|
||
نحن نلتقي، غالبا في المظاهرات، بجانب الجدار في بلعين وفي أماكن مماثلة. بالكاد كان هنالك وقت للمصافحة بالأيدي وبعض عبارات اللياقة. شاركنا سويا في ذكرى يوم الأرض في قرية صغيرة قرب قلقيلية، والتي لم يسمع عنها أبدا أشخاص كثيرون: قرية عزبة الطبيب. أقيمت القرية عام 1920، ولا تعترف حكومة الاحتلال بوجودها. وهم يريدون تدميرها ونقل أراضيها الواسعة إلى مستوطنة آلفي منشه. لقد كنا محاطين بجمهور غفير من الوجهاء – وجهاء من القرى المجاورة ونشطاء في أحزاب منظمة التحرير الفلسطينية وسكان القرية. كان بإمكاني أن أتحدث معه من على منبر الخطابة فقط. حثثته على زيادة التعاون بين الزعامة الفلسطينية وبين معسكر السلام الإسرائيلي، تعاون كان قد تضعضع كثيرا منذ اغتيال ياسر عرفات وفيصل الحسيني. لا يمكننا إلا أن نستلطف فياض. إنه يُبدي استقامة، جدية ومسؤولية. إنه يبعث الثقة في النفس. لم تلتصق به أية وصمة فساد. يبدو كمن لا توجد لديه مآرب شخصية. إنه ليس زعيم حزب، وبالكاد انضم إلى حزب صغير. إنه لا ينتمي لأي معسكر من المعسكرين المتخاصمين، في المواجهة الكبيرة بين فتح وحماس. يبدو كمدير بنك – وهذا ما كان هو بالفعل: أحد كبار موظفي البنك الدولي. فياض هو النقيض التام لعرفات، الذي كان قد عينه في حينه ليتولى منصب وزير المال. وقد أحاطه الرئيس الفلسطيني بالصلاحيات، وأما رئيس الحكومة فقد كان بدوره متواضعا. كان عرفات شخصا منفتحا، أما فياض فكان شخصا منطويا. أحب عرفات الإيحاءات الكبيرة، أما فياض فيفتقر إلى أية إيحاءات. ولكن الفارق الأساسي بين الرجلين يكمن في الأسلوب. لم يضع عرفات كل البيض الذي بحوزته في سلة واحدة، فقد كان يؤمن بتعدد السلال. لقد كان على استعداد للاستخدام، بالتناوب وفي الوقت ذاته، الدبلوماسية والمواجهة المسلحة، النضال الشعبي والعمليات العسكرية، الحركات المعتدلة والجهات المتطرفة. كان يؤمن بأن الشعب الفلسطيني الضعيف لا يمكنه التنازل عن أي من الوسائل المتوفرة بحوزته. بالمقابل، وضع فياض كل البيض الذي بحوزته – وبحوزة الشعب الفلسطيني – في سلة واحدة. لقد انتهج إستراتيجية واحدة ولم يحد عنها. إنه رهان وطني وشخصي. رهان جريء وخطير. يؤمن فياض، على ما يبدو ظاهريا، أن الاحتمال الوحيد المتبقي أمام الشعب الفلسطيني لتحقيق أهدافه الوطنية هو استخدام الوسائل غير العنيفة، من خلال التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة. إن برنامجه هو تدعيم المؤسسات الوطنية الفلسطينية وإقامة بنية اقتصادية تحتية قوية، وبعد ذلك الإعلان، في نهاية العام 2011، عن إقامة دولة فلسطين المستقلة. أكثر ما يذكرنا ذلك هو بالإستراتيجية التي انتهجتها الزعامة الصهيونية برئاسة دافيد بن غوريون. يدعى هذا باللهجة الصهيونية "خلق حقائق على أرض الواقع". بموجب برنامجه، يجب على الولايات المتحدة أن تعترف بالدولة وأن تفرض على إسرائيل شروط السلام المعروفة: حل الدولتين، العودة إلى حدود عام 1967 مع تبادل مناطق محدودة ومتفق عليها، تحويل القدس الشرقية إلى عاصمة دولة فلسطين، إزالة جميع المستوطنات، التي لن يتم ضمها إلى إسرائيل في إطار تبادل الأراضي، عودة رمزية لعدد متفق عليه من اللاجئين إلى إسرائيل واستيعاب سائر اللاجئين في فلسطين وأماكن أخرى. تبدو هذه الإستراتيجية معقولة، ولكنها تثير أسئلة كثيرة. السؤال الأول: هل يوجد شريك لها؟ أي، هل الفلسطينيون قادرون على الاعتماد على الولايات المتحدة لتلعب دورها في هذه الخطة؟ لقد تزايدت الاحتمالات لذلك في الأسابيع الأخيرة. بعد انتصارات مثيرة للإعجاب، على الحلبتين الداخلية والخارجية، يُبدي الرئيس أوباما ثقة بالنفس، وكذلك الأمر على الحلبة الإسرائيلية-الفلسطينية أيضا. كانت هنالك إشارة إلى أنه مستعد أن يفرض على الطرفين خطة سلام أمريكية، تشمل العناصر ذاتها. تم الذكر بوضوح أن هذا ليس ارتجالا سياسيا، بل هو إستراتيجية ترتكز على تقدير المصلحة الوطنية الأمريكية، والمدعومة من قِبل الجهاز العسكري. ولكن المعركة الحاسمة لم تحسم بعد. من المتوقع أن ينشب نزاع عرقي بين أعظم لوبيين في واشنطن: اللوبي العسكري واللوبي الموالي لإسرائيل. البيت الأبيض من جهة والكونغرس من جهة أخرى. يستند رهان فياض إلى الأمل بفوز البيت الأبيض، بمساعدة الجيش، في هذا النزاع، وباراك أوباما بمساعدة الجنرال ديفيد بترواس. إنه رهان منطقي ولكنه خطير. السؤال الثاني: هل يمكن بناء "الدولة المنشودة" الفلسطينية، وهي تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي؟ إن فيّاض ينجح حاليا. فهناك بالفعل انتعاش ما في الضفة الغربية، وتتمتع به بالأساس طبقة معينة. تدعم حكومة نتنياهو هذا الجهد، حين تُوهم نفسها بأن "السلام الاقتصادي" يمكن أن يكون بديلا للسلام. ولكن هذا المبنى واقف على رجلي دجاجة. يمكن لسلطات الاحتلال أن تدمّره عن بكرة أبيه بإيماءة واحدة. لقد رأينا ذلك في حملة "الجدار الواقي" في شهر أيار من عام 2002، حين دمّر الجيش الإسرائيلي، وبضربة واحدة، كل ما بناه الفلسطينيون منذ اتفاقية أوسلو. لقد رأيت بأم عيني المكاتب المدمرة التابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله، الحواسيب المحطمة، الملفات الممزقة والمبعثرة في وزارتي التعليم والشؤون الصحية والجدران المنهارة في المقاطعة. إذا رغبت حكومة إسرائيل بذلك، فسوف يتم إضرام النار في جميع وزارات فياض المنظمة، المصانع الجديدة والمبادرات الاقتصادية. يعتمد فياض على شبكة الحماية الأمريكية. هناك شك حول ما إذا كان باستطاعة نتنياهو أن يُحدث في عام 2010، في عهد أوباما، ما أحدثه أريئل شارون عام 2002 في عهد جورج بوش. ثمة عنصر هام في الواقع الجديد وهو "جيش ديتون". يقوم الجنرال الأمريكي كيت ديتون بتدريب قوى الأمن الفلسطينية. إن من شاهدهم، أدرك أنه جيش منظم بكل من جميع النواحي. (في مظاهرة يوم الأرض وقف الجنود الفلسطينيون على التلة، بزي باللون العسكري والخوذات، وانتشر جنود الجيش الإسرائيلي بزي مشابه، على سفح التلة. كان ذلك في منطقة سي، الواقعة تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية. يستخدم الجيشان السيارات العسكرية الأمريكية ذاتها، بألوان مختلفة). يعرف فياض، من دون أدنى شك، أن خطوة واحدة فقط تفرق بين إستراتيجيته وبين اتهامه بالتعاون مع سلطات الاحتلال. السؤال الثالث: ماذا سيحدث إذا أعلن الفلسطينيون عن إقامة دولتهم في نهاية العام 2011؟ يساور الشك العديد من الفلسطينيين حول هذا الموضوع. فقد كان المجلس الوطني الفلسطيني قد أعلن، في العام 1988 عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة. تمت قراءة وثيقة الاستقلال الفلسطينية، التي وضعها الشاعر محمود درويش، وما أعجب وجه الشبه بينها وبين وثيقة الاستقلال الإسرائيلية. اعترفت عشرات الدول بهذه الدولة، ويتمتع مبعوثو منظمة التحرير الفلسطينية في عواصمها بمنصب رسمي كسفراء. بأي شكل حسّن هذا الأمر من وضع الفلسطينيين؟ السؤال الأهم هو، هل ستعترف الولايات المتحدة بدولة فلسطين عند إقامتها، وهل ستصدر تعليماتها إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ليعترف بها. في شهر أيار من عام 1948، منحت الولايات المتحدة دولة إسرائيل الجديدة اعترافا عمليا وليس نظريا. وقد سبقها ستالين في ذلك ومنح الدولة اعترافا نظريا على الفور. إذا تحقق أمل فياض واعترفت الولايات المتحدة بدولة فلسطين، فسيتغير وضع الفلسطينيين بشكل لم يسبق له مثيل. على ما يبدو، لن يكون هناك خيار أمام حكومة إسرائيل سوى أن توقع على اتفاقية سلام، تتم صياغتها، في الواقع، من قِبل الأمريكيين. ستنسحب إسرائيل من جميع أراضي الضفة الغربية تقريبا. السؤال الرابع: هل سينطبق هذا الأمر على غزة أيضا؟ علينا أن نفترض حدوث ذلك. خلافا للصورة الشيطانية التي تصورها الدعاية الإسرائيلية والأمريكية، فإن حركة حماس تطمح إلى دولة فلسطينية، وليس لمقولات إسلامية. كما هي الحال لدى الحاريدين لدينا، الذين يطمحون إلى دولة-الهلخاة (الشريعة اليهودية) فهي ستعرف كيف تتماشى مع الواقع. لا يقتصر طموح حماس على السيطرة على قطاع صغير. حماس هو حزب كبير وهو يرغب في أن يلعب دورا رئيسيا في الدولة الفلسطينية كلها. يقضي موقف حماس الرسمي بأن تحصل الحركة على اتفاقية سلام موقعة من قِبل السلطة الفلسطينية، إذا تمت الموافقة عليها من قِبل الشعب الفلسطيني، من خلال استفتاء شعبي أو بقرار من البرلمان. يجدر الذكر أن حماس تتطرق إلى تجربة فياض بصبر نسبي. فياض هو رجل معتدل بشكل واضح. كان سيصل إلى تسوية مع حماس منذ مدة طويلة، لولا أن الأمريكيين كانوا قد فرضوا فيتو تامًا. الانشقاق الفلسطيني هو من صنع إسرائيل والولايات المتحدة إلى حد كبير. لقد كانت إسرائيل أحد أسبابه كونها منعت التواصل الطبيعي بين الضفة الغربية وقطاع غزة– من خلال خرق سافر، تام ومستمر لاتفاقية أوسلو، حيث كانت تقضي بأن تكون الضفة الغربية وقطاع غزة "وحدة جغرافية واحدة". وقد التزمت إسرائيل بفتح أربعة "معابر آمنة" بين المنطقتين. لم يتم فتحها حتى ولو ليوم واحد. يتمتع الأمريكيون بإدراك مجرّد ومتشدد، قد توارثوه منذ فترة الغرب المتوحش: يوجد في كل مكان " الطيبون" و"الأشرار". الأشخاص الطيبون في فلسطين هم أتباع السلطة، والأشخاص الأشرار هم أتباع حماس. سيضطر فياض إلى أن يعمل جاهدا لإقناع واشنطن بتبني موقف أكثر ذكاء. ماذا سيحدث إذا اتضح أن رهان فياض كان خطأ تاريخيًا؟ إذا تغلب نتنياهو على أوباما؟ إذا انتصر اللوبي الموالي لإسرائيل على السياسيين والجنرالات؟ إذا شغلت أزمة اقتصادية أي كانت فكر البيت الأبيض عن نزاعنا؟ إذا فشل فياض، سيستنتج كل فلسطيني الاستنتاج الذي لا بد منه: لا يوجد أي احتمال لحل سلمي. ستنشب انتفاضة تُراق فيها الدماء، ستسيطر حماس على الشعب الفلسطيني، وهي أيضا ستستبدل بقوة أكثر تطرفا. يمكن لسلام فياض أن يقول حقا: فليأتي الطوفان من بعدي. |