اوري افنيري 

مرحى للمصريين! / أوري أفينري


لقد حدث ما هو مستحيل حدوثه. البرلمان المصري، الذي انتُخب انتخابا ديموقراطيا من قبل شعب حر، قد عقد جلسته الأولى.

كان ذلك في نظري حدثا رائعا، حدثا مذهلا.

من وجهة نظر إسرائيليين كثيرين، فقد كان ذلك منظرا مقلقا، منظرا مهددا.

لا يمكنني أن لا أفرح عندما ينهض شعب مضطهد ويحظى بحريته وكرامته الإنسانية. وليس بفضل تدخل قوى خارجية، وإنما بفضل عناده وشجاعته هو نفسه. وليس عن طريق العنف وسفك الدماء، وإنما بفضل القوة الكامنة في اللا عنف.

في كل مكان وفي كل زمان يحدث فيهما ذلك، يجب أن يفرح قلب الإنسان العادل على وجه الأرض.

مقارنة بمعظم الثورات الأخرى، لم تكن الثورة المصرية عنيفة. لقد وصل عدد الضحايا البشرية إلى بضعة عشرات، وليس آلاف. في النزاع الحالي في سوريا يصل عدد القتلى إلى هذا العدد في غضون يومين حتى ثلاثة أيام، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثورة الناجحة في ليبيا، التي نشطت فيها قوى خارجية أيضا.

تعكس كل ثورة طبيعة الشعب الذي يُحدثها. لطالما أحببت الشعب المصري، لأنه في معظمه خال من العدوانية والعنف. إنه شعب مميز، صبور ومفعم بالفكاهة. يمكن قراءة ذلك في تاريخه الممتد لآلاف السنين، وكذلك من مجرد المشي في الشارع.

لهذا السبب كانت هذه الثورة مفاجئة إلى هذا الحد. من بين كافة شعوب العالم، المصريون هم أقل الشعوب ميلا إلى التمرّد. لكن ها هم قد تمرّدوا.

لقد اجتمع البرلمان بعد 60 عاما من الحكم العسكري، الذي بدوره ولد في انقلاب سلمي. حتى الملك فاروق، الذي احتقره الجميع، لم يلحقه أي أذى – فقد تم إرساله على متن يخته الفاخر إلى مونت كارلو، حيث قضى بقية حياته في المقامرات.

لقد كان قائد الثورة الحقيقي هو جمال عبد الناصر. التقيت به عدة مرات في حرب 1948 - رغم أنه لم يجر بيننا أي تعارف رسمي. لقد حدثت معظم المعارك في حينه ليلا، وبعد الحرب فقط تمكنت من ترتيب الأحداث. لقد أصيب في معركة على التلة 105، التي بسببها (المعركة) نالت كتيبتي لقب الشرف "ثعالب شمشون"، في حين أصابني جنوده في معارك كيس فلوجة، التي تميّز هو فيها.

من الواضح أنني لم ألتق به أبدا وجها لوجه، لكن صديقا حميما لي قد حظي بذلك. خلال المعارك تم الإعلان عن هدنة محلية قصيرة، من أجل إخراج القتلى والجرحى الذين تبقوا بين الخطوط. لقد أرسل المصريون اللواء عبد الناصر. قام يغئال ألون بإرسال مساعده، ضابط يمني الأصل، وقد أطلقنا عليه لقط "الجنجي" لأنه كان أسود تقريبا. تطورت بين الضابطين العدوين صداقة عميقة. حين نشبت الثورة المصرية، قال لي الجنجي، قبل أي شخص آخر بوقت طويل: "تابع عبد الناصر، هو الرجل!"

"الناصر"، كما سماه معظم الناس، لم يكن طاغية منذ ولادته. بعد ذلك روى أنه عندما أحدث الثورة، لم تكن لديه فكرة ماذا سيفعل بعد ذلك. لقد شكّل حكومة شعبية، لكنه ذهل من حجم الفساد وعدم الخبرة لدى السياسيين. لذلك تسلم الجيش زمام الأمور، ولم يمض وقت طويل حتى ولدت دكتاتورية عسكرية، استمرت وازدادت قذارة حتى السنة الأخيرة.

لا حاجة لقبول قصته كحقيقة نقية، لكن العبرة واضحة: الآن كما في حينها، حكم عسكري "مؤقت" يميل إلى أن يصبح دكتاتورية طويلة الأمد. يعلم المصريون ذلك من تجربتهم المرة، ولذلك فإن صبرهم يمكن أن ينفذ في أي لحظة.

إنني أذكر حديث شيّق بين مفكرين عربيين رائدين، قبل 45 عاما. كنا مسافرين في لندن بسيارة أجرة، في طريقنا إلى أحد المؤتمرات. كان الأول نبيلا مصريا ماركسيا، محمد سيد أحمد، وكان الثاني علاوي، قائدا يساريا شجاعا من المغرب. ادعى سيد أحمد أنه من دون حكم دكتاتوري قوي لا يمكن الوصول في العالم العربي إلى أي هدف وطني. أجاب علاوي أنه بعد أن تسود الديموقراطية فقط يمكن بلوغ هدف وطني لائق. يخيل إلي أنه تم الآن حسم هذا الجدال.

قال وينستون تشرشل، كما هو معروف، إن الديموقراطية هي طريقة سيئة جدا، غير أن جميع الطرق الأخرى هي أسوأ. إن إحدى مساوئ الديموقراطية هي أنه في الانتخابات الحرة يتم بين الحين والآخر انتخاب قوى غير مرغوب فيها بالنسبة إليك.

في الانتخابات المصرية فاز "المسلمون". في الجلسة الصاخبة، التي هبت فيها رياح الحرية، سيطر ممثلون ذوو لحية متدينة. لقد كان هؤلاء مرشحو "الأخوان المسلمين" والـ"سلفيين" الأكثر تطرفا (مؤيدو السلفية، المتمسكون بتعاليم الأجيال الإسلامية الثلاثة الأولى). إنهم يشكلون معا أغلبية في هذا البرلمان. الكثير منا ومن الحاقدين على الإسلام في العالم ("جميع المسلمين متشابهين") ذهلوا.

في الحقيقة، أن لا أحب الأحزاب المتدينة على مختلف أنواعها - يهودية، إسلامية، مسيحية وجميع ما تبقى. إن الديموقراطية الحقيقية تستوجب وجود فصل تام بين الدين والدولة، فصلا فعليا.

لست على استعداد للتصويت لصالح أي سياسي يستخدم الأصولية لارتقاء سلم مستقبله المهني – حتى لو كان مرشح جمهورية للرئاسة في الولايات المتحدة، مستوطنا إسرائيليا أو ديماغوغيا عربيا. حتى لو كان شخصا مستقيما يؤمن بخالقه، لكنت صوتت ضده. لكن إذا تم انتخاب أشخاص كهؤلاء بانتخابات حرة، فسأكون مضطرًا لقبولهم. من المؤكد أنني لن أسمح لنجاح الـ "إسلاميين" بأن يعيق فرحتي بالربيع العربي.

كما يبدو الأمر حاليا، سيبرز الإسلاميون على جميع أنواعهم قريبا في كافة البرلمانات الجديدة التي سيتم انتخابها في أعقاب الربيع العربي، من المغرب حتى العراق ومن سوريا حتى عُمان. لن تبقى إسرائيل بعد ذلك "فيلا في الأدغال"، وإنما جزيرة في البحر الإسلامي.

الجزيرة والبحر ليسا عدوين طبيعيين. بل على العكس، إنهما يكملان بعضهما البعض. الناس الذين يعيشون في الجزيرة يصطادون في البحر، والبحر يحمل سفنهم.

ما من سبب يمنع اليهود والمسلمين من العيش سوية والتعاون من أجل السلام. لقد فعلوا ذلك مرات عديدة في الماضي، وقد كان الأمر دائما لصالح الطرفين.

توجد في كل دين تناقضات داخلية. لدينا في التوراة أسفار الأنبياء، التي ترقى بالنفس، وهنالك الدعوة المشؤومة لقتل شعب في سفر يشوع. في "العهد الجديد" لدى المسيحيين هنالك الخطاب الرائع ليسوع المسيح على الجبل، وهنالك الوصف المقرف (والكاذب بشكل واضح) لليهود الذين يطالبون بصلب يسوع المسيح – وهذا وصف خلق اللاسامية وتسبب في معاناة لا حدود لها. توجد في القرآن مقاطع تهين اليهود، لكنها لا شيء أمام الأمر القاطع بحماية "أهل الكتاب"، اليهود والنصارى.

معتنقو كل دين يجب أن يقرروا أية أجزاء يختارونها من نصوصهم المقدسة. رأيت ذات مرة كتابا نازيا كان يتألف بكامله من اقتباسات من التلمود – مئات المقاطع المرعبة. كنت على يقين أن جميعها مزيفة، ودهشت حين بيّن لي حاخام مثقف من أصدقائي أن جميعها حقيقية تماما، لكنها أخرجت من السياق.

يستطيع اليهود والمسلمون، الإسرائيليون والمصريون، العيش بسلام، وقد فعلوا ذلك حقا.

فيما يلي فصل كمثال: في تشرين الثاني من عام 1944 تم إرسال اثنين من مقاتلي منظمة "ليحي" إلى القاهرة من أجل قتل اللورد موين، الوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط. لقد تم القبض عليهما، وتحولت محاكمتهم في المحكمة المصرية إلى مظاهرة مناهضة لبريطانيا. امتلأت القاعة بالشباب المصريين الوطنيين الذين لم يخفوا تأييدهم للمتهمين. أحدهما، إلياهو بيت-تسوري، الذي تعرفت عليه في الوقت الذي كنا زميلين في "الإتسل"، رد عليهم بخطاب حماسي، رفض فيه الصهيونية وقدم نفسه كمحارب تحرير، يطالب بطرد الإمبراطورية البريطانية من المنطقة بكاملها.

بعد عامين من ذلك، قامت دولة إسرائيل، واقترح أفراد منا استخدام هذه العملية وشبيهاتها لتقديم أنفسنا كالشعب الأول في المنطقة السامية الذي نجح في تحرير نفسه من غطرسة الحكم الأجنبي. بهذه الروح قمنا في عام 1952 بنشر تهنئة شعبية لثورة عبد الناصر، لكن في عام 1956 هاجمت إسرائيل مصر، بمكيدة قذرة مع فرنسا وبريطانيا، ومنذ ذلك الحين وجبين إسرائيل ملطخ بوصمة عميلة الاستعمار الغربي.

بعد الزيارة التاريخية لأنور السادات إلى القدس، كنت واحدا من الإسرائيليين الأربعة الأوائل الذين وصلوا إلى القاهرة. طيلة عدة أسابيع كنا أبطال المدينة، وبالفعل فقد رحبوا بنا في كل مكان. لقد أحدث التحمس للسلام مع إسرائيل آنذاك جوا احتفاليا. بعد ذلك فقط، عندما علم المصريون أن إسرائيل لا تحلم بتمكين الفلسطينيين من الحصول على الحرية والاستقلال، تلاشت هذه الروح.

لقد حان الوقت الآن لإنعاش هذا الجو. إن ذلك ممكن، لو وجهنا نظرنا نحو الربيع العربي وما يليه من شتاء.

يثير ذلك مجددا أكثر الأسئلة جوهرية بخصوص إسرائيل: هل نحن نريد أن نكون جزءا من هذه المنطقة، أو رأس جسر إلى الغرب؟ هل العرب هم حلفاؤنا أم أعداؤنا الطبيعيون؟ هل تثير الديموقراطية العربية الجديدة تعاطفنا، أم أنها تفزعنا حتى الموت؟

يقود ذلك إلى أكثر الأسئلة عمقا: هل إسرائيل هي مجرد فرع آخر من اليهودية العالمية، أم أنها أمة جديدة ولدت في هذه المنطقة وتشكل جزءا لا يتجزأ منها؟

إن الإجابة واضحة بالنسبة لي: لذلك فإني أتمنى من كل قلبي للشعب المصري ولبرلمانه الجديد: حظا سعيدا!