|
||
"كسر حاجز الصمت" هي جمعية أعضاؤها من الجنود المسرحين، التي تمتاز بالشجاعة، قد نشرت تقريرا وفيه شهادات قدمها 30 جنديا ميدانيا كانوا قد شاركوا في الحرب. شهادات قاسية عن أعمال تشكل، على ما تبدو عليه، جرائم حرب. دخل جنرالات الجيش الإسرائيلي في الحال إلى نموذج من الإنكار. لماذا لا يعرف الجنود عن أنفسهم، قالوا بسذاجة. لماذا يخفون أوجههم في شهادات الفيديو، لماذا يخفون أسمائهم ووحداتهم في الجيش؟ أطلق الجنرالات العنان لأنفسهم: كيف لنا أن نتحقق من أنهم ليسوا ممثلين، يقرءون نصوصا تمت كتابتها لهم من قبل أعداء إسرائيل؟ كيف لنا أن نعرف أن هذه الجمعية لا تتلاعب لمصلحة جهات أجنبية، تقوم بتمويل نشاطاتها؟ وبالأصل، من أين لنا أن نعرف أن هؤلاء الأشخاص لا يكذبون بسوء نية؟ لدي إجابة بسيطة على هذه التساؤلات: يبدو في ذلك شيء من الحقيقة. كل من كان ذات مرة جنديا ميدانيا في الحرب، وبغض النظر عن أي حرب كانت، يلاحظ فورا الحقيقة الكامنة في أقوالهم. كل واحد يعرف الروح المنبثقة عن الشهادات. كل واحد يعرف أن الجندي غير مستعد للعودة إلى زملائه من دون X على البندقية، من دون أن يقتل عربي واحد على الأقل. (واحد كهذا وارد في كتابي الذي يحمل العنوان "الطرف الآخر من العملة" الذي ألفته قبل ستين عاما). لقد كنا هناك. الشهادات عن إطلاق الفوسفور ، عن إطلاق النار المكثف باتجاه المنازل، عن استخدام "نظام الجار"، عن قتل "كل ما يتحرك على الأرض"، عن استخدام الوسائل كافة لمنع سقوط ضحايا في طرفنا - كل هذه الأمور تطابق شهادات سابقة، ولا يمكن أن يكون هناك أدنى شك بالنسبة لمصداقيتها. لقد تعلمت من الشهادات أن "نظام الجار" يُدعى الآن "نظام جوني". لا يعرف سوى عزرائيل لماذا سمي "نظام جوني" وليس "نظام أحمد" مثلا. يبلغ الجنرالات قمة النفاق في مطالبتهم الجنود بالتعريف عن أنفسهم وتقديم شكاواهم إلى قادتهم، لكي تتمكن المؤسسات العسكرية من التحقيق فيها. بادئ ذي بدء، لقد رأينا الاجترار المسمى "الجيش الإسرائيلي يحقق مع نفسه". ثانيا، وهذا هو الأهم: إن الشخص الذي يطمح إلى أن يكون قديسا معذبا فقط يتصرف على هذا النحو. الجندي في الوحدة الميدانية هو جزء من مجتمع مغلق، شعاره هو الوفاء للزملاء ووصية "لا تشي". إذا كشف النقاب عن أعمال شهدها، فسيعتبر واشيا وسيتم إقصاؤه. ستتحول حياته إلى جحيم. إنه يعلم أن جميع قادته، ابتداء من قائد الصف وحتى قائد اللواء، سيعتبرونه خائنا وسيلاحقونه حتى الوصول إلى عنقه. هذا الأسلوب الذي تنتهجه الجنرالات – قادة رئاسة الأركان، المتحدثون باسم الجيش الإسرائيلي، المدعون العسكريون العامون - في تحويل مسار النقاش من الاتهامات ذاتها إلى هوية الشهود، هو أسلوب مُحتقر. والأكثر احتقارا من ذلك هم الجنود الدُمى الذين يُطلق عليهم اسم "المراسلون العسكريون"، الذين يتعاونون معهم. لكن قبل التوجه نحو تذنيب الجنود، الذين نفذوا الأعمال التي تظهر من خلال الشهادات، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل حقيقة شن هذه الحرب لم تؤدي إلى ارتكاب الجرائم. البروفيسور أسا كاشير، واضع "الكود الأخلاقي" التابع للجيش الإسرائيلي وأحد الداعمين الأكثر تطرفا للحرب على غزة، صرّح خلال الحرب أنه يُسمح لدولة إعلان الحرب بهدف الدفاع عن نفسها فقط، وحين تكون الحرب "الوسيلة الأخيرة" فقط. أي بما معناه: بعد أن تم "استنفاذ جميع الوسائل البديلة" للوصول إلى الهدف العادل. كانت الذريعة الرسمية لشن الحرب هي إطلاق الصواريخ من قطاع غزة نحو بلدات الجنوب. من المفهوم ضمنا أنه كان من واجب الدولة الحفاظ على مواطنيها في وجه الصواريخ. ولكن هل تم استنفاذ جميع الوسائل لإحراز هذا الهدف من دون الحرب؟ يرد كاشير على ذلك من دون تردد بكلمة "نعم" قاطعة، ويكون ادعاؤه الحاسم هو أنه "لا يوجد مبرّر لمطالبة إسرائيل بالشروع بمفاوضات مباشرة مع منظمة إرهابية لا تعترف بها وتنكر مجرد حقها في الوجود". هذا الادعاء لن يجتاز اختبار المنطق. لم يكن من شأن هدف المفاوضات أن يكون التوصل إلى اعتراف بإسرائيل من قبل حماس وبحقها في الوجود (من ذا الذي يحتاج إلى ذلك؟)، بل وقف إطلاق الصواريخ على مواطني إسرائيل. في مثل هذه المفاوضات، كان الطرف الآخر سيطالب بفك الحصار عن السكان المدنيين في غزة وفتح المعابر. يمكن الافتراض أنه كان بالإمكان التوصل، بمساعدة مصر، على تسوية على هذا الأساس، وكان لهذه التسوية أن تشمل تبادر الأسرى أيضا. ناهيك عن أنه لم يتم استنفاذ هذا الاحتمال - إلا أنه لم تتم حتى تجربته. وقد رفضت حكومة إسرائيل إدارة "مفاوضات مباشرة مع منظمة إرهابية" رفضا قاطعا، وحتى أنه رفضت مثل هذه المفاوضات مع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي أقيمت في حينه والتي شملت تمثيلا لحماس. لذلك كان مجرد قرار الخروج إلى الحرب على غزة، التي تضم سكان مدنيين يصل تعدادهم إلى مليون ونصف المليون نسمة، غير عادل حسب معايير أسا كاشير ذاته. لم يتم استنفاذ ولا تجربة "أي طرق بديلة". ولكننا نعلم جميعا أنه إلى جانب الهدف الرسمي كان هناك هدف غير رسمي: إسقاط حكومة حماس في غزة. لقد تحدث الناطقون الرسميون خلال الحملة عن الحاجة إلى تحديد "يافطة ثمن" مرتفعة - أي إلحاق القتل والدمار ليس بهدف إلحاق الأذى بـ"الإرهابيين" ذاتهم (الأمر الذي يكاد يكون غير ممكن)، بل بهدف تحويل حياة السكان إلى جحيم، من منطلق الحساب بأنهم سيتمردون وسيسقطون حماس. إن افتقار مثل هذه الاستراتيجية للأخلاقيات يساوي عدم النجاعة الكامن فيها: تعملنا تجاربنا مثل هذا الضغط لا يؤدي إلا إلى تصلّب السكان الذين تتم ممارسة الضغط عليهم وتكاثفهم حول زعامتهم الشجاعة. هل كان بالإمكان أصلا إدارة هذه الحرب من دون ارتكاب جرائم حرب؟ حين تقرر حكومة إرسال جنودها إلى الحرب ضد منظمة عصابات، التي تقاتل بطبيعتها بين أوساط سكان مدنيين، من الواضح لمثل هذه الحكومة أنه ستلحق بالسكان المدنيين معاناة فظيعة. أم الادعاء بأن المس بالسكان المدنيين وقتل أكثر من ألف رجل، امرأة وطفل، بحد ذاته، هو أمر لا يمكن منعه، كان من شأن هذا الادعاء أن يستنتج أن قرار الخروج في مثل هذه الحرب هو عمل فظيع بحد ذاته. الأجهزة الأمنية تسهل على نفسها الأمور. يصرح الوزراء والجنرالات أنهم لا يؤمنون للتقارير الفلسطينية والدولية حول القتل والدمار، ويقررون أنها "خاطئة وكاذبة". للمزيد من الأمان، يقررون مقاطعة لجنة هيئة الأمم المتحدة التي تحقق في هذه اللحظة حول الحرب، والتي يترأسها قاض يهودي من جنوب أفريقيا وهو صهيوني معروف أيضا. ينتهج آسا كاشير هو أيضا أسلوبا مماثلا بقوله: "من لا يعرف العملية حق المعرفة فلا يمكنه أن يقدّرها بشكل جدي، مهني ومسؤول، ولذلك من الأفضل ألا يفعل ذلك، رغم كل الإغراءات الشعورية أو السياسية." إنه يطالب بأن ننتظر التحقيقات التي يجريها الجيش الإسرائيلي قبل أن نناقش الأمر. أصحيح هذا؟ إن أي جهة تحقق مع نفسها لا يكون موثوقا بها، فكم بالحري مؤسسة هرمية مثل الجيش الإسرائيلي. وبالأساس: الجيش الإسرائيلي يستمع - ولا يمكنه أن يستمع أبدا - إلى شهادات شاهدي العيان الرئيسيين: سكان غزة. التحقيق الذي يستند إلى شهادات المنفذين فقط، وليس إلى شهادات الضحايا، هو تحقيق مثير للسخرية. وها هي الآن تُرفض شهادات الجنود الذين يكسرون حاجز الصمت، لأنهم غير قادرين على الكشف عن هوياتهم في هذه الظروف. في الحرب التي تدور رحاها بين جيش هائل، مزوّد بالمعدات الأكثر تطورا في العالم، وبين منظمة عصابات، تثور مسائل أخلاقية جوهرية. كيف يجدر بالجنود التصرف أمام هدف لا يشمل مقاتلي العدو فقط، الذين "يُسمح" بإصابتهم، بل يشمل أيضا مواطنين غير مقاتلين، "يمنع" المس بهم؟ لقد طرح كاشير عدة أمثلة نموذجية لهذا الوضع. على سبيل المثال: منزل فيه "إرهابيون" وكذلك أشخاص غير مقاتلين. هل يجب استخدام طائرة أو مدفع ضده، ويُقتل كل من فيه، أم إرسال جنود ليخاطروا بحياتهم ويقتلوا المقاتلين فقط؟ وكانت إجابته: لا يوجد تبرير لتعريض حياة جنودنا إلى الخطر بهدف إنقاذ مدنيي العدو. من الأفضل هجوم جوي أو مدفعي. هذا لا يجيب على السؤال فيما يتعلق باستخدام سلاح الجو لهدم مئات المباني التي كانت بعيدة عن جنودنا، بحيث لا تشكل خطرا على حياة الجنود. هذا لا يبرر أيضا قتل العشرات من مجندي الشرطة المدنية الفلسطينية، الذين وقفوا في صف نهائي، ولا قتل أفراد هيئة الأمم المتحدة الذين أرسلوا قوافل الإمدادات بالأغذية. هذا لا يبرر أيضا الاستخدام المرفوض بالفوسفور الأبيض ضد المدنيين، الذي شهد عنه أيضا الجنود في شهادات تم الإدلاء بها إلى "نكسر حاجز الصمت"، واستخدام اليورانيوم المخفف ومواد أخرى مسببة للسرطان. لقد سمعت الدولة بأسرها، في الوقت الحقيقي، كيف تخترق قذيفة مدفعية بيت طبيب وتقتل معظم أبناء عائلته. حسب شهادات مدنيين فلسطينيين ومراقبين أجانب، فقد ارتكبت الكثير من هذه الأعمال. لقد رفع الجيش الإسرائيلي لواء أسلوب تحذير المدنيين بواسطة المنشورات، المكالمات الهاتفية وما شابه ذلك، لإقناعهم بالهرب، وذلك حين كان يعرف الجميع، والمحذّرين على رأسهم، أنه لم يكن أمام المدنيين مكانا يهربون إليه وأنه لم تكن هناك مسارات هرب واضحة وآمنة. لقد أطلقت النار على مدنيين كثيرين خلال هربهم. لن نتملص من السؤال الأخلاقي الأكثر صعوبة: هل يُسمح بتعريض حياة الجنود إلى الخطر بهدف إنقاذ مسنّي، نساء وأطفال العدو؟ كانت إجابة آسا كاشير، أيديولوج "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، قاطعة: ممنوع منعا باتا تعريض حياة الجنود إلى الخطر. مفاد أهم جملة في أقواله هو: "لذلك... يجب على الدولة أن تفضّل حياة الجنود على حياة جيران الإرهابي (غير المقاتلين)". يجدر بنا أن نقرأ هذه الجملة عدة مرات، لنفهم كامل معناها. ما قيل هنا يعني من الناحية العملية: إذا كان الأمر مطلوبا لمنع سقوط ضحايا بين جنودنا، فيُسمح بقتل مدنيي العدو من دون أي تقييد. بعد فوات الأوان، يمكن أن نفرح لأنه لم يكن لدى الجنود البريطانيين، الذين حاربوا في "الإتسل" و"ليحي"، مرشدا أخلاقيا مثل آسا كاشير. هذا هو المبدأ الذي تصرف الجيش الإسرائيلي بموجبه، وعلى حد علمي فإن هذه هي عقيدة جديدة: بهدف منع قتل جندي واحد من طرفنا، يُسمح بقتل 10، 100 وحتى 1000 مدنيّ عدو. أي بما معناه: حرب لا ضحايا فيها. تشهد على ذلك النتيجة العددية: نحو 1400 قتيل في غزة، ثلثهم أو ثلثاهم (هذا متعلق بالشخص الذي نطرح السؤال عليه) من المدنيين، النساء والأطفال، مقابل 6 (ستة) جنود من جنود الجيش الإسرائيلي، الذين قتلوا بنار العدو. (أربعة آخرون قتلوا بنار "وُدية"، أي ذاتية). يكتب آسا كاشير بشكل واضح أن قتل ولد فلسطيني، يتواجد بجوار مئة "إرهابي"، هو أمر يجد له تبريرا، لأن "الإرهابيين" قد يقتلون أطفالا في سدروت. ولكنه في الواقع يجري الحديث عن قتل 100 طفل فلسطيني يتواجدون بجوار "إرهابي" واحد. لو بسّطنا هذه النظرية وجردناها من جميع "التوابل"، فستبقى القاعدة البسيطة التالية: على الدولة أن تحمي جنودها بأي ثمن، من دون أي قيد أو قانون. حرب لا ضحايا فيها. هذا يؤدي بالضرورة إلى تكتيك قتل أي إنسان وتدمير أي مبنى قد يعرضوا حياة الجندي إلى الخطر. أي بما معناه: إنشاء منطقة فارغة من الناس والمباني أمام الجيش المتقدّم. يمكننا أن نستنتج من ذلك استنتاجا واحدا فقط: من الآن فصاعدا، سيكون أي قرار خروج إلى الحرب في منطقة مأهولة هو بمثابة جريمة حرب، وكل الاحترام للجنود المتمردين ضد هذه الجريمة. فليباركهم الله. |