اوري افنيري 

اعتراف شخص متفائل / أوري أفنيري


أنا شخص متفائل. نقطة.

من دون "إذا". من دون "ولكن". من دون "ربما".

يمكن أن يكون هذا الأمر موضوعا وراثيا. والدي كان شخصا متفائلا. حتى عندما اضطر وهو في سن 45 سنة إلى الهرب من ألمانيا إلى بلاد صغيرة ومتخلفة في الشرق الأوسط، حافظ والدي على مزاج جيد. على الرغم من أنه كان يتوجب عليه أن يعتاد على بلاد جديدة، على طقس أعلى حرارة، على العمل الجسدي المضني والفقر المقذع، كان شخصا سعيدا. لقد أنقذ على الأقل زوجته وأولاده الأربعة، وقد كنت أنا الأصغر بينهم.

أنا ما زلت اليوم متفائلا، في عيد ميلاد دولة إسرائيل السادس والأربعين.

قبل فترة ما، التقيت بالأديب عاموس عوز في حفل زفاف. تحدثنا عن هذا الأمر الغريب: التفاؤل الذي أتمتع به. لقد قال أنه شخص متشائم. وأضاف أنه عندما تكون متشائما، فلن تخسر شيئا. إذا تغيّرت الأمور إلى الأفضل، يمكنك أن تفرح. أما إذا تغيّرت الأمور إلى الأسوأ، فأنت تفرح لأنك كنت على حق طيلة الوقت.

قلت له أن المشكلة مع المتشائم هي أن هذه نظرة لا تؤدي إلى أي مكان. التشاؤم يعفي الإنسان من أي محفز للعمل. إذا كان من المتوقع أن يكون كل شيء سيئا أصلا، فما الحاجة إلى التعب؟ التشاؤم هو نظرة مريحة. إنه يتيح أيضا السخرية من الأشخاص المتفائلين، الذين يواصلون بسذاجتهم الكفاح من أجل عالم أفضل. المتفائلون هم أشخاص مغفلون!

هذا هو عمليا جوهر الموضوع. المتفائلون قادرون على الكفاح. من لا يؤمنون بوجود عالم أفضل، فإنهم لا يستطيعون أيضا أن يكافحوا من أجله. إنهم قادرون فقط على الجلوس على الأريكة أمام شاشة التلفزيون وهز رؤوسهم وطقطقة لسانهم حيال غباء الجنس البشري عامة والشعب الذي ينتمون إليه خاصة.

عندما أعترف بتفاؤلي، يسقط علي وابل من التوبيخ. ألا ترى ما يحدث من حولك؟ هل هذه هي الدولة التي تخيّلتها بتاريخ 14 أيار من العام 1948، حين سمعت في الراديو "بنصف أذن" خطاب بن غوريون في الوقت الذي تأهبت فيه للمعركة الليلية؟

صحيح، ليس لهذه الدولة توسّلنا. لقد فكرنا، أنا وزملائي، بدولة مختلفة تماما. وعلى الرغم من ذلك، أنا شخص متفائل.

حين أتحدث عن هذا الموضوع، أتذكر دائما نقطة معيّنة في حياتي.

كان ذلك في شهر تشرين الأول من العام 1942، وقد اهتز العالم.

لقد وصلت القوات النازية في روسيا إلى ستالينغراد. لم يكن هنالك شك بأن هذه القوات سوف تحتل المدينة وتواصل طريقها.

وفي الجنوب، اجتاح الفيرماخت الذي لا يُقهر منطقة القفقاز. وخط مستقيم كان يصل من هناك عبر تركيا وسوريا إلى أرض إسرائيل.

أما في شمال أفريقيا فقد اخترق جيش الجنرال إروين روميل الخطوط البريطانية ووصل إلى العلمين، التي تبعد 106 كيلومترات فقط عن مدينة الإسكندرية، كالمسافة التي تفصل بين بئر السبع وتل أبيب. كانت الطريق قصيرة من هناك إلى أرض إسرائيل.

قبل عام واحد من ذلك الوقت احتل النازيون جزيرة كريت في أول اجتياح موثق في التاريخ.

كان الوضع واضحا جدا بالنسبة لكل من ينظر إلى الخارطة. تحرك الوحش النازي، من الشمال ومن الغرب ومن الجنوب باتجاه أرض إسرائيل لكي يبيد الدولة اليهودية التي ستقوم. لقد حددت لا سامية هتلر المجنونة الهدف.

كما أن حكامنا البريطانيين قد اعتقدوا الشيء ذاته. لقد أخلوا نساءهم وأولادهم إلى العراق. أما هم أنفسهم، حسب الشائعات، فقد جهزوا حقائبهم مستعدين للهرب في اللحظة التي سيرد فيها خبر الاجتياح الألماني إلى مصر.

لقد أجرت منظمة "الهغناه" استعدادات مكثفة. كما هي الحال مع أبطال مسادا قبل 1900 سنة، الذين انتحروا سوية كي لا يسقطوا أحياء في أيدي الرومانيين، كان على مقاتلينا أن يجتمعوا على جبل الكرمل لكي يقاتلوا المجتاحين وبيع حياتهم بثمن باهظ. أما أنا، وقد كنت قد بلغت سن 19 سنة، فقد كنت أعيش في تل أبيب غير المحمية. كنا نعلم أن هذه هي النهاية.

ولكن عند انتهاء الحرب العالمية وانهيار الرايخ الثالث، تم إصدار كتب عديدة حول سير المعارك. وقد اتضح أن أزمة أكتوبر 1942 القاسية كانت موجودة في مخيّلتنا فقط.

ناهيك عن أن الاجتياح الموثق لجزيرة كريت لم يكن نصرا باهرا، فقد كان من الناحية العملية فشلا ذريعا. كانت خسائر الألمان فادحة إلى حد أمر فيه هتلر بالامتناع عن مثل هذه العمليات في المستقبل. (لم يعرف البريطانيون ذلك، وقُبيل أواخر الحرب، أجروا في هولندا عملية إنزال خاصة بهم، انتهت بكارثة).

كانت القوات الألمانية التي وصلت إلى القفقاز منهكة تماما لم تتمكن من التقدم إلى الجنوب. لم تكن لتحلم بأرض إسرائيل البعيدة.

والأهم من ذلك كله، من ناحيتنا، هي الحقيقة بأن الجنرال روميل قد وصل إلى العلمين بقطرة البنزين الأخيرة التي كانت لديه. لقد رفض هتلر، الذي اعتبر المجازفة في شمال أفريقيا بمثابة انحراف عن محور جهده الرئيسي، وهو احتلال روسيا، أن يبذر حتى قطرة واحدة أخرى من ذلك السائل النفيس. لم تكن أرض إسرائيل مهمة بالنسبة له أكثر من أهمية قشرة الثوم. (حتى ولو أراد ذلك، لم تكن هنالك أية إمكانية لنقل الوقود عن طريق البحر المتوسط. لقد نجح البريطانيون في تحليل شيفرة سلاح البحرية الإيطالي وعرفوا مسبقا بكل سفينة تخرج من ميناء إيطالي).

العبرة: حتى في أزمة تبدو ميؤسا منها، يجب عدم فقدان الأمل، لأننا لا نعرف كل الحقائق.

ولكن لا حاجة إلى النظر 70 سنة إلى الخلف. يكفينا أن ننظر إلى أحداث الفترة الأخيرة.

هل كان لشخص ما في إسرائيل أن يصدّق أن شباننا اللا مبالين، الشبيبة التي "لا تهتم لشيء" سوف تنهض فجأة في حركة احتجاجية اجتماعية هائلة؟ لو قال شخص ما ذلك قبل أسبوع مما حدث، لكانوا سيسخرون منه.

كان سيحدث الأمر ذاته لمن كان سيتنبأ في بداية السنة الماضية أنه في مصر (وهم بالذات من بين شعوب العالم كله!) سوف يتمردون وسيتخلصون من طاغيتهم. ربيع عربي؟ ها ها ها!

عندما تسنح لي الفرصة لإلقاء محاضرة في ألمانا، أسأل دائما: "هل آمن أحدكم، قبل يوم من حدوث ذلك، بأنه سيشاهد سقوط سور برلين في حياته؟ إذا كان الأمر كذلك، الرجاء ارفعوا أيديكم!" لم يتم رفع أي يد ذات مرة.

والحدث الأكبر من كل الأحداث، انهيار الاتحاد السوفييتي الكبير – من كان ليتوقع ذلك؟ لا الولايات المتحدة، التي تملك خدمات الاستخبارات الهائلة، ولا "الموساد" الممجد، بكل متعاونين بين أوساط يهود الاتحاد السوفييتي.

كذلك الأمر بالنسبة للثورة أية الله الخميني في إيران، التي قضت على الشاه.

هذا صحيح أيضا بالنسبة لمعظم الكوارث التي صنعتها يد الإنسان، والتي حدثت في حياتي – ابتداء من الكارثة وانتهاء بهيروشيما.

ماذا يثبت ذلك؟ لا شيء، سوى الحقيقة أنه لا يمكن تنبؤ أي شيء بالتأكيد مسبقا. الأحداث التاريخية هي من صنع بني البشر. صحيح أن هذا الأمر يمكن أن يمنح مكانا للتشاؤم، ولكنه يمنح مكانا للتفاؤل أيضا.

إن بإمكاننا أن نمنع الكوارث. يمكننا أن نعبد الطريق إلى مستقبل أفضل. ولكن لتحقيق هذا الهدف، نحن بحاجة إلى نساء ورجال يؤمنون أنه من الممكن فعل ذلك، الكثير من هؤلاء الأشخاص المتفائلين.

في عيد استقلال دولة إسرائيل الرابع والستين، الوضع سيء جدا في كافة الأمور. لقد تحوّلت كلمة "سلام" إلى كلمة بذيئة. يقول معظم الإسرائيليون: "السلام هو شيء رائع. كنت لأدفع أي ثمن من أجل السلام. ولكن لمزيد الأسف، السلام غير ممكن. العرب لن يقبلونا أبدا. لذلك ستستمر الحرب إلى الأبد".

هذا تشاؤم مريح جدا، يعفينا من أي ذنب ويتيح لنا أيضا ألا نفعل شيئا.

لقد تراجع "حل الدولتين"، ذلك الحل الواقعي الوحيد. يوجد في الأراضي الفلسطينية نظام أبارتهايد قائم، وهو يتغلغل إلى داخل دولة إسرائيل ذاتها. دولة الأبارتهايد آخذة بالقيام في البلاد كلها. بعض بضع سنوات سوف تسيطر فيها أقلية يهودية على أغلبية عربية.

إذا حدث معجزة، واضطرت دولة إسرائيل إلى منح الفلسطينيين حقوق مواطن، فستتحوّل الدولة اليهودية في البلاد كلها إلى دولة عربية في البلاد كلها.

الولايات المتحدة، حليفتنا الأخيرة التي بقيت، آخذة في الأفول ببطء وبشكل متواصل. ليست لدى الصين، وهي القوة العظمى الصاعدة، أي ذكريات من الكارثة.

انعدام المساواة الاجتماعية في إسرائيل ثائر أكثر من أي دولة متطورة أخرى.

إن القواعد الديموقراطية في "النظام الديموقراطي الوحيد في الشرق الأوسط" آخذة بالتصدع. إن زمرة من الفاشيين، الذين وجدوا أماكن لهم في الحكومة، تنقض على المحكمة العليا. لقد تحوّلت الكنيست إلى كاريكاتير برلماني. تتحول وسائل الإعلام المكتوبة والإلكترونية رويدا رويدا إلى فرع تابع لوزارة الدعاية غير الموجودة.

هل يمكن أن يكون هنالك وضع أسوأ من ذلك؟ لقد تعلمت في حياتي الطويلة أنه لا يوجد وضع سيء للغاية، إلا إذا تحوّل إلى وضع أسوأ. كما أنه لا يوجد زعيم ليس سيئا للغاية، فمن سيخلفه لن يكون أسوأ.

وبالفعل، فقد تكون هنالك قوى هائلة، غير منظورة وغير مسموعة، تعمل في الخفاء لتغيير الوضع إلى ما هو أفضل. هذا يشبه سدًا تم بناؤه على نهر. ترتفع المياه خلف السد رويدا رويدا، من دون أن تسمع صوتا، من دون أن يتم الشعور بما يحدث. وفجأة، تخترق المياه السد مُحدثة صوتا هائلا وتغرق البلاد.

لن يحدث ذلك إذا لم نلعب دورنا. إن أعمالنا وإخفاقاتنا هي جزء من الوضع. لا يكفي أن نأمل وأن نؤمن. يجب أن نتصرف وأن نعمل.

المتفائلون موجودون لهذا الهدف.