اوري افنيري 

دُعاة الخوف / أوري أفينري


في الذكرى السنوية لوفاة دافيد بن غوريون، تم إجراء المراسيم التقليدية بجانب ضريحه في سديه بوكر. لا توجد هناك مقبرة – بل قبران اثنان، له ولزوجته باولا.

نشرت الصحف صورة لبنيامين نتنياهو وهو يخطب تحت صورة كبيرة للقائد المتوفى، الذي يبدو منهمكا بالتفكير.

لقد لفت انتباهي أمر صغير واحد في الصورة: كان نتنياهو يعتمر الكيبا.

لماذا، في الحقيقة؟ حيث أن بن غوريون كان ملحدا فذّا. لقد كان يرفض اعتمار الكيبا حتى في الجنازات. (على الرغم من أنني أنا أيضا، والحمد لله، ملحد إلى أقصى الدرجات، فإني أعتمر الكيبا أحيانا في الجنازة مراعاة لمشاعر الآخرين).

ليس المكان كنيسًا، ولا حتى مقبرة. إذن لماذا، بحق السماء، يضع هذا الرجل كيبا على رأسه؟

بالنسبة لي، إنها إشارة لسيرورة أسميها أنا "التهوّد" أو "استرجاع اليهودية".

لقد كانت الصهيونية، من بين أمور أخرى، ثورة ضد الديانة اليهودية الأرثوذكسية، التي كانت جزءا من حضارة الشتات التي سماها الصهيونيون، بتهكم "المنفية". لقد كان جميع القادة المؤسسين – بنيامين زئيف هرتسل، ماكس نورداو، حاييم وايزمان، زئيف جبوطنسكي وغيرهم – ملحدين إلى أقصى الحدود.

إذن فلماذا قدم بن غوريون للمتدينين جهازي تربية مستقلين على حساب الدولة؟ ولماذا أعفى شباب الحلقات الدينية من الخدمة العسكرية؟

إن أبناء جيلي يذكرون الوضع. مثلنا جميعا، لقد آمن بن غوريون في حينه أن الدين سوف يموت. كان بعض المسنين الناطقين بالإيدش يصلون في الكنيس، لكن الوقت سيلعب دوره وسيختفون. نحن، الإسرائيليون الجدد، كنا علمانيين، حضاريين، بعيدين عن الخرافات القديمة.

حتى في أتعس كوابيسه لم يكن بمقدور بن غوريون أن يتخيل حالة يشكل فيها تلاميذ المدارس المتدينة – التي في قسم منها لا يتم منحهم أكثر المهارات الضرورية في العصر الحديث - قرابة نصف عدد التلاميذ اليهود في الدولة، أو حالة يستطيع فيها المتهربون المتدينون بسهولة تعبئة بعض الكتائب.

خطوة تلو الأخرى، يسيطر القطاع الحاريدي-الإسرائيلي على الدولة. المستوطنون المتدينون، السفاحون المناهضون للعرب، حلفاؤهم والمتعاونون معهم يسيطرون على مجالات جديدة كل يوم. لقد أبلغ الجيش مؤخرا أن 40% ممن يتلقون دورة الضباط يعتمرون الكيبا. عندما كنت جنديا عام 1948، في اليوم الذي تم فيه تأسيس الجيش، لم أر حتى جنديا واحدا يعتمر الكيبا، ناهيك عن الضباط.

لكن خطر "التهوّد"يتعدى بكثير المجال السياسي.

سآخذ مثالا من الطبيعة.

الحاجة الأولى في الطبيعة هي البقاء. هنالك أساليب كثيرة للبقاء، والطبيعة تحتضنها كلها – ما دامت ناجحة.

تحافظ الغزالة على بقائها عن طريق الهرب. عندما تتواجد في خطر فإنها تركض. إنها ناجحة في ذلك كثيرا. والدليل على ذلك: لقد بقيت الغزلان.

يحافظ الأسد على بقائه بواسطة القتال. عندما يكون في خطر فإنه يهاجم. إنه ينجح في ذلك جدا. والدليل على ذلك: لقد حافظت الأسود على بقائها.

حافظ اليهود على بقائهم عن طريق الهرب. لقد نجحوا في ذلك بشكل مدهش. بعد آلاف السنين من المطاردات الوحشية، المجازر والكوارث، ما زالوا موجودين. إن انتشارهم في أرجاء المعمورة قد ساعد هذا الأسلوب. عندما يشعرون بأدنى خطر، باستطاعتهم الهروب من دولة إلى أخرى.

لم يبن اليهود لأنفسهم تاج محل أو كتدرائيات فاخرة. ممتلكاتهم هي كتب مقدسة، أدب وموسيقى – أشياء يمكن حملها في الدماغ عند الهرب.

كبعض الحيوانات في الطبيعة، يشعر اليهود بأدنى خطر محدق. كأن على رأسهم مصباحا أحمر صغيرا، يضيء قبل وقت كثير من شعور أحد الآخرين بالخطر. (أنا نفسي لم أكن لأعيش لو لم يشعر والدي بخطر أدولف هتلر منذ اللحظة الأولى وجعلنا نهرب، في حين كان جميع الناس من حولنا لا يزالون غير مبالين).

لقد أرادت الصهيونية تحويل الغزالة إلى أسد. لقد قالت: لا هرب بعد الآن. عند الخطر نقف ونقاتل. ذلك اليهودي الخائف من الكاريكاتيرات اللاسامية، ليس بعد الآن. من الآن هنالك الإسرائيلي البطل، مرفوع الهام والفخور.

كما يحدث للبشر، بدأنا نبالغ في الاتجاه العكسي. أصبحنا معتدين، عنيفين، وحتى وحشيين. تحوًل المضطهَدون إلى مضطهدين. اعتاد اليهود على القول: "إذا لم تسر الأمور بالقوة، استخدم العقل!" يقول الإسرائيليون: "إذا لم تسر الأمور بالقوة، استخدم المزيد من القوة!" (علي الاعتراف: لقد استخدمت هذه المقولة قبل سنوات طويلة كنكتة. وهي لم تعد كذلك الآن).

غير أنه، في الآونة الأخيرة، تبين أن اليهودي القديم لم يختف. لقد اختبأ فقط. اختبأ في داخل الإسرائيلي. إنه ومصباحه الأحمر الصغير يعيشان وموجودان هنا.

كيف اكتشفت ذلك؟ أصغيت إلى خطابات بنيامين نتنياهو مع كيبا على رأسه ومن دونها أيضا.

لقد أوجد نتنياهو (أو تبنى لنفسه) أسلوبا خاصا للحكم: السيطرة عن طريق تعزيز مخاوف الجمهور.

منذ أن عاد إلى الحكم وهو يعرض لنا سلسلة لانهائية من المخاطر. إثارة الخوف هو جدول أعمال يومي – كل يوم.

في البداية، كان ذلك باراك حسين أوباما، الذي توعد بمعاقبتنا ما لم نتخلّ عن حقنا المقدس في بناء مستوطنات في البلاد التي وعدنا بها الله عز وجل. لسوء الحظ، انهزم أوباما فورا، فدعت الحاجة إلى وجود خطر آخر.

ما من مشاكل. أبو مازن، الذي كان حتى الأمس "صوص منتوف الريش"، أصبح نمرًا وطالب من الأمم المتحدة قبول دولة فلسطين كعضوة رسمية. كما يعلم الجميع، فقد كان ذلك خطرا فتاكا بالنسبة لإسرائيل. لقد تم منعه فقط لأن أوباما (نعم، حسين أوباما نفسه) وعد باستخدام الفيتو لصالح إسرائيل. على الرغم من ذلك، تم قبول الفلسطينيين في اليونيسكو، وبذلك فالخطر الجسيم لا يزال قائما.

ثم جاء الربيع العربي. منذ اللحظة الأولى، قبل أن تم إدخال صديقنا العظيم مبارك إلى القفص الزجاجي، أدرك نتنياهو أن ذلك خطر محقق. الآن تم إثبات ذلك: الإسلام، الإسلام الفتاك، يسيطر على مصر.

كما لا يتعب نتنياهو من أن يقول لنا في كل فرصة، الإسلام هو دين مناهض لليهود وإجرامي. ليس هنالك مسلمون معتدلون – جميعهم متشابهون يريدون القذف بنا في البحر. حتى أصدقائنا القدامى، المسلمون الأتراك.

إنهم لا ينتصرون فقط في مصر. هؤلاء المسلمون الوحوش قد انتصروا في المغرب وتونس، وهم على وشك الانتصار في ليبيا، الأردن، اليمن وسوريا. "فيلتنا" محاطة بالأدغال، وهذه الأدغال مليئة الآن بحيوانات مفترسة إسلامية. كم هو مخيف هذا الأمر!

بعد ذلك تم الكشف عن خطر محقق آخر، تماما في اللحظة الأخيرة. إن جمعيات حقوق الإنسان تهدد كياننا. إنها تشكل جزءا من تواصل لا سامي عالمي. في الواقع: يتم تمويلها من قبل حكومات أجنبية. كانت هنالك حاجة إلى سن قانون ضدها بسرعة فائقة. لحسن الحظ تم في الآونة الأخيرة سن قوانين كهذه في بعض الدول السوفييتية سابقا. أفيغدور ليبرمان، وزير خارجيتنا الملدافي (عذرا، وزير خارجيتنا القادم من ملدافيا)، قد حصل على صيغة القانون من صديقه الحميم، ألكسندر لوكاشينكو، الديموقراطي الرائع من بلاروس، وصيغة مشابهة من الديموقراطي الممتاز الآخر، فلاديمير بوتين.

كانت تكفي جميع هذه الأخطار الوجودية لتمحو عن الخارطة الاحتجاج الاجتماعي المفاجئ الذي انطلق لدينا، لكنها كانت لا تذكر أمام أكبر خطر بينها - القنبلة الإيرانية.

القنبلة النووية الإيرانية تبشر بكارثة ثانية، وليس بأقل من ذلك. إن قيادة بنيامين نتنياهو القوية فقط يمكنها إنقاذنا في اللحظة الأخيرة.

حيال خطر كهذا، لا يطرح أحد السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يهاجم قائد إيراني دولة لديها الكثير من القنابل النووية الخاصة بها، والتي بمقدورها إبادة إيران في "الضربة الثانية"؟ فالحكومة الألمانية تزوّدنا بغواصة سادسة لهذا الهدف بالضبط!

نعم، القادة الإيرانيون هم متعصبون دينيا. لكن لدينا كهؤلاء، وهم أعضاء في الائتلاف. الآن تماما يوجد لدينا شغب كبير بسبب تعليمات الحاخامين للجنود المتدينين بمغادرة أية مراسيم عسكرية تُنشد فيه جنديات. فقد جاء في الكتاب: "صوت المرأة عورة". يقول أحد الحاخامين المهمين إنه يجب أن يكون الجندي المتدين جاهزا للتصدي لفرقة إطلاق نار، وليس لسماع نشيد امرأة. (لا، هذه ليست نكتة).

لكن إيران تسيطر على الحوار العام. جميع المصابيح الحمراء مضيئة. اليهودي الموجود فينا يخاف خوفا شديدا. ترغب الغزالة بالهرب. يرغب الأسد بالهجوم.

تقول لنا التوراة (سفر الأمثال، 28، 14): "طوبى للرجل المتّقي دائما". ولكن الخوف الدائم هو مستشار سيء عند إدارة الأمور الشخصية، وأسوأ من ذلك بأضعاف عند إدارة شؤون الدولة. ولكن من الناحية السياسية فهذا أسلوب ناجح جدا، خاصة بالنسبة إلى حاكم يريد إسكات الجمهور في الوقت الذي يقوم فيه بهدم الديموقراطية حجرا بعد حجر.

لذلك علينا أن نخرج من بيننا يهودي الجيتو وأن نرسله في حال سبيله. وفي هذه الفرصة، أن نتخلص من دُعاة الخوف أيضا.