|
||
حين حدث ذلك في تونس، كان يمكننا أن نقول: حسنًا، هذه دولة عربية، ولكنها صغيرة. كانت دائما أكثر تقدما من الأخريات. هذه حالة فريدة. وها هو يحدث الأمر ذاته في مصر. دولة رئيسية. قلب الأمة العربية. المركز الروحي للمسلمين السُنيين. ولكن يمكننا أن نقول: حسنًا، مصر هي حالة خاصة. بلاد الفراعنة. لها تاريخ من آلاف السنين قبل أن يصل العرب إليها. ولكن الآن، ينتشر هذا الآمر في كافة أنحاء العالم العربي. الجزائر، البحرين، اليمن، الأردن، ليبيا، وحتى المغرب. حتى في إيران، التي ليست عربية ولا سنّية. إن مارد الانقلاب، التجديد، التخلص، أصبح يهدد كافة الأنظمة في المنطقة. قد يستيقظ سكان "الفيلا في الأدغال" في صباح أحد الأيام ويكتشفوا أن الأدغال قد اختفت، وأننا محاطون بمنظر جديد تماما. عندما قرر أجدادنا الصهيونيون إقامة "ملجأ آمن" في أرض إسرائيل، كان أمامهم خيار من بين اثنين: كان يمكنهم الظهور في صدارة آسيا كمحتل أوروبي، يرى نفسه رأس حربة للإنسان "الأبيض" وسيد "أبناء البلاد"، مثل المحتلين الإسبان والمستعمرين الأنجلوا سكسونيين في أمريكا. كذلك فعل الصليبيون، في حينه، في أرض إسرائيل. كانت الطريق الثانية هي أن يروا أنفسهم كشعب آسيوي عائد إلى وطنه – يرى نفسه وريثا لتقاليد سياسية وثقافية للعرق السامي، المستعد لإرشاد شعوب المنطقة السامية في حرب تحريرهم من ضيم الاستبداد الأوروبي - - - كتبت هذه الكلمات قبل 64 عاما، في كراسة ظهرت قبل شهرين فقط من اندلاع حرب 1948. أنا مستعد لتكريرها هذا الأسبوع، وبإصرار أكبر. ينتابني في هذه الأيام شعور بأننا نقف مجددا أمام مفترق طرق تاريخي. الطريق التي سنختارها في الأيام القريبة ستحدد مصير الدولة لسنوات طويلة، وربما إلى الأبد. إذا اخترنا الطريق غير الصحيحة، سيكون ذلك بكاءً مريرًا لأجيال، بكل ما في هذه العبارة من معنى. ربما تكون الطامة الكبرى هي ألا نختار على الإطلاق، ألا نعي الحاجة للاختيار وأن نواصل، بكل بساطة، الطريق التي قادتنا إلى ما نحن عليه. أن ننشغل في أمور تافهة – الخصام بين وزير الدفاع ورئيس الأركان المستقيل، النزاع بين نتنياهو وليبرمان على تعيين سفير، "الأخ الأكبر" وسائر تفاهات التلفاز – لدرجة أننا لا نلاحظ أن التاريخ يعبر أمامنا ويتركنا خلفه. حين وجد سياسيونا ومحللونا وقتا – بين كافة هذه التفاهات – للانشغال في الأحداث التي تحيط بنا، فقد فعلوا ذلك بالطريقة القديمة والمعروفة. حتى في برامج النقاشات المثقفة إلى حد ما، كانت هنالك سخرية كبيرة من مزاعم "العرب" بإقامة ديمقراطية. قام بروفسورات مثقفون ومحللون في وسائل الإعلام "بالإثبات" أن شيئا كهذا لا يمكن له أن يحدث - الإسلام "بطبيعته" ضد الديمقراطية ومتخلف، تنقص المجتمعات العربية المبادئ المسيحية البروتستانتية المطلوبة للديمقراطية، أو الأسس الرأسمالية لإنشاء مكانة متوسطة ثابتة وما إلى ذلك. في أفضل الحالات، سيتم استبدال دكتاتورية بأخرى. كان الاستنتاج الأكثر شعبية هو أن الانتخابات الديمقراطية ستؤدي حتما إلى فوز المتعصبين "المسلمين"، الذين سيقيمون نظام حكم ديني قاس على شاكلة الطالبان، أو ما هو أسوأ من ذلك. إن جزءًا من هذه الادعاءات هو، بطبيعة الحال، دعاية موجهة تم إعدادها لإقناع الأمريكيين والأوروبيين السّذج أن عليهم تقوية أتباع مبارك في المنطقة، أو، بدلا من ذلك، دكتاتورات عسكرية جديدة. ولكن على الأغلب هذا رأي واضح تمامًا: يؤمن معظم الإسرائيليين بالفعل أنه إذا ما تُرك العرب وشأنهم سيقيمون أنظمة "إسلامية" سفاحة يكون هدفها محو إسرائيل من الخارطة. لا يعرف الإسرائيلي العادي شيئا عن الإسلام وعن العالم العربي. مثلما قال جنرال (يساري) قبل 65 عاما حين سُئل كيف ينظر إلى المشكلة العربية: "من خلال عدسات البندقيات!" كل شيء ينحصر في "الأمن" - وانعدام الأمن يمنع، بطبيعة الحال، أي تفكير جدي. لقد ولد هذا التوجه في الأيام الأولى لنشوء الصهيونية. كتب بنيامين زئيف هرتسل، كما هو معروف، في كتاباته التاريخية، أن دولة اليهود التي ستقام ستشكّل في البلاد "جزءا من سور الحضارة" ضد الهمجية الآسيوية - أي العربية. لقد أعجب هرتسل بسسيل رودس، حامل راية الإمبريالية البريطانية. كان هو وتلاميذه شركاء في التوجه الروحي الذي سيطر على أوروبا في تلك الفترة، تلك التي لقبها المثقف الفلسطيني إدوارد سعيد، بعد فترة، "الاستشراق". بنظرة إلى الوراء، ربما كان ذلك طبيعيا، على ضوء الحقيقة أن الحركة الصهيونية ولدت في أوروبا قبيل نهاية العهد الإمبريالي، وقد تأهبت لإقامة دولة يهودية في بلاد يسكنها شعب آخر، هو الشعب العربي. المأساة هي أن هذه الحقيقة لم تتغير طوال 120 عاما، وأنها اليوم أقوى من أي وقت مضى. بقي من يقترح لدينا اتجاها آخر - وقد كانوا قلة دائمًا- أصواتا تنادي في الصحراء. يتجسد هذا في هذه الأيام بالتوجه الإسرائيلي إزاء الأحداث التي تهز العالم العربي، والعالم أجمع. صحيح أنه كان هنالك، بين أوساط الشعب الإسرائيلي، الكثير من التشجيع العفوي للجماهير المصرية التي واجهت النظام الدكتاتوري في ميدان التحرير – لكن الجميع تعامل مع الأمر من الخارج، عن بُعد، وكأنه حدث على القمر. كان السؤال العملي الوحيد الذي أثير هو: هل ستصمد اتفاقية السلام الإسرائيلية – المصرية؟ أو لربما يتوجب علينا إقامة فيالق عسكرية جديدة استعدادا لحرب محتملة مع مصر؟ عندما وعدَنا "خبراء الشؤون الأمنية" أنه ما من خطر كهذا، فقد الجمهور الاهتمام بالموضوع كله. ولكن اتفاقية السلام - التي ليست سوى وقفا لإطلاق النار بين الأنظمة والجيوش – كان يجب أن تقض مضجعنا أقل من موضوع آخر. السؤال المهم حقا هو: ماذا سيكون شكل العالم العربي الجديد؟ هل سيكون الانتقال إلى الديمقراطية سلسا وغير عنيف، نسبيا، أم لا؟ هل سيحدث ذلك أصلا، وهل هذا معناه أن إسلامًا أكثر تطرفا سيسيطر على المنطقة، أمر ممكن بالتأكيد؟ هل باستطاعتنا أن نؤثر، بطريقة ما، على مجريات الأمور؟ من الواضح أنه ما من حركة عربية معنية بمعانقة الإسرائيلية. مثل هذه المعانقة هي أشبه بمعانقة الدب. يعتبر جميع العرب إسرائيل اليوم دولة مستعمرة، معادية للعرب، تقمع الفلسطينيين وتعمل على نهب أكبر عدد ممكن من العرب – رغم أني على قناعة أن هناك أيضا الكثير من الإعجاب الصامت بإنجازات إسرائيل التكنولوجية والأخرى. ولكن عندما تثور شعوب برمتها وتحطم الثورات جميع المسلمات، هنالك احتمال حقيقي لتغيير عام في القيم. لو قام الآن في إسرائيل قادة سياسيون وروحيون وأعلنوا بملء أفواههم عن تضامنهم مع الجماهير العربية ونضالها من أجل الحرية، العدل والاحترام، لاستطاعوا زرع بذرة ستحمل ثمارا في الأعوام المقبلة. يجب على مثل هذه التصريحات، بطبيعة الحال، أن تصدر من القلب. إذا كانت هنالك حيلا دعائية رخيصة فقط، فسيسخروا منها وبحق. يجب أن تكون مرفقة بتغيير عميق في نظرتنا إلى الشعب الفلسطيني. لذلك، يشكل السلام مع الفلسطينيين الآن وفورا، حاجة ماسة تحتاجها دولة إسرائيل. إن مستقبلنا ليس مع أوروبا أو أمريكا. مستقبلنا في هذه المنطقة، التي تنتمي دولتنا إليها، في الخير والشر. لا يكفي أن تتغير سياستنا فقط، بل يجب أن يتغير توجهنا الأساسي برمّته، نظرتنا إلى موقعنا الجغرافي بحد ذاته. علينا أن نفهم أننا لسنا رأس الحربة لشيء بعيد، بل نحن جزء من المنطقة التي تنضم اليوم – وأخيرا – إلى مسيرة البشرية نحو الحرية. الاستفاقة العربية ليست مسألة شهور سنوات قليلة. يمكن لهذا الأمر أن يكون نضالا متواصلا، تتمخض عنه إخفاقات وهزائم كثيرة. ولكن المارد لن يعود إلى القمقم. ستستمر مشاهد الأيام الثمانية عشرة في ميدان التحرير لتعشش في قلوب جيل عربي جديد، من مراكش إلى الموصل، ولن تنجح أي دكتاتورية قد تقوم هنا أو هناك في محوها. لا يمكنني أن أتخيل طريقة أكثر حكمة وجاذبية لنا، نحن الإسرائيليون، سوى السير في ركب هذه المسيرة. |