اوري افنيري 

منظر من الفيلا / أوري أفينري


لم يكن إعدام معمر القذافي وابنه معتصم منظرا مُفرحًا. بعدما رأيت ذلك مرة، كنت أغمض عينيّ حين يعرضونه على التلفاز مرة تلو الأخرى - حتى كدت أتقيأ، بكل ما في الكلمة من معنى.

التلفزيون التجاري موجود، بطبيعة الحال، لجني الأموال للمليونيرات عن طريق التوجه لأكثر الغرائز الرجعية لدى الجمهور. يبدو أن هنالك طلب لا ينضب على المشاهد المرعبة.

غير أنه يوجد لدينا دافع آخر لعرض مشاهد القتل من دون محاكمة دون توقف. كما وضح المعلقون بشكل جيد، جاءت المشاهد لتبين الطبيعة البربرية والإجرامية لدى الشعوب العربية، وفي الواقع، لدى الإسلام نفسه.

يحب إيهود باراك أن يذكّرنا بأن إسرائيل هي "فيلا في قلب الأدغال". أصبح هذا مقبولا اليوم لدى معظم الإعلاميين لدينا. إنهم لا يفوّتون أية فرصة لتذكيرنا بأننا نعيش في "حارة غير آمنة" - بما معناه، أننا لا ننتمي في الواقع إلى هذه البيئة. فنحن شعب غربي محاط بالهمجيين المتخلفين.

كما ذكرت عدة مرات، يعود ذلك إلى مؤسس الصهيونية مباشرة، بنيامين زئيف هرتسل، الذي كتب أن الدولة الصهيونية المزمع إقامتها ستشكل "مقطعا من جدار الحضارة الأوروبية في وجه البربرية الآسيوية".

بما أن لهذا التوجه تأثيرات نفسية وسياسية بعيدة المدى، فمن الجدير إلقاء نظرة خاطفة عليه عن كثب.

أنا أعارض حكم الإعدام بأي شكل من الأشكال. إن عمليات الإعدام تثير اشمئزازي، وليس مهما ما إذا تم تنفيذها في تكساس أو في الصين. كنت أفضل أن تتم محاكمة القذافي في محكمة علنية.

لكن رد فعلي الأول على هذا المشهد كان: "يا إلهي، إلى أي حد ينبغي أن يكره شعب حاكمه كي يعامله بهذه الطريقة! من الواضح أن عشرات السنوات من الإرهاب الذي انتهجه الطاغية نصف المجنون بحق شعبه لم تترك أي بقايا من الشفقة تجاهه. (المؤيدون المتعصبون الذين بقوا معه حتى النهاية، أبناء قبيلته، يشكّلون كما يبدو أقلية صغيرة).

إن إطلالة القذافي المضحكة ومغامراته الدولية المجنونة لفتت الانتباه العالمي إلى الجوانب الإجرامية لحكمه. بين الحين والآخر، حين يرغب في ذلك، كان يشن موجة من الطغيان، يتم فيها تعذيب وقتل كل من أسمع إشارة من النقد. لقد تمت "محاكمة" هؤلاء في ملاعب كرة القدم، حين غمرت صرخات الجمهور الهائج صوت الضحايا المساكين، الذين توسلوا أن لا يقتلوا. في إحدى المرات أطلق رجاله النار على 1200 أسير في سجن أبو سليم في طرابلس الغرب.

صحيح أنه أنفق أيضا المال في بناء المدارس والمستشفيات، لكن ذلك لا يكاد يُذكر مقابل الثروة الطائلة التي بذرها على المغامرات المجنونة والتي سرقها أبناء عائلته. يعيش في ليبيا، الدولة الغنية إلى حد يثير العجب، سكان فقراء. يمر فيها شارع ضيق وحيد من مصر إلى تونس. مستوى المعيشة هو ثلث المستوى القائم لدينا.

لا حاجة لأن تكون عربيا بربريا أو إرهابيا مسلما كبيرا لكي تفعل ما فعلوه له. فيما يلي حقيقة: قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، فعل الإيطاليون المتحضرون (الذين حكموا ليبيا في الماضي) الشيء ذاته بالضبط لطاغيتهم، بينيتو موسوليني. لقد حاول الهرب، فألقى القبض عليه المقاتلون غير النظاميين، ورغم أنه توسل أن يبقوه حيا فقد أعدموه مع زوجته غير الشرعية على الفور. تم إلقاء الجثتين في الشارع، وأخذ الجمهور يرفسهما ويبصق عليهما. بعد ذلك تم تعليقهما من أرجلهما بواسطة عقفات تعليق اللحوم في سقف محطة وقود، وقام الجمهور برجمهما بالحجارة طيلة أيام. لم يحتج شخص في أوروبا الحضارية على ذلك.

خلافا لموسوليني والقذافي، لم يحاول أدولف هتلر الهرب. لقد اختار نهاية أكثر احتراما. لكن في الأسابيع الأخيرة كان القذافي شبيها بهتلر بالذات، الذي عاش آخر أيامه داخل فقاعة من الأوهام المجنونة، حين يحرك على الخارطة كتائب لم تعد موجودة ويعتمد حتى النهاية على حب شعبه.

نيكولاي تشاوتشيسكو، دكتاتور آخر ملطخ بالدماء، قد تمت محاكمته. كانت هذه مسرحية مجنونة. حكمت عليه محكمة عسكرية بالإعدام، وقد تم إعدامه على الفور، مع زوجته.

لقد وضع موت القذافي حدًا للجدل الذي بدأ قبل بضعة شهور.

لم يبق مكان للشك بأن الأغلبية العظمى من الشعب الليبي قد سئم القذافي ورحّب بتدخل الناتو، الذي ساعد في التخلص منه. لقد كانت تلك مساعدة هامة، لكن جيش الشعب الليبي المُرتجل هو من صمد في القتال العنيف. لقد حررت ليبيا نفسها. حتى في العاصمة طرابلس الغرب، كان ذلك الشعب هو من حرّر نفسه.

انتقدني بعض اليساريين الطيبين في أوروبا بشدة لأنني باركت الوحش المرعب الذي وضعه الناتو. الآن، بنظرة إلى الوراء، بات من الواضح تماما أن الأغلبية العظمى من الليبيين بالذات قد رحّبوا بالتدخل.

ماذا كان الفرق بيني وبين هؤلاء اليساريين؟ يبدو أنهم نسجوا لأنفسهم ما يشبه عباءة كراهية أيديولوجية. لقد خلقوا في حرب فيتنام وجهة نظر كانت تلائم الحالة: كان هنالك الطيبون والأشرار- الطيبون كانوا الشيوعيين الفيتناميين وحلفائهم، والأشرار كانوا الولايات المتحدة وحلفاؤها. من ذلك الوقت وهم يطبقون هذا القالب على كل حالة في العالم: جنوب أفريقيا، يوغوسلافيا، فلسطين وغيرها.

لكن في الحقيقة فإن كل حالة تختلف عن الأخرى. فيتنام ليست ليبيا. كانت مشكلة جنوب أفريقيا بسيطة مقارنة بمشكلتنا المعقدة. من الممكن أن تكون سياسة الدول العظمى ثابتة، غير أنه ثمة فوارق كبيرة بين الحالات المختلفة. لقد عارضت بشدة حروب فيتنام، أفغانستان والعراق، لكنني أيدت من كل قلبي تدخل الناتو في كوسوفو وليبيا.

إن نقطة البداية لكل تحليل أقوم به هي: ما الذي يريده الشعب؟ ما الذي يحتاج الشعب إليه؟ بعد ذلك فقط أسأل نفسي كيف يكون القالب الدولي ملائما لهذه الحالة العينية. يمكن القول: التحرك من الداخل إلى الخارج، وليس من الخارج إلى الداخل.

كذلك لم أفهم أبدا الشعار الذي وكأنما يجيب على جميع الأسئلة: "كل ذلك بسبب النفط". لقد باع القذافي نفطه للغرب، وهذا ما سيفعله كذلك ورثته، وبنفس الشروط. من وجهة نظري، جميع شركات النفط الدولية متشابهة. ما الفرق بين "غازبروم" الروسية و"آسو" الأمريكية؟

يبدو أن لبعض الشيوعيين السابقين هنالك نوع من القرابة الوراثية مع روسيا، التي لا تتغير حتى بتبدل الحكم هناك. إنهم يدعمون الموقف الروسي تلقائيا وفي كل قضية، من أفغانستان إلى الصرب وحتى سوريا. لكن فلاديمير بوتين لا يؤيد دكتاتورية الطبقة العمالية، تكفيه دكتاتوريته الخاصة.

ليست النهاية القاسية للقذافي وحدها هي التي زادت الكراهية العمياء ضد الإسلام- وإنما الانتخابات في تونس أيضا قد ساهمت في ذلك.

النجدة! لقد فاز "مؤيدو الإسلام" في الانتخابات! سيفوز الأخوان المسلمون في الانتخابات في مصر! سيحوّل "الربيع العربي" المنطقة بأكملها إلى معسكر للجهاد! يتهدد إسرائيل والغرب خطر وجودي!

هذه ترّهات. ترّهات خطيرة، لأن من شأنها أن تحرف أية سياسة معقولة لأمريكا وأوروبا عن مسارها في العالم العربي.

صحيح، شأن الإسلام آخذ بالارتفاع. لقد قاومت الأحزاب الإسلامية الطغاة الذين لاحقوها، ولذلك فهي تحظى الآن بالتأييد. هذا أمر طبيعي. لقد حدث ذلك في أوروبا بعد سقوط الفاشية، حين حظي الشيوعيون بتأييد كبير في فرنسا وإيطاليا. بعد مرور وقت ما قلّ التأييد.

يشغل الإسلام مكانة مركزية في الحضارة العربية. كثيرون هم العرب المؤمنون المتشددون. ستلعب الأحزاب الإسلامية بالتأكيد دورًا هاما في أي نظام عربي ديمقراطي، كما تلعب الأحزاب الدينية – للأسف الشديد – دورا هاما في نظامنا الديموقراطي. إن معظم هذه الأحزاب العربية معتدلة، مثلها مثل الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا.

من الأفضل كثيرا أن تندمج هذه الأحزاب في النظام الديموقراطي، لا أن تصبح عدوة له. ينبغي لها أن تكون داخل الخيمة، لأنه عدا عن ذلك يمكن للخيمة أن تنهار. أنا أؤمن أن ذلك جيد لإسرائيل أيضا. لهذا السبب نحن – أصدقائي وأنا – نؤيد مصالحة فتح وحماس والمفاوضات المباشرة بين إسرائيل وحماس، وليس فقط مسألة تبادل الأراضي.

وسائل الإعلام لدينا تفقد صوابها من شدة الغضب: لقد أعلن رئيس حكومة ليبيا المؤقت أن القانون الإسلامي - الشريعة – سيشمل سن قوانين جديدة. لسوء الحظ، لا يعلم مراسلونا أن القانون الإسرائيلي الحالي ينص على أنه إذا لم يكن هنالك حسم بالنسبة لخلاف قانوني، فإن القانون الديني – الهلخاه – هو الذي يملأ الفراغ. يجدر بنا أن نتذكر أيضا أن هنالك اقتراح قانون مطروح على طاولة الكنيست، ينص بشكل قاطع على أنه إذا كان هنالك خلاف قانوني، فالهلخاه هي التي تقرر.

أعتقد أن نتائج الانتخابات في تونس إيجابية للغاية. فكما كان متوقعا، تحول الحزب الإسلامي المعتدل إلى أكبر الأحزاب، لكنه لا يتمتع بأغلبية ساحقة. يجب عليه الآن إقامة تحالف مع أحزاب علمانية، وقد أعلن أنه سيفعل ذلك. إن هذه الأحزاب العلمانية، وهي جديدة وغير معروفة، تحتاج إلى وقت لتعزيز هويتها وتشكيلتها.

إذا كان لي أن أضيف رأيي الشخصي: كنا راحيل وأنا قد أجرينا زيارات كثيرة إلى تونس للقاء ياسر عرفات. لقد أعجبنا الشعب التونسي إلى حد كبير. لقد أعجبنا بشكل خاص بالعدد الكبير من الرجال الذين ساروا في الشارع وزهرة ياسمين خلف أذنهم. لا عجب في أن هذا الشعب أنجز "ثورة الياسمين" دون سفك للدماء تقريبا.

إذا أسفرت الانتخابات الديموقراطية في سائر دول "الربيع العربي" أيضا عن نتائج مشابهة، فسيكون ذلك جيدا للغاية.

لقد كانت حكومة أوباما ذكية للغاية لتقفز على عربة الثورات العربية، حتى ولو كان ذلك في اللحظة الأخيرة تماما. أما نحن الإسرائيليون فلم تكن لدينا هذه الفطنة. لقد سببت لنا كراهيتنا للإسلام أن نفوّت فرصة ذهبية لتحسين صورتنا بين أوساط الثوار العرب الشباب.

عوضا عن ذلك، فإننا نثبت لأنفسنا كم نحن جيدون، عن طريق استنكار بربرية الليبيين، الذين بينوا لنا مرة أخرى أي نوع من الأدغال يحيط بفيلتنا.