اوري افنيري 

الإنكار! الإنكار! / أوري أفنيري


لقد يئست من كل هذه الترهات حول الاعتراف بإسرائيل على أنها "دولة يهودية".

إنها تستند إلى استعارات فارغة من المضمون وتعريفات مشوّشة، من دون أي مضمون حقيقي. إنها تخدم نوايا مختلفة ومستغربة، جميعها تقريبا نوايا خبيثة.

إنها تُستخدم كحيلة بأيدي نتنياهو لعرقلة إقامة الدولة الفلسطينية. لقد أعلن هذا الأسبوع أن النزاع ببساطة "غير قابل للحل". لماذا؟ لأن الفلسطينيين لا يوافقون على الاعتراف وما إلى ذلك.

لقد قدم، هذا الأسبوع، أربعة أعضاء الكنيست من اليمين اقتراح قانون، يخول الحكومة بعدم تسجيل جمعيات جديدة، وتفكيك جمعيات قائمة، في حال كانت "تنكر الطابع اليهودي للدولة".

ما هذا إلا واحد من اقتراحات قانون عديدة تهدف إلى الاقتصاص من حقوق الإنسان للمواطنين العرب واليساريين.

لقد قال المفكر البريطاني الدكتور صموئيل جونسون قبل 250 سنة أن "الوطنية هي الملاذ الأخير للوغد." لو كان يعيش اليوم في إسرائيل، لكان سيعيد صياغة هذه الجملة من جديد: "الاعتراف بالطابع اليهودي للدولة هو الملاذ الأخير للوغد".

بالأسلوب اللغوي الإسرائيلي، فإن إنكار "الطابع اليهودي" للدولة يشبه أكبر جريمة سياسية: الادعاء بأن إسرائيل هي "دولة جميع مواطنيها".

لن يفهم الأجنبي ذلك. من المفهوم ضمنا، في النظام الديموقراطي، أن الدولة تابعة لجميع مواطنيها. مثل هذه المقولة في الولايات المتحدة ستبدو مفهومة ضمنا. أما في إسرائيل، فتكاد تكون هذه خيانة. (ماذا يقول هذا الأمر عن "القيّم المشتركة" المبجلة؟).

عمليا، إسرائيل هي بالطبع دولة جميع مواطنيها. لجميع المواطنين الإسرائيليين البالغين - ولهم فقط - حق التصويت للكنيست. تقوم الكنيست بتعيين الحكومة وتشريع القوانين. لقد سنّت الكثير من القوانين جاء فيها أن إسرائيل هي دولة "يهودية وديموقراطية". بعد عشر سنوات أو مئة سنة ستتمكن الكنيست من الإقرار بأن إسرائيل هي دولة كاثوليكية، بوذية أو مسلمة. في الدولة الديموقراطية، تعود السيادة إلى المواطنين، وليس إلى صيغة كلامية أي كانت.

أي صيغة، عمليًا؟

تفضّل المحاكم الصيغة "دولة يهودية وديموقراطية". ولكن هذه الصيغة بعيدة كل البعد عن أن تكون الصيغة الوحيدة المتوفرة.

الصيغة الأكثر قبولا هي "دولة يهودية"، ولكنها لا ترضي نتنياهو وشركاه. إنهم يتحدثون عن "دولة القومية للشعب اليهودي" - صيغة يبدو صوتها وكأنه أطلال من القرن التاسع عشر. كذلك صيغة "دولة الشعب اليهودي" تحظى هي الأخرى بشعبية كبيرة.

ثمة أمر واحد مشترك بين جميع هذه الشعارات: إنها مشوّشة جدا. ما هو معنى "يهودي"؟ القومية؟ الدين؟ السِّبط؟ من هو "الشعب اليهودي"، فكم بالحري "القومية اليهودية"؟ هل يشمل هذا أعضاء الكونغرس الذين يشرّعون قوانين الولايات المتحدة؟ أو مجموعة الموظفين اليهود في واشنطن المسؤولين عن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟ ومن يمثل السفير البريطاني اليهودي في تل أبيب؟

تحتار المحاكم حول السؤال: أين هي الحدود بين "يهودي" و"ديموقراطي"؟ ما هو معنى "ديموقراطي" في هذا السياق؟ هل يمكن لدولة "يهودية" أن تكون "ديموقراطية"، وهل يمكن لدولة "ديموقراطية" أن تكون "يهودية"؟ تستند جميع الإجابات التي تم تقديمها من قبل قضاة مرموقين وبروفيسورات مشهورين إلى قاعدة غير راسخة.

سنعود إلى البداية: إلى كتاب ثيودور هرتسل، الذي ألفه عام 1896 باللغة الألمانية. لقد أطلق عليه اسم "دكتور يودنشطاط".

للأسف الشديد، هذه كلمة ألمانية نموذجية لا يمكن ترجمتها لأي لغة أخرى. تتم ترجمتها بشكل عام إلى "دولة اليهود" أو الدولة "اليهودية". هاتان الترجمتان خاطئتان تماما.

سيُصدم الكثيرون إذا سمعوا نشأت هذه الكلمة. فهرتسل لم يخترعها. أول من استخدمها كان أحد النبلاء البروسيون يُطلق عليه اسم فريديريخ أوغوست لودويغ فون در مارفيتس، الذي توفي بعد 23 سنة من ولادة هرتسل. لقد كان لا ساميًا فذا، قبل وقت طويل من اختراع ألماني آخر لكلمة "لا سامية" كمصطلح للروح الألمانية السليمة.

مارفيتس، جنرال محافظ متطرف، عارض الإصلاحات الليبرالية التي تم اقتراحها في حينه. لقد حذّر في عام 1811 من أن هذه الإصلاحات ستحوّل بروسيا إلى "يودنشطاط". لم يقصد أن يقول أن اليهود سيتحولون، لا سمح الله، إلى أغلبية في بروسيا، بل أن التجار وبقية المقايضين اليهود سيفسدون شكل الدولة وسيكيدون للقيم البروسية الرفيعة.

لم يحلم هرتسل ذاته بدولة تنتمي لجميع اليهود في العالم. بل على العكس. وفقا لرؤياه، كان على كافة اليهود الحقيقيين أن يهاجروا إلى "يودنشطاط" (في الأرجنتين أو فلسطين - لم يكن قد قرر في حينه بعد). هم، وهم فقط، سيبقون بعد ذلك "يهودًا". كل من تبقى سيمتزج بالشعوب الأخرى في البلاد التي يقطنونها ويكفوا عن كونهم يهودًا.

هذا بعيد، بعيد كل البعد عن فكرة "دولة القومية للشعب اليهودي"، كما هي رؤيا العديد من الصهاينة في أيامنا، ومن ضمنهم الملايين ممن لا يحلمون بالهجرة إلى دولة-إسرائيل.

حين كنت شابًا، شاركت في عشرات التظاهرات ضد حكومة الانتداب البريطاني. كنا نهتف في جميع هذه المظاهرات: "قدوم حر! دولة عبرية!" لا أذكر مظاهرة واحدة كنا قد هتفنا فيها: "قدوم حر! دولة يهودية".

كان ذلك طبيعيًا للغاية. من دون أي يقرر أحد ذلك، كنا نميّز بوضوح بين البلدة التي تتحدث العبرية في البلاد وبين يهود الشتات. أراد القليلون منّا تحويل الأمر إلى أيديولوجية، ولكن لمعظم الأشخاص كان ذلك مجرد تعبير طبيعي عن الواقع. الزراعة العبرية والتقاليد اليهودية، الحركة السرية العبرية والدين اليهودي. كيبوتس يهودي وشطاعطل (بلدة) يهودية. بلدة عبرية وشتات يهودي. لم تكن هناك إهانة أكبر من كلمة "شتات".

بالنسبة إلينا، لم يكن هذا أمر مناهض للصهيونية بل على العكس. لقد أرادت الصهيونية تكوين أمة قديمة-جديدة في البلاد، وكان يجب أن تختلف، بالضرورة، عن الجاليات اليهودية في العالم. الكارثة فقط، بشحنتها الشعورية الثقيلة، هي التي غيرت أسلوب الحديث.

فمن أين إذن ظهر التعبير "دولة يهودية"؟ لقد أطلقت الحكومة البريطانية، خلال الحرب العالمية الأولى، "وعد بلفور" الذي جاء فيه أن "حكومة جلالته تنظر بعين الرضا إلى إقامة بيت قومي للشعب اليهودي في فلسطين..."

لقد تم اختيار كل كلمة في الوعد بدقة، بعد شهور من المفاوضات مع قادة الحركة الصهيونية. كان أحد أهداف البريطانيين هو اجتذاب يهود روسيا والولايات المتحدة ليقفوا إلى جانب الحلفاء. كانت روسيا الثورية على وشك الانسحاب من الحرب، وكان دخول الأمريكيين حيويًا.

(بالمناسبة، لقد رفض البريطانيون المطالبة بالإقرار بأن تتحول أرض إسرائيل إلى البيت القومي للشعب اليهودي، وفضلو صيغة "بيت قومي للشعب اليهودي في فلسطين". هكذا تنبأوا مسبقا بتقسيم البلاد).

في عام 1947 قررت الأمم المتحدة تقسيم البلاد بين السكان العرب والسكان اليهود. لم يعنِ هذا شيئا بالنسبة لطابع الدولتين. لقد استخدم القرار ببساطة التعريفات التي كانت مقبولة على الطرفين. شكّل العرب في المنطقة التي تم تخصيصها للدولة الـ"يهودية" 40% من السكان.

إن مؤيدي "الدولة اليهودية"، يكثرون اليوم من الاستناد إلى جملة جاءت في وثيقة الاستقلال، وتظهر فيها الكلمات "دولة يهودية". تقتبس الوثيقة عن قرار الأمم المتحدة فيما يتعلق بإقامة دولة عربية ودولة يهودية، ويواصل: "وفقا لذلك اجتمعنا... وعلى أساس قرار جمعية الأمم المتحدة، نعلن بهذا عن إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل، هي دولة إسرائيل".

لا تقول هذه الجملة أي شيء عن طابع الدولة. السياق هو سياق رسمي فقط.

يتحدث أحد البنود في الوثيقة بالذات عن "الشعب العبري": "نحن نمد يدنا للسلام وعلاقات الجوار الجيدة مع جميع الدول المجاورة وشعوبها، وندعوهم للتعاون والمساعدة المتبادلة مع الشعب العبري المستقل في بلاده". (تم في الترجمة الرسمية إلى الانجليزية تزييف الجملة الأخيرة وكُتب "الشعب اليهودي ذو السيادة الذي استوطن في أرضه").

في الواقع لم تكن هناك أي إمكانية للتوصل إلى اتفاق داخلي حول صيغة أيديولوجية ما، لأن جميع زعماء الكتل كانوا قد وقعوا على وثيقة الاستقلال، ابتداء بالحاريديين مناهضو الصهيونية وانتهاء بالحزب الشيوعي المخلص لموسكو.

يطرح كل حديث عن الدولة اليهودية بالضرورة السؤال التالي: من هم اليهود - أمّة أم دين؟

يقول المعتقد الرسمي أن "اليهودي" هو تعريف قومي وديني على حد سواء. على عكس كل مجتمع آخر، المجتمع اليهودي هو قومي وديني. إن الأمّة والدين لدينا هما الشيء نفسه.

ولكن بوابة الدخول الوحيدة إلى هذا المجتمع هي بوابة دينية. لا توجد بوابة دخول قومية.

لقد قدم مئات آلاف القادمين غير اليهود إلى إسرائيل من روسيا بمقتضى قانون عودة اليهود، سوية مع أقاربهم اليهود. القانون واسع جدا. بهدف استقطاب اليهود، تم السماح لهم بإحضار أقارب بعيدين جدا أيضا، مثل زوج حفيدة يهودي. العديد من غير اليهود هؤلاء يريدون أن يتحولوا إلى يهود، ليتم اعتبارهم إسرائيليين كاملين. ولكنهم لم يُقبلوا. بموجب القانون، اليهودي هو من وُلد لأم يهودية، أو اعتنق الديانة اليهودية، ولا ينتمي إلى ديانة أخرى. هذا تعريف ديني واضح. التمييز بين أم يهودية وأب يهودي، هو بطبيعة الحال، ديني فقط.

من الصعب جدا اعتناق اليهودية. يطلب الحاخامون من معتنق اليهودية التقييد بكافة الوصايا الـ 613 - الأمر الذي يستوفيه إسرائيليون قليلون جدا. ولكن لا يمكن التحول إلى عضو رسمي في "الأمة" اليهودية بأي طريقة أخرى. يتحول شخص إلى عضو في الأمة الأمريكية في اللحظة التي يحصل فيها على الجنسية الأمريكية. ولكن ليس لدينا.

يدور لدينا رحى نضال دائم حول هذه المواضيع. يرغب القليل منّا بأن تكون إسرائيل دولة إسرائيلية تنتمي إلى الأمّة الإسرائيلية - أي، أن تكون فعلا "دولة جميع مواطنيها". يريد آخرون أن يفرضوا علينا القانون الديني الذي من المزمع أن الله قد سنّه، على جبل سيناء قبل حوالي 3200 سنة، وإلغاء جميع قوانين الكنيست التي تعارض الشريعة. لا يرغب الكثيرون بأي تغيير.

ولكن، بالله عليكم (آسف!)، بما علاقة هذا بالشعب الفلسطيني، او بالشعب الإيسلاندي؟

المطالبة بأن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كـ "دولة يهودية" أو "دولة القومية للشعب اليهودي" منافية للعقل. يُطلب من الفلسطينيين التدخل بالأمور الداخلية لدولة أخرى.

ولكن أحد أصدقائي اقترح مخرجًا: أن تقرر الكنيست تغيير اسم الدولة وتسميتها "الجمهورية اليهودية إسرائيل"، حيث تشمل كل اتفاقية سلام بين إسرائيل ودولة فلسطين العربية الاعتراف المطلوب تلقائيا.

سوف يقربنا هذا أيضا من الدولة التي تشبهنا أكثر من أي دولة أخرى: "الجمهورية الإسلامية باكستان"، التي ولدت تقريبا في نفس الوقت، بعد تقسيم الهند، بعد مجزرة متبادلة فظيعة، بعد خلق مشكلة لاجئين هائلة، بحرب حدود دائمة في كشمير – وبطبيعة الحال بقنبلة نووية.

سوف تثير هذه المقارنة حفيظة كثيرين لدينا. ماذا؟ دولتنا؟! تشبه دولة تخضع للحكم الديني؟! اقرب إلى باكستان منها إلى الولايات المتحدة؟

الإنكار! الإنكار!