|
||
تبرز في هذه الجملة كلمة "قاسيًا". من غير المعقول أن يكون جبوطنسكي قد قصد ذلك حقا. كانت لغته العبرية ركيكة (كما أبدى حاييم نحمان بياليك ملاحظة على ذلك)، ومن المعقول جدا الافتراض أنه قصد كلمة "عنيد". بكلمة نابغة قصد، على الأرجح، فخور. لو رأى جبوطنسكي الليكود اليوم، لكان سيُصدم. كانت رؤياه خليطا من الوطنية، الليبرالية، والإنسانية بصيغة القرن التاسع عشر. بشكل مفارق، الصفة الوحيدة التي بقيت في أيامنا، في الأراضي المحتلة بشكل خاص، هي القسوة. لا توجد في الليكود منصة للفخر، والسخاء هو صفة منسوبة لليسار المُحتقر. تم هذا الأسبوع مشاهدة القسوة الروتينية، اليومية، التي تسيطر على الأراضي المحتلة، في فيلم فيديو. إن شعاع ضوء يبهر الأبصار في الظلمة. حدث ذلك على طريق رقم 90، الذي يربط بين أريحا إلى بيت شآن (بيسان) على امتداد نهر الأردن. هذا هو الطريق الرئيسي إلى غور الأردن، الذي تريد حكومتنا ضمه بأي ثمن. إنه محفوظ للإسرائيليين فقط. المواصلات الفلسطينية ممنوعة فيه. (ثمة نكتة فلسطينية حول هذا الموضوع. في المفاوضات التي تم إجراؤها بعد اتفاقية أوسلو طالب الطاقم الإسرائيلي إبقاء الشارع تحت سيطرة إسرائيل. سأل رئيس الطاقم الفلسطيني، وهو أحد الأشخاص الذين عادوا للتو من تونس، زميلا له: "إذا كان لدينا 89 طريقا آخر، فلما لا نتخلى عن الطريق رقم 90؟") قررت مجموعة من الناشطين المؤيدين للفلسطينيين من مختلف أنحاء العالم الاحتجاج على إغلاق الطريق أمام سفر الفلسطينيين. لقد دعوا أصدقاءهم أبناء وبنات المنطقة لنزهة على الدراجات على الشارع الممنوع. تم توقيفهم هناك من قبل وحدة عسكرية. وقف الجانبان أمام بعضهما البعض لبضع دقائق: راكبو الدراجات، الذين وضع بعضهم الكوفيات العربية على أكتافهم، والجنود الذين أمسكوا بالبنادق. يقضي الأمر فيما يتعلق بحالات كهذه بأنه يجب على الجنود استدعاء الشرطة، التي تم تدريب أفرادها على التعامل مع المتظاهرين، والمزوّدين بالمعدات غير الفتاكة لتفريق المظاهرات. ولكن، قرر قائد الوحدة غير ذلك. لقد شوهد ما حدث لاحقا في شريط الفيديو الذي تم تصويره من قبل أحد المتظاهرين. تبدو الأمور بشكل واضح وقاطع، لا يمكن تأويلها. يقف ضابط برتبة ميجر جنرال أمام شاب دنماركي ذي شعر فاتح، يقف في مكانه دون أن يقول أو أن يفعل شيئا. لا توجد هنالك أية إشارة للعنف. يرفع الضابط بندقيته بشكل أفقي فجأة، يد على خلفية البندقية ويد على الماسورة، وإذ به يدفع مخزن العيارات (الباغة) بكل قوته إلى وجه الشاب الدنماركي. يقع الضحية إلى الخلف على الأرض. يبتسم الضابط راضيا. في المساء، تم عرض الشريط في التلفزيون. منذ ذلك الوقت، رآه كل إسرائيلي تقريبا مئة مرة. كلما ازدادت مشاهدته ازدادت الصدمة. القسوة الباردة لهذه الفعلة، من دون أي استفزاز، تجعل المشاهد ينقبض. لم يتفاجأ مخضرمو المظاهرات في الأراضي المحتلة. ما من جديد في هذه الحادثة. لقد عانى كثيرون منهم من القسوة بأشكال مختلفة. الأمر الوحيد غير الاعتيادي في هذه الحالة هو أنها حادثة تم توثيقها بالتصوير. وليس بكاميرا خفية، بل توثيقا علنيا. كانت في المنطقة عدة كاميرات، كاميرات المتظاهرين وكاميرات الجيش. يقوم الجيش بتصوير هذه الأحداث تصويرا دائما ليتم استخدام الصور كإثبات في حال تمت محاكمة المتظاهرين في محاكمة عسكرية. كان الضابط يعرف ذلك. إنه ببساطة لم يول أهمية للأمر. أدى النشر غير المرغوب فيه إلى فوضى عارمة. من الواضح أنه ليست الفعلة ذاتها هي التي صدمت النخبة العسكرية والسياسية، بل إنه النشر بحد ذاته. بالإضافة إلى أن ذلك قد جاء متزامنا مع الدفاع المستميت من قبل 650 من أفراد الشرطة عن مطار بن غوريون، أمام الهجوم الهائل الذي شنه 60 من نشطاء حقوق الإنسان الدوليين. هذا النشر الإضافي زاد من الضرر. لقد استنكر رئيس الأركان الضابط وأقصاه على الفور. سارت النخبة العسكرية خلفه، وكذلك رئيس الحكومة. لكون الجيش الإسرائيلي، كما هو معلوم، هو "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، فمن الواضح أنه كانت هناك فعلة لا تغتفر قد اقترفها ضابط واحد استثنائي. سيجري الجيش الإسرائيلي تحقيقا متعمقا، وسيتم استخلاص العبر. نقطة. بطل الحادثة هو النقيب شالوم أيزنر ("الرجل الحديدي"، بالألمانية). هذا الضابط بعيد من أن يكون استثنائيا. بل على العكس، يبدو أنه الضابط النموذجي، وربما الإسرائيلي النموذجي أيضا. أول ما ينتبه إليه المشاهد حين يرى الشريط هو الكوفية. "حسنا، بالطبع"، تمتم كثيرون في نفسهم. تعمل منذ عشرات السنوات الحركة الوطنية-الدينية بشكل دائم وبإصرار على إدخال رجالها إلى كادر الضباط التابع للجيش الإسرائيلي، يرتقون سلم الرتب، على أمل أن يصل أحدهم في نهاية الأمر إلى عرش رئيس الأركان. لم يعد اليوم مفاجئا أن نرى ضباط برتبة نقيب يعتمرون الكيبا كما لم يكن مفاجئا ذات يوم رؤية أفراد الكيبوتسات هناك. كان أيزنر نائب قاد اللواء. الحركة الوطنية الدينية هي أصل نواة المستوطنين، وأصل يغآل عمير، الذي قام باغتيال إسحق رابين، وأصل باروخ غولدشطاين الذي ارتكب مجزرة ضد المصلّين في الحرم الإبراهيمي الشريف. إن أحد أركان هذا المعسكر المتطرف هي الحلقة الدينية التي تُدعى "مركاز هراف"، وأحد مدرسيها المربين كان والد زوجة أيزنر. تمت رؤية أيزنر الابن في حينها بين المتظاهرين ضد الانفصال عن غوش قطيف. تم تصوير أيزنر في العام الماضي، وكان برتبة مقدم في حينه، حيث كان يتواصل بودية مع راكبي دراجات من اليمينيين الذين أجروا أيضا مظاهرة على طريق رقم 90 في نفس المكان الذي حدثت فيه الحادثة. لم يتقبل أيزنر الاستنكار الموجّه إلى أعماله. بوقاحة لم يسبق لها مثيل، هاجم رئيس الأركان، قائد المنطقة وقائد اللواء. لقد لوّح بالضمادة الموجودة على يده ليثبت أنه قد تصرف للدفاع عن النفس. إنه يدعي أن المتظاهرين كسروا أصبعه، حتى أنه أحضر شهادة من طبيب. هذا الأمر غير معقول. أولا، إن من كُسرت أصبعه لتوّه لا يستطيع الإمساك بالبندقية كما شوهد في فيلم الفيديو. ثانيا، يُبيّن الفيلم أن فعلته لم تأت في أعقاب أي عملية عنف. ثالثا، لقد صور المصوّرون العسكريون كل لحظة في المكان. لو كان هناك عنف من قبل المتظاهرين، لنشر الجيش أفلامه في ذلك اليوم. رابعا، لقد هاجم أيزنر بالشكل ذاته امرأتين أخريين ومتظاهر آخر - هاجم المرأتين وجها لوجه والمتظاهر من الخلف. لمزيد الأسف لم يتم توثيق ذلك بواسطة الكاميرا. لقد ادعى النقيب أيزنر بحماسة أنه تصرف كما يجب. ألم يقم هو بتفريق المظاهرة؟ ولكنه لم يكن غير نادم. لقد اعترف أيزنر اعترافا علنيا أنه "ربما كان من الخطأ أن يفعل ذلك أمام الكاميرات". ثمة اتفاق كامل بهذا الشأن بينه وبين قيادة الجيش الإسرائيلي ووسائل الإعلام. لم يكن انتقادهم اللاذع موجّه ضد القسوة، بل ضد الحماقة. كشخص واحد، لا أحد يأبه لأيزنر الأحمق. ففي نهاية الأمر، لو توقف الجيوش عن تجنيد الحمقى، فإلى أين سنصل؟ المشكلة هي أن أيزنر ليس شخصا شاذا عن القاعدة. إنه يمثل المعايير. يوجد في الجيش الإسرائيلي أشخاص جيدون أيضا، ولكن أيزنر يمثل ضباطا كثيرين يتخرجون من بوتقة الجيش الإسرائيلي. وليسوا هم فقط. وعلى وزن قصيدة جبوطنسكي، يمكن القول أن جهاز التربية والتعليم لدينا ينشىء "عرقا أحمق ومنحطا وقاسيا". كيف يمكن لهذا الأمر أن يكون مختلفا بعد 60 سنة من التلقين العنصري غير المتوقف و 40 سنة من الاحتلال؟ كل احتلال وكل قمع لشعب آخر يُفسدان المحتل ويُذهبان عقل الشعب المقموع. عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، عملت في مكتب محام يهودي-بريطاني، من خريجي أوكسفورد. كان هنالك عدة موظفين بريطانيين من بين زبائنه تابعين لحكومة الانتداب. كان معظمهم يبدون لي أشخاصا دمثون، مثقفون ومؤدبون، يتمتعون بروح فكاهة عالية. على الرغم من ذلك كانت حكومة الانتداب تتصرف ببلاهة واضحة. في ذلك الوقت كنت عضوا في حركة الإتسل، وكان هدفنا طردهم من البلاد. كان يوجد في غرفتي مخزن صغير للمسدسات، التي كانت معدة لقتلهم. كنت أعيش بين العالمين، وسألت نفسي في العديد من المرات: كيف يمكن لهؤلاء الإنجليزيين الدمثين أن يتصرفوا بمثل هذه الحماقة؟ كان استنتاجي هو أنه لا يمكن لأي أسياد استعماريين أن يتصرفوا بذكاء. إن الوضع الاستعماري ذاته يجبرهم على العمل خلافا لميولهم الإيجابية وخلافا لما يمليه عقلهم المستقيم. صحيح أنه قد تم التحدث، في سنوات الاحتلال الأولى، عن "احتلال نيّر" و"احتلال ليبرالي". لقد أمر وزير الأمن في حينه، موشيه ديان، بالتصرف بسخاء تجاه الفلسطينيين. لقد سمح لهم بالتجارة مع العدو والاستماع إلى الدعاية الترويجية للعدو كما يحلو لهم. وكإبداء حسن نية لم يسبق له مثيل، أبقى الجسور مفتوحة بين الضفة الغربية والأردن – التي كانت دولة معادية. (لقد مزحت في حينا قائلا أن ديان، الذي لم يقرأ كتابًا ذات مرة، لم يعرف ببساطة أن هذا الأمر غير ممكن). لم تنبع هذه السياسة عن طيب قلب. لقد اعتقد ديان، ببساطة، أنه إذا سُمح للعرب بعيش حياتهم اليومية بسلام، فلن يتمردوا ضد الاحتلال الأبدي. وبالفعل، لقد نجح ذلك بشكل أو بآخر طيلة عشرين سنة، حتى جاء جيل فلسطيني جديد وخرج في الانتفاضة الأولى. عندها تحوّل الاحتلال، بالفعل، إلى أحمق منحط وقاس. قبل يومين كان يوم ذكرى الكارثة. لقد طرح في ذهني مقولة قالها ألبرت أينشطاين، الذي كان يهوديا وصهيونيا: "إذا لم نكن قادرين على إيجاد طريق إلى التعاون وإلى اتفاقية مع العرب، عندها سيكون من الواضح أننا لم نتعلم شيئا في ألفي سنة من العذاب، وسنستحق كل ما سيحدث لنا". |