اوري افنيري 

روح يهودية / أوري أفنيري


كان هذا، على ما يبدو، حادثا جديرا بالإهمال. بحضور كل النخبة السياسية والقضائية التابعة للدولة، تم استبدال الرئيسة الليبرالية في المحكمة العليا، دوريت بينيش، بالقاضي المحافظ آشر دان غرونيس.

تم إنشاد النشيد الوطني في نهاية الحفل. صوّرت الكاميرا وجها تلو الآخر. تباطأت للحظة على وجه القاضي سليم جبران، وقد قُبض عليه متلبسا. صحيح أنه احترم النشيد بوقوفه، كالجميع، ولكن شفتيه لم تتحركا!

حدثت ضجة كبيرة. القاضي جبران هو المواطن العربي الأول الذي يشغل منصب قاض دائم في المحكمة العليا.

استشاط اليمين غضبا. كيف يجرؤ! هذه إهانة لرموز الدولة! يجب إقصاؤه فورا! أو، الأفضل من ذلك، طرده إلى دولة يستطيع فيها إنشاد نشيدها الوطني!

تعامل آخرون مع القاضي باحترام. إنه لم يغتصب ضميره! لو قام بإنشاد النشيد لكان هذا تصرفا منافقا، وحتى كاذبا! لقد قام بالعمل الصحيح!

لقد تمت كتابة "التيكفا" (النشيد الوطني الإسرائيلي)، كما يعلم الجميع، قبل عقد تقريبا من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، من قبل شاعر مبتدئ، كنشيد للمستوطنة ريشون-لتصيون. تم قبوله بعد ذلك كنشيد للحركة الصهيونية، ومن ثم كنشيد للاستيطان العبري، وأخيرا كنشيد الدولة. تم أخذ اللحن من أغنية شعبية رومانية، وربما كانت في الأصل أغنية إيطالية.

كانت الكلمات مناسبة لفترتها: "طالما في داخل القلب / روحا يهودية تتوق / ونحو الشرق، إلى الأمام / عين تحرس صهيون / لم يضع أملنا بعد / أمل الألفي سنة / أن نكون شعبا حرا في بلادنا / بلاد صهيون والقدس". (جاء في الإصدار الأصلي: "... الأمل الأزلي / أن نعود إلى بلاد أبائنا / إلى المدينة التي نزل فيها داوود".

هذه الكلمات، كما يسمعها إسرائيلي يهودي، قد أكل الدهر عليها وشرب. بالنسبة إلينا، إسرائيل ليست في "الشرق". أملنا في أن نكون شعبا حرا في "أرضنا" قد تحقق منذ زمن. ينشد الكثير من الأولاد "طالما في القلب" ولا يعرفون معناها.

ولكن بالنسبة لمواطن عربي، الكلمات هي استفزاز تام. لا تتوق فيه أي "روح يهودية"، لا تنظر عيناه "نحو الشرق"، و"صهيون" ليست وطنه. الكلمات الوحيدة التي من شأنها أن تثير الإحساس في قلبه هي "أن نكون شعبا حرًا في أرضنا" - ولكن ليس وفقا للحلم الصهيوني بالذات.

كيف يمكن لمواطن عربي، مهما كان مخلصا للدولة، أن ينشد القصيدة من دون أن يخجل؟ يمكن للقاضي جبران أن يكون شخصا مثاليا من جميع النواحي الأخرى، ولكنه لا يملك "روحا يهودية".

تذكرني هذه الحادثة، أنا شخصيا، بحادث من صُلب حياتي، يجعلني أشعر بتعاطف كبير مع القاضي.

حين ارتقى النازيون الحكم، كان عمري تسع سنوات، التلميذ اليهودي الوحيد في مدرسة ألمانية. كان أحد رموز الحكم الجديد إجراء احتفال كبير في المدرسة، مرة كل بضعة أسابيع، لذكرى أحد انتصارات الجيش الألماني على مر الأجيال. اجتمع جميع الطلاب في هذه المناسبات، من أكبرهم وحتى أصغرهم، في قاعة المدرسة الكبيرة، للإصغاء إلى خطابات وطنية.

عند نهاية أحد هذه الاحتفالات، على ما اعتقد كان ذلك لذكرى احتلال بلغراد من قبل القائد العسكري الأمير أويغن عام 1717، وقف جميع الطلاب على أرجلهم وأنشدوا النشيدين الرسميين، النشيد الألماني القديم ("دويطشلند إيفر الس") والنشيد النازي الجديد ("ارفعوا الراية"). رفع جميع التلاميذ أيديهم اليمنى.

كان يجب علي اتخاذ قرار في جزء من ألف من الثانية. كنت أصغر ولد في المدرسة، لأنني كنت في الصف الأدنى، وكنت بالإضافة إلى ذلك قد بدأت أتعلم قبل سنة من زملائي في الصف. وقفت منتصبا، ولكنني لم أرفع يدي ولم أنشد النشيد النازي. أظن أنني ارتجفت من الانفعال.

عند انتهاء الاحتفال، هددني بعض الأولاد الأكبر سنا بكسر جميع عظامي إذا تكرر ذلك. لحسن الحظ، غادروا ألمانيا بعد بضعة أيام.

لا أعلم فيما إذا ارتجف القاضي حين أنشدوا النشيد من حوله، ولكنني أعرف ما شعر به تماما.

على الرغم من التفاهات غير المتناهية حول "الخطر الوجودي" الكامن وراء القنبلة الإيرانية، لا يزال حادث النشيد يثير انفعالا كبيرا في وسائل الإعلام. وبحق، فأنه ذا معنى عميق.

إذا لم يستطع قاض عربي في المحكمة العليا إنشاد "التيكفا"، فماذا عن موقف مليون ونصف المليون مواطن عربي حول "رموز الدولة"، وفعلا، حول "الدولة اليهودية" ذاتها؟ هل معنى ذلك أنهم "حصان طروادة"؟

هذا سؤال قديم، وعمره من عمر الدولة. يحاولون جسر الهوة بواسطة الصيغة "دولة يهودية وديموقراطية". (يستهزأ العرب من ذلك بمرارة: "دولة ديموقراطية لليهود، ودولة يهودية للعرب!") تسلط حادثة القاضي جبران الضوء على المشكلة أكثر من أي وقت مضى. ها هو مواطن مخلص، يحافظ على قوانين الدولة بأعلى المستويات، ولا يمكنه إنشاد النشيد الوطني. كيف سيتم حل المشكلة ؟

الجواب الأبسط هو تغيير النشيد. تجرّأ محللون مختلفون، هذا الأسبوع، على اقتراح هذه الفكرة الجريئة لأول مرة.

أقول بصراحة: لم أحب "التيكفا" ذات يوم. اللحن المسروق جميل جدًا، ولكنه لا يناسب النشيد. يجب على النشيد الوطني أن يحمّس وأن يرفع المعنويات، بينما هذا اللحن حزين ويائس، كأغنية الأسرى العبريين في الأوبرا "نفوكو" لفاردي. بالنسبة للكلمات، فهي تكاد تصل إلى حد السخرية.

تملك دول عديدة أناشيد تافهة. ماذا عن أيدي الطغاة الألمان الملطخة بالدماء في النشيد الفرنسي؟ ماذا بالنسبة للملكة المُمجدة في النشيد البريطاني؟ (كان آخر انتصار لصاحبة الجلالة في جزر فوكلاند). أو النشيد الهولندي السخيف كليا؟ ناهيكم عن النشيد الألماني الحالي، الذي تم فيه استبدال البيت الثالث بالبيت الأول الممنوع، نفس البيت الذي أنشده أصدقائي في المدرسة في ذلك الاحتفال.

ولكن كون النشيد سخيفا بعض الشيء ليس هو السبب الوحيد الكامن في رغبتي في تغييره. يعود ذلك إلى الحقيقة أن خُمسا من مواطني إسرائيل، العرب، لا يمكنهم إنشاده. (بالإضافة إلى عُشر إضافي، الحاريديون،الذين يرفضونه رفضا باتا).

إنه من غير السليم لدولة أن يبغض رموزها 20% من مواطنيها. لهذا السبب بالضبط، قام الكنديون بتغيير نشيدهم منذ فترة وجيزة. بدلا من النشيد البريطاني، الذي رفض المواطنون الفرنسيون إنشاده، تبنّت كندا لنفسها نشيدا جديدا، يستطيع الفرنسيون أيضا إنشاده. يقوّي النشيد الجديد ("واه كندا!") وحدة المواطنين.

تغيير الأناشيد هي ظاهرة معروفة. خلال الحرب العالمية الثانية، حين كان ستالين بحاجة إلى مساعدة الغرب، ألقى بالـ"انترناسيونال" إلى القمامة وفرض نشيدا جديدا تم اختياره في إطار مباراة. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، غيّر حكّام "الفيدرالية الروسية" الجدد كلمات هذا النشيد، ولكنّهم أبقوا اللحن على ما هو عليه.

لذلك استغللت أول فرصة لاقتراح قبول نشيد جديد. جرى ذلك بعد فترة قصيرة من حرب حزيران. عشية تلك الحرب، قامت نعمي شيمر بتأليف "يروشالايم شل زاهاف" (أورشليم من ذهب)، الذي تحول إلى نشيد الحرب. لم أحب أي من كلمات الأغنية، ولكنني رأيت بها فرصة للتخلص من "التيكفا". لذلك قدمت اقتراح قانون لتبني القصيدة كنشيد وطني للدولة.

لم ينفعل كاديش لوز، رئيس الكنيست، ولكنه قال لي أنه لا يستطيع أن يطرح الاقتراح على طاولة الكنيست من دون الحصول على موافقة المؤلفة مسبقا. اتصلت بنعمي وطلبت لقاءها. كانت امرأة لطيفة، على الرغم من أن زواجها حولها إلى يمينية. (لقد ترعرعت، كما هو معروف، في كيبوتس يساري، ولكنها تزوجت من يميني وتبنّت آراءه).

تفاجأت حين لاحظت أنها لم تنفعل أبدا. شعرت أن ثمة تملص في توجهها ولكنني لم أعرف ما هو. على الرغم من ذلك، وافقت في نهاية الأمر أن أقدم اقتراح القانون، وتم تقديمه ورفضه بالإجماع، فيما عدا صوتي. (ذكر القاضي المتقاعد ميشيل حشين في الأسبوع الماضي اقتراحي في أحد برامج التلفزيون).

لقد فهمت بعد مرور سنوات تردد نعمي شيمر الغريب. لقد اعترفت قبل موتها أنها ليست من ألفت اللحن الرائع لـ"يروشالايم شل زاهاف"، بل أنه أغنية باسكية قديمة. كانت مذعورة لسنوات من أن يُفضح الأمر. ولكن بما أن لحن الـ"تيكفا" مسروق هو أيضا، فلم يضايقني الأمر كثيرا كثيرا.

يمكن للـ"تيكفا" أن تبقى نشيدا وطنيا للشعب اليهودي. هنالك حاجة إلى قصيدة جديدة تكون نشيدا وطنيا لدولة إسرائيل ولجميع مواطنيها.

القصة الحقيقية من وراء الحادثة هي، بالطبع، المشكلة غير المحلولة للأقلية العربية في إسرائيل. في الحقيقة، يتم الإجحاف بهم في كافة مجالات الحياة، ويعترف بذلك كبار زعماء الدولة أيضا. ولكن لا يوجد برنامج لتصحيح الظلم.

يشعر مواطنو الدولة العرب أن الدولة ترفضهم، ويردّون بنفور تجاهها. يأخذ زعماؤهم، الذين يتنافسون على أصواتهم، في التطرف، في حين يتحول اليمين الإسرائيلي إلى مناهض للعرب. وثمة مفارقة حيث يتحول العرب إلى إسرائيليين أكثر فأكثر في حياتهم اليومية، في نفس الوقت الذي يتحولون فيه إلى مناهضين-لإسرائيل من حيث أفكارهم.

إنها قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار في أحد الأيام. يجب بذل جهد حقيقي لتغيير الوضع، ومن بين أمور أخرى، اختيار وسريعا، وضع نشيد وطني يتيح لجميع مواطني الدولة، العرب واليهود على حد سواء، إنشاده بإخلاص وبهامة مرفوعة.

في هذه الأثناء، طالما يتم التعامل مع عرب إسرائيل كما لو كانوا حصان طروادة، فإنهم لن ينشدوه. الخيول لا تنشد.