرني بتلك الأيام السعيدة من ستينات القرن الماضي – حيث لم يكن متظاهرو الأسبوع الماضي على قيد الحياة، حتى أنهم لم يتواجدوا في مرحلة التخطيط.

تمسكت باريس حينها برغبة قوية في احتجاج اجتماعي وسياسي. لم تكن هناك أيديولوجية مشتركة، ولم يكن هناك اتفاق على برنامج اجتماعي جديد. وقد دار نقاش لا نهائي، يومًا بعد يوم، في مسرح "أوديون"، في حين أمطر المتظاهرون على رجال الشرطة في الخارج وابل من الحجارة، وكان الأخيرون يضربونهم بأطراف معاطفهم المليئة بالرصاص من دون رحمة. كان الجميع في مزاج رائع. كان واضحًا أنه قد بدأ عهد جديد في تاريخ البشرية.

وصف لي كلود لينتسمان، سكرتير جان - بوخ سارتر وعشيق سيمون دي- ببوار الذي أنتج فيما بعد الفيلم الهائل- "كارثة"، الوضع كالتالي: أحرق الطلاب السيارات في الشارع. كنت أبحث في ساعات المساء عن مكان بعيد لأوقف سيارتي. لكن قلت لنفسي في إحدى الأمسيات: تباً، ما حاجتي الى سيارة؟ فليحرقوها!"

قام اليمين بقيادة شارل دي غول بتجميع قواته في حين كان اليسار مشغولا في الكلام. تقدم مليون شخص من اليمين في مسيرة في الشانز- إليزيه. تلاشى الاحتجاج. ولم يبق سوى حنين باهت لعالم أفضل.

لم يكن الاحتجاج يقتصر على باريس. لقد انتقلت روح الاحتجاج إلى مدن ودول أخرى. سيطر الشباب على منهاتن التحتية. تم بيع منشورات ذات معنى مستفز في شوارع "فيلاج"، وألصق شباب وشابات على صدورهم أزرارًا متحدية.

كانت هناك نتائج باهتة لهذا الاحتجاج الباهت. من دون أهداف عملية، لن تكون هناك نتائج عملية أيضا. فشل دي- غول بعد فترة ما، ولكن لأسباب أخرى. قام الجمهور في أمريكيا بانتخاب ريتشارد نيكسون اليميني. صحيح أنه في الوعي الجماهيري طرأت تغيّرات على عدة أمور. ولكن لم تكن هناك ثورة بعد كل الأحاديث الثورية.

تجوّلت دافني وأصدقاؤها بين الجمهور في مظاهرة يوم السبت، وكان الجمهور يتجاهلهم تقريباً. فقد كانوا منتميين للماضي. بعد سنة واحدة فقط، استبدل الجيل الجديد ذلك الجيل من العام الماضي.

ناهيك عن أنه لم يستطع أصحاب الاحتجاج الجدد أن يتحدوا حول أجندة مشتركة – بل كذلك هم لم يروا حاجة لأجندة مشتركة. أو إلى تنظيم مشترك. أو إلى قيادة مشتركة. هذه أمور أكل الدهر عليها وشرب، إنها أمور سيئة وصفات للنظام القديم الفاسد والمكروه. هيا، يجب إلقاؤهم جانبا!

أنا لست واثقاً من رأيي في هذا الموضوع.

هذا يعجبني جدا، من جهةً. طاقات جديدة تتفجر. جيل جديد يعتبر أنانيًا وغير مبال، يكتشف فجأة أنه مهتمّ، مهتمّ جدا.

منذ سنوات وأنا أعبّر عن أملي بجيل يافع يصنع شيئاً جديداً، له لغة جديدة وتعريفات جديدة، شعارات جديدة، وقيادة جديدة تكون منفصلة تماماً عن الأحزاب والائتلافات الحالية. بداية جديدة تماماً. بداية مسيرة نحو الجمهورية الإسرائيلية الثانية.

إذن يجب عليّ أن أكون مسروراً. الحلم يتحقق.

وبالفعل، أنا مسرور للتطور الجديد. إسرائيل بحاجة إلى إصلاح اجتماعي جذري. الفجوة بين الأغنياء والفقراء لا تطاق. حركة اجتماعية جديدة ترتكز على قاعدة واسعة، هي شيء جيد حتى وإن وُجدت في داخلها اختلافات كثيرة في الرأي.

العدالة الاجتماعية مطلب يساري، وقد كان كذلك دائماً. مظاهرة تطلق شعار "الشعب يطالب بعدالة اجتماعية" هي يسارية، حتى وإن كانت ترفض تلك اليافطة رفضا قاطعا.

من جهة أخرى، أنا قلق من الرفض القاطع للدخول إلى الحلبة السياسية، وكذلك من رفض طرح أجندة سياسية. من الممكن أن يؤدي هذا الوضع إلى تلاشي الاحتجاج كما حدث في السنة الماضية.

ماذا يقصد المتظاهرون حين يقولون أنهم "لا سياسيون"؟ إذا كانوا يقصدون أنهم لا ينتمون لأي حزب سياسي، فأنا أصفق لهم. و إذا كانت هذه خدعة حتى يستقطبوا جماهير من جميع المعسكرات، فإني أصفق لهم أيضا. أما إذا كان هذا يعبّر عن قرار للتخلي عن الصراعات السياسية لصالح الآخرين، فإني أحتجّ.

العدالة الاجتماعية هي هدف سياسي واضح. من ضمن معانيها، تحويل أموال من أهداف معيّنة إلى أهداف أخرى. ومعنى آخر يخص إسرائيل ولا مفر منه هو أخذ الأموال من الميزانية العسكرية الهائلة ومن المستوطنات والمتدينين ومن أصحاب الأموال الطفيليين.

أين يمكن أن يتم ذلك؟ في الكنيست فقط. كيف يصلون إلى هناك؟ بواسطة حزب سياسي فقط. إذن، يجب إقامة قوة سياسية. نقطة.

الاحتجاج "اللا سياسي"، يتهرب من الأسئلة الملحة بخصوص وجودنا القومي، هو هروب من الواقع.

لقد شبّهت الاحتجاج الاجتماعي في السنة الماضية بالتمرد على "التايتانك". يجدر أن نتوسّع في وجه الشبه هذا. لنتخيّل السفينة الفاخرة في رحلتها البحرية الأولى وكل تلك الحياة النشطة الموجودة فيها. تطلب الجوقة الموسيقية عزف موسيقى روك صاخبة بدلاً من موسيقى موزارت وشوبيرت. يطالب لا سلطويين من بين المسافرين إقصاء قبطان السفينة واختيار قبطان جديد كل يوم. يطالب آخرون بإلغاء تدريب قوارب الإنقاذ - فلا حاجة له على متن سفينة يقال عنها أنها لا تغرق – واستبداله بفعاليات رياضية. وإلغاء التمييز الفاضح بين القسم الأول والقسم الرابع على متن السفينة السفلي. وما إلى ذلك، وجميعها طلبات عادلة.

ولكن تتربص كتلة جليدية في الطريق.

تبحر إسرائيل نحو كتلة جليدية أكبر بكثير من الكتلة التي انتظرت "التايتانك". الكتلة ليست خفية جميع أجزائها واضحة وبادية عن بعد. ومع ذلك فإننا نبحر باتجاهه بأقصى قوة بخارية. ستدمر دولة إسرائيل ذاتها إذا لم تغيّر الاتجاه. ستتحوّل في البداية إلى دولة فصل عنصري من البحر إلى النهر، ومن ثم يُحتمل أن تتحوّل إلى دولة ثنائية القومية وفيها أقلية يهودية من النهر إلى البحر.

هل هذا يعني أن علينا أن نتنازل عن الاحتجاج الاجتماعي؟ بالطبع لا! عن النضال من أجل التضامن الاجتماعي، من أجل تربية أفضل وجهاز صحي محسّن، من أجل الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة أن يقوى وأن يتعزز يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة.

ولكن من الناحية السياسية والفكرية، يجب أن يكون هذا النضال جزءاً من النضال من أجل مستقبل إسرائيل والنضال لإنهاء الاحتلال والنضال من أجل السلام.