|
||
لقد قال "قال لنا جدي أن نحب العدو، حتى عندما نقاتله". "لقد قاتل الحكم البريطاني بلا هوادة، ولكنه أحب البريطانيين". (اقتباس من الذاكرة). بدا لي هذا الأمر، في اللحظة الأولى، مجرد ترهات، أمنية وَرِعة من قبل طيبي القلوب. وفجأة تذكرت أن هذا ما أحسست به في شبابي، حين انضممت في سنة الخامسة عشرة إلى المنظمة العسكرية الوطنية. كنت أحب الإنجليز، اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية، وكنت مستعدًا للتضحية بنفسي من أجل طرد الإنجليز من البلاد. حين قلت ذلك في لجنة القبول، أمام الضوء الساطع الذي كان يتوهج أمام عينيّ، كانوا على وشك رفض طلبي للانضمام. ولكن أقوال الحفيد أثارت في نفسي تفكيرًا أعمق بكثير. هل يمكن صنع السلام مع عدو نكنّ له الكراهية؟ هل السلام ممكن أصلا، إذا لم تكن هنالك نظرة إيجابية إلى الطرف الثاني؟ الإجابة هي، للوهلة الأولى، "نعم". سيقول "المنطقيون" و"البراغماتيون" أن صنع السلام هو شأن يعود إلى المصلحة السياسية، ومن المفضل عدم إقحام الأحاسيس فيه. مثل هؤلاء "المنطقيون" هم أشخاص غير قادرين على أن يتخيلوا واقعا آخر. أما مثل هؤلاء "البراغماتيون" فهم أشخاص غير قادرين على التفكير بعيد المدى). كما هو معروف، فالسلام يُصنع مع الأعداء. وللعدو كراهية مكنونة. يُُصنع السلام لإنهاء الحرب. الحرب هي مملكة الكراهية، شيطنة العدو. يتم وصف العدو في كل حرب وكأنه إنسان قذر، قاس وشرير في طبيعته. من شأن السلام أن يضع حدًا للحرب، ولكنه لا يضمن أي تغيير في النظرة إلى عدو الأمس. يتوقفون عن قتله، ولكن هذا لا يعني أنهم يبدؤون في محبته. حين يتم التوصل إلى الاستنتاج بأن وقف الحرب أكثر جدوى من متابعتها، فهذا لا يعني أن النظرة إلى العدو قد تغيّرت. توجد هنا مفارقة مضمّنة: يبدؤون بالتفكير في السلام بينما لا تزال الحرب في أوجها. على أية حال من الأحوال، فإن مخططي السلام هم تلاميذ الحرب، الذين يأسرهم عالم مصطلحات الحرب. من شأن هذا أن يشوّه تفكيرهم. يمكن للنتيجة أن تكون وحشا، كاتفاقية فرساي الشهيرة سلبا، تلك التي أنهت الحرب العالمية الأولى. لقد سحقت الاتفاقية ألمانيا المهزومة، استغلتها، والأسوأ من ذلك كله: لقد أذلتها. على حد اعتقاد معظم المؤرخين، فإن هذه الاتفاقية هي المذنبة، بقدر ما، في نشوب الحرب العالمية الثانية، التي كانت أسوأ بأضعاف مضاعفة. (لقد ترعرعت، في طفولتي، في ألمانيا في ظل اتفاقية فرساي، وأنا أعلم عمّا أتحدث). لقد أدرك المهاتما غاندي ذلك. إنه لم يكن إنسانا خلوقا فحسب، بل كان أيضا إنسان حكيم جدا (ولربما هذان الأمران سواسية). لم أوافق معه حين طالب بعدم مقاومة ألمانيا النازية بالقوة، ولكني كنت أعتبره دائما زعيم فذ في حرب التحرير الهندية. لقد أدرك أن أهم دور يلعبه زعيم تحرير هو بلورة وعي الشعب الذي يطمح إلى التحرّر. حين وقف مئات ملايين الهنود أمام عشرات آلاف البريطانيين، لم تكن المشكلة الأساسية هي كيفية دحر البريطانيين فحسب، بل كيف يتم حث الهنود أنفسهم ليرغبوا في التحرر وليعيشوا بحرية. صنع السلام من دون كراهية، من دون الرغبة في الانتقام، بقلب مفتوح، من خلال الاستعداد لمصالحة عدو الأمس. لقد نجح غاندي ذاته في ذلك جزئيا فقط. ولكنه حكمته كانت قد أنارت الطريق لكثيرين. لقد صنعت أشخاصا مثل نلسون منديلا، الذي صنع السلام من دون كراهية ومن دون انتقام، ومارتين لوثر كينغ الذي دعا إلى المصالحة بين الأبيض والأسود. نحن أيضا لدينا كثير لنتعلمه من حكمته. ظهرت في التلفزيون، هذا الأسبوع، (في برنامج لندن وكيرشنباوم) خبيرة في تحليل التوجهات المُستقاة من استطلاعات الرأي. لم تقم البروفيسورة تمار هرمان، من الجامعة المفتوحة، بتحليل هذا الاستطلاع أو ذاك، بل حللت مجمل الاستطلاعات، على مدى عشرات السنوات. لقد صادقت البروفيسورة هرمان، من الناحية الإحصائية، على ما كلنا نشعر به بشكل عملي: أنه توجد في إسرائيل عملية متواصلة وطويلة الأمد من الانتقال من آراء اليمين إلى آراء اليسار. لقد أصبح حل الدولتين اليوم مقبولا على الأغلبية الساحقة. تقبل الأغلبية الساحقة أيضا أن ترتكز الحدود على الخط الأخضر، مع تبادل محدود للأراضي التي ستبقي الكتل الاستيطانية في إسرائيل. يقبل الجمهور أن يتم إخلاء سائر المستوطنات. يقبل الجمهور حتى أن تكون الأحياء العربية في القدس الشرقية جزءا من الدولة الفلسطينية التي ستتم إقامتها. وكان استنتاج الخبيرة كما يلي: هذه عملية ديناميكية ومستمرة. إن الرأي العام أخذ بالتحرك بهذا الاتجاه أكثر فأكثر. تجول في خاطري أيام خلت، في بداية الخمسينات، حين طرحنا هذا الحل لأول مرة. لم يكن هنالك، في إسرائيل والعالم معا، أكثر من مئة شخص أيدوا هذا الموضوع. فمنذ عام 1970 تجولت في ردهات السلطة في واشنطن، من البيت الأبيض وحتى وزارة الخارجية، في محاولة يائسة لأجد حتى سياسي واحد كبير ليدعم هذا الرأي. لقد عارض الجمهور الإسرائيلي ذلك بالإجماع تقريبا، وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية، التي نشرت كتابا خاصا لاستنكار "برنامج أفنيري". أصبح الآن هنالك إجماع عالمي يؤيد هذا الحل، ويشمل كافة الدول الأعضاء في الجامعة العربية. وحسب أقوال البروفيسورة، فهنالك إجماع إسرائيلي يؤيده أيضا. وأما يميننا المتطرف فيتهم بنيامين نتنياهو، خطيا وشفويا، بأنه يخرج إلى حيز التنفيذ ما يسمونه هم "برنامج أفنيري". كان من الجدير بي أن أكون راضيا جدا، أن أنتشي من السعادة أمام كافة نشرات الأخبار التي يتحدثون فيها عن "دولتين لشعبين" كأمر مفروغ منه. إذن، لماذا أشعر بالانزعاج؟ هل أنا متذمر مهني؟ قمت ببحث نفسي، ويبدو لي أنني عثرت على بؤرة عدم رضاي. حين يتحدثون اليوم عن "دولتين لشعبين"، فهذا يكاد يكون مصحوبا دائما بالتفكير بـ"الانفصال". وكما عبر إيهود براك عن ذلك، بأسلوبه الخاص: "هم هناك ونحن هنا". هذا متعلق بالصورة التي نرسمها أمام أعيننا: دولة إسرائيل هي فيلا داخل غابة. من حولنا حيوانات متوحشة، ترغب في افتراسنا في أية لحظة، ونحن في الفيلا الخاصة بنا علينا أن نقيم جدارا حديديا من حولنا. هكذا يتم أيضا بيع هذه الفكرة للجماهير. أنها تجمع الشعبية من حولها أيضا لأنها تضمن انفصالا نهائيا وتامًا. ليغربوا عن وجوهنا. تبًا، لتكن لهم دولة وليتركونا وشأننا. سيتحقق "حل الدولتين"، وسنعيش نحن في "دولة القومية التابعة للشعب اليهودي" التي ستكون جزءا من الغرب، وأما "هم" فسيكونون في دولة تكون جزءا من العالم العربي، وسيفصل بيننا جدار عال. جدار يكون جزءا من الجدار بين الحضارتين. من دون أن أولي أهمية، أتذكر الكلمات التي كتبها بنيامين زئيف هرتسل قبل 114 سنة في كتابة "دولة اليهود": "سنكون في فلسطين... من أجل أوروبا، جزءا من الجدار ضد آسيا، سنخدم كوحدة حربية متقدمة تابعة للحضارة ضد البربرية". لم تكن هذه خطة قلة من الأشخاص الذين وضعوا خطة الدولتين منذ بداية الخمسينات وفي السنوات التي تلت تلك الفترة. فقد دفعهما توجهان متلازمان مع بعضهما البعض: محبة أرض إسرائيل والطموح إلى المصالحة بين شعبيها. أنا أعلم أن أشخاصا كثيرين تقشعر أبدانهم لسماع الكلمات "محبة أرض إسرائيل". هذه الكلمات، مثلها مثل أمور أخرى كثيرة، قد سُلبت منّا على يد اليمين المتطرف، الذي أخذها كرهائن. ونحن سمحنا له بذلك. لم ينظر جيلي، الذي كان له متسعا من الوقت ليجوب البلاد بطولها وعرضها قبل قيام الدولة، إلى أريحا والخليل ونابلس على أنها أماكن خارج البلاد. لقد أحببناها. أثارت مشاعرنا. أنا أحبها اليوم أيضا. لقد تحولت هذه المحبة لدى بعضنا، مثل عاموس كينان، إلى وسواس قهري. أما المستوطنون الذين يأتون على ذكر محبتهم للبلاد مرارا وتكرارا، فهم يحبونها كما يحب المُغتصب ضحاياه. إنهم يغتصبون البلاد ويسيطرون عليها بالعنف. يبدو هذا الأمر واضحا أيضا في الهندسة المعمارية لمبانيهم على قمم التلال، وهي مساكن محصّنة تعلوها أسطح القرميد السويسرية. إنهم لا يحبون البلاد الحقيقية، بما فيها من قرى تحتوي على مآذن للمساجد، المنازل الحجرية بنوافذها المقوّسة، التي تنحدر على سفوح التلال وتندمج في المشهد، قطع الأرض المُعتنى بها حتى السنتيمتر الأخير، والأودية وكروم الزيتون. إنهم يحلمون ببلاد أخرى، هذه هي التي يرغبون بإقامتها على أنقاض البلاد المحبوبة. لقد عبر كينان عن ذلك ببساطة: "دولة إسرائيل تدمّر أرض إسرائيل!" ناهيك عن الرومانسية، المهمة بحد ذاتها، فقد رغبنا في توحيد البلاد الممزقة بالطريقة الممكنة الوحيدة. بالمشاركة بين الشعبين الذين يحبانها. هذان الكيانان القوميان، رغم كافة وجوه الشبه القائمة بينهما، يختلف أحدهما عن الآخر جدًا، في الثقافة، في الدين، في التقاليد، في اللغة، في الخط، في نمط الحياة، في المبنى الاجتماعي، في التطور الاقتصادي. تثبت تجربة حياتنا والتجربة العالمية كلها، في جيلنا أكثر منها في أي جيل آخر، أن مثل هذين الشعبين لا يمكنهما أن يسكنا في دولة واحدة. (الاتحاد السوفييتي، يوغوسلافيا، تشكوسلوفاكيا، قبرص، وربما بلجيكا، كندا والعراق أيضا). لذلك نشأت الحاجة إلى العيش في دولتين، واحدة إلى جانب الأخرى (مع احتمال إقامة فدرالية في المستقبل). حين توصلنا إلى هذا الاستنتاج في نهاية حرب عام 1948، بلورنا حل الدولتين ليس كبرنامج فصل، بل كبرنامج توحيد بالذات. طيلة عشرات السنوات، تحدثنا عن دولتين تكون الحدود بينهما مفتوحة، ويكون اقتصادهما مشتركا، ويكون فيهما تنقل حر لبني البشر والبضائع. كانت هذه هي المعالم الأساسية في كافة برامج إنشاء "حل الدولتين". ذلك إلى أن جاء "المنطقيون" المزيفون، وأخذوا الجسد بلا الروح، وحولوا البرنامج الحي إلى سلسلة من العظام الجافة. ثمة كثيرون في اليسار أيضا، مستعدون لتبني التوجه المُفرّق، من خلال إيمانهم الذي يبدو وكأنه براغماتيا، بأنه سيكون من الأسهل بيع هذا التوجه إلى الجماهير. ولكن في لحظة الاختبار، ينهار هذا التوجه. لذلك انهارت كافة "محادثات السلام". أقترح أن نعود إلى حكمة غاندي. لا يمكن إثارة مشاعر الجماهير من أجل السلام من دون رؤيا. السلام ليس وقفا مؤقتا للمعارك، وليس دغل من الجدران والأسيجة. كما أنه ليس اليوتوبيا القائلة "ويسكن ذئب مع حمل". إنه وضع حقيقي من المصالحة، من المشاركة بين الأشخاص والشعوب، الذين يحترمون بعضهم البعض، المستعد أحدهم لتلبية مصلحة الآخر، يتاجر أحدهم مع الآخر، ينشئون علاقات فيما بينهم، ومن يعرف – ربما حتى أنهم قد يبدءوا يحبون بعضهم البعض. باختصار: دولتان، مستقبل مشترك. |