اوري افنيري 

شؤون قلبية / أوري أفنيري


كل ولد ألماني يعرف حكاية النقيب (الكابتين) من كوفنيك.

لقد حدث ذلك في عام 1906، حين كان "الرايخ الثاني" في ذروته، وقد ترأسه القيصر الذي كان يرتدي زيًا عسكريا فاخرا.

وقد تم إطلاق سراح صانع أحذية يُدعى فويغط من السجن، بعد أن سُجن فيه عقابا على جريمة التزييف. لم يكن بالإمكان، في ألمانيا في تلك الفترة، الحصول على عمل من دون جواز سفر، ولكن المجرم المسرّح لا يمكنه استصدار جواز سفر.

لذلك، قصد صانع الأحذية حانوت للأزياء التنكرية، ولبس زي نقيب وتولى إمرة مجموعة من الجنود كانوا مارّين في الشارع. أما الجنود، من جهتهم، فقد ارتابوا في أمر النقيب غريب الأطوار، ولكن أيا منهم لم يجرؤ على عصيان أي شخص يرتدي زيّ ضابط.

دخل "النقيب" مصطحبا جنوده إلى بلدة كوفنيك، وهي ضاحية من ضواحي برلين، اعتقل رئيس البلدية وصادر خزينة البلدية التي كان يُحتفظ فيها بجوازات السفر الفارغة. لم يكن من الصعب على الشرطة أن تتكهن من هو الفاعل، وقد تم اعتقاله بعد فترة وجيزة.

حين أبلغ خادم القيصر جلالته بهذا النبأ، حبس كل مستخدمي البلاط أنفاسهم. أما القيصر فما كان منه سوى أنه انفجر من الضحك بعد برهة. ألمانيا برمّتها انفجرت من الضحك، وهكذا الأمر بالنسبة لأوروبا كلها أيضا.

لقد اشتهر "النقيب من كوفنيك" لكنه قد نجح بفعلته في تسليط الضوء على طابع نظام الحكم كله: كان كل ابن زِنا يلبس الزي العسكري، في ألمانيا المشبعة بالروح العسكرية، بمثابة ملك.

يبدو أن أحداثا كأحداث مثل هذه الرواية تدور في كل دولة، بين الحين والآخر، وهي تبيّن بحادثة واحدة نقاط ضعفها الأساسية. أما في إسرائيل فقد كان آخر ما حدث، حتى الأسبوع الفائت، هو فضيحة "المصباح من رمات - عان".

ونذكر من نسي الحكاية: في شهر آذار من عام 1982، أبلغ وزير الاقتصاد في حينه، رجل الليكود يعكوف مريدور، بأن عالما يُدعى داني برمان قد اخترع اختراعا عبقريا، سيحدث انقلابا هائلا في العالم. مفاد هذا الاختراع هو أنه بواسطة عملية كيماوية بسيطة سيكون بالإمكان إنتاج طاقة تكفي لإنارة مدينة رمات غان كلها بمصباح واحد.

لم يكن يعكوف مريدور (وهو ليس من أقرباء دان مريدور) شخصًا كأي شخص عادي. لقد كان قائد المنظمة العسكرية الوطنية ("الإتسل") قبل مجيء مناحيم بيغين، ومن ثم أسس مبادرات اقتصادية هامة في أفريقيا. لقد كان الرجل الثاني في الليكود، ولم يكن سرًا أن بيغين كان يرى فيه خلفا له في رئاسة الحكومة.

عشية إعلان مريدور، جاء إليّ أحد المراسلين الكبار في "هعولام هازيه" وروى لي بحماس كبير عن الاختراع العجيب. رددت عليه بكلمة واحدة: "كلام فارغ". لقد تطورت السنوات التي قضيتها محررا لمجلة أسبوعية إخبارية، لدي أنفا حساسا بشكل خاص للروايات الكاذبة. ولكن الدولة كلها قامت وقعدت.

في الأيام التالية، اكتشف أن الاختراع الثوري ما هو سوى خديعة بسيطة. كُشف النقاب عن أن برمان، العالم العبقري، الذي انتحل شخصية ضابط في سلاح الجو، ما هو إلا محتال له ماض جنائي. أما مريدور فقدْ فقدَ صوابه. غير أن مجموعة صغيرة من المؤمنين، ومن بينهم المراسل لديّ، قد استمروا في القسم بأن برمان هو عبقري بالفعل لم يتم فهمه كما ينبغي.

كيف يمكن لكلام فارغ لا غير، لم يكن له إثباتات من أي نوع كان، أن يشد أنظار الدولة وأن يحظى بجد الثقة من عامة الجمهور؟ الأمر بسيط جدا: لقد جسّد هذا النبأ أحد أكثر المعتقدات ترسيخا لدى الجمهور الإسرائيلي وهو أن اليهود أذكياء أكثر من أي شعب آخر في العالم.

على فكرة، هذا المعتقد هو معتقد يشترك فيه اليهود واللا ساميون على حد سواء. إن مؤلف "بروتوكولات حكماء صهيون"، الذي يروي عن مؤامرة دنيئة حاكها اليهود للسيطرة على العالم يستند إلى هذا المعتقد.

ثمة نظريات علمية كثيرة "تفسّر" تفوق" "الدماغ اليهودي". إحدى هذه النظريات تقول أنه على مر آلاف السنين من الملاحقة، اضطر اليهود إلى تطوير ذكاء خاص بهدف البقاء. أم الأخرى فقد وجدت تفسيرا وراثيا: لقد تحول الأشخاص الأكثر ذكاء، في العالم الكاثوليكي في العصور الوسطى، إلى رجال دين ورهبان، ولذلك لم يتمكنوا من نقل جيناتهم إلى ذريتهم. وأما في المجتمعات المحلية اليهودية فكان من المتعارف عليه أن الرجال يزوّجون كريماتهم لرجال أفذاذ.

لقد أخلت فضيحة "المصباح من رمات غان"، هذا الأسبوع، مكانها ليحل محلها اختراع أكثر عبقرية: لاصقة القلب.

نشر الملحق الاقتصادي في صحيفة "هآرتس" سبق صحفي ضخم: قامت شركة إسرائيلية غير معروفة ببيع ثلث أوراقها المالية إلى شركة بريطانية - تايوانية بسعر 370 مليون دولار، حيث أنه من شأن قيمتها الإجمالية أن ترتفع إلى مليار دولار. حدث كل ذلك بفضل اختراع مدهش: لاصقة صغيرة يتم إلصاقها على الصدر وهي تكتشف نوبة قلبية وشيكة الحدوث، قبل نصف ساعة من حدوثها. تقوم اللاصقة ببث تحذير بواسطة الهاتف الخليوي والأقمار الاصطناعية، وبذلك تنقذ حياة عدد لا يعد ولا يحصى من الأشخاص.

في ذلك المساء ظهر أحد رؤساء الشركة السعيدة في التلفزيون وقال أن هذه اللاصقة تتمتع بامتيازات إضافية: على سبيل المثال، إنها تقيس نسبة السكر في الدم من دون أي إجراء تدخلي.

بدأ أنفي يعمل على الفور وقررت في التوّ واللحظة: هذه ترّهات.

وبالفعل، فبعد مرور يوم واحد بدأت وسائل الإعلام تحقق في المسألة، وتكتشف إحداها تلو الأخرى حقائق مُستهجنة جدا. إن أحدا لم ير هذه اللاصقة العجيبة. لم يتم تسجيل براءة اختراع عليها. لم يفحصها أي أخصائي قلب أو أي خبير آخر. لم يتم نشر أي معلومات عنها في أي مجلة علمية، ولم يتم، على ما يبدو، إجراء أي بحث لفحصها.

أما الشركة البريطانية - التايوانية فلم توفد أي شخص إلى إسرائيل لتفحص جودة الاختراع الذي دفعت مقابله، إذا جاز التعبير، مبلغا ضخما. لقد دارت المفاوضات حولها عبر البريد الإلكتروني فقط، من دون تواصل شخصي. وقد رفض المحامون المتورطون إبراز الاتفاقية.

عندما توجه الصحافيون إلى الشركة الأجنبية، أنكرت الأخيرة أي معرفة لها حول الموضوع. يتبين أن صاحب هذا الاختراع قد قام بتسجيل شركة باسم مشابه في شبكة الإنترنت، وهذه الشركة هي التي عقدت الاتفاقية. أي أنه اشترى ثلث الأوراق المالية في شركته لنفسه.

لقد بدأ المبنى الورقي، في هذه المرحلة، بالانهيار. وقد اتضح أن صاحب الاختراع قد سُجن مرتين بسبب جرائم الغش. غير أن شركاءه قد أصروا على أن الموضوع برمته هو موضوع جدي، وأنه سيتبين لتوّه، خلال بضعة أيام، أنه اختراع عبقري بالفعل، وعندها سيندم كل المنتقدين في وقت لن يجدي الندم فيه نفعا.

لم يندم النادمون، وأسرع الشركاء للهرب من القضية تِباعًا.

كانت الحقيقة الأساسية التي حوّلت هذا الحدث من فضيحة خداع مسلية إلى قضية وطنية هو استعداد الدولة بأسرها، على مدار أربع وعشرين ساعة، لتصديق الحكاية كقرينة إضافية على عبقرية اليهود.

لا تقل تميّزا عن ذلك هويات أبطالها. رقم 1 هو المخترع ذاته، الذي يصر على أنه في هذه المرة، في هذه المرة بالذات، لم يتصرف كمحتال. الرجل رقم 2 هو شريكه وهو رجل أعمال كان أو لم يكن شريكا في عملية الخداع. ولكن من يثيران حب الاستطلاع هما الرجلان الآخران.

كان رقم 3 طيلة سنوات صديق بنيامين نتنياهو المقرّب، وعلى وجه الخصوص صديق زوجته سارة. في أوج الفضيحة، استقال من منصبه كمدير للشركة الإسرائيلية، بعد أن حاول دونما جدوى أن يحصل على الاتفاقية ذات العلاقة. إذا افترضنا أن هذا صديق نتنياهو هذا بريء من أي ذنب، فيجب أن نستغرب مستوى ذكائه، ولذلك فإن الذكاء ليس أول عنصر تبحث عنه عائلة نتنياهو لدى أصدقائها المقرّبين.

تزيد صحّة الأمر بالنسبة للبطل رقم 4: حغاي هداس. أما عن مدى تورطه في الفضيحة فليس هناك وضوح تام. لقد دافع بحماس، في بداية الأمر، عن المحتال وعن اختراعه، وبدا أنه غارق حتى رأسه، ولكنه بعد كشف الستار عن هذه القضية حاول التهرب منها بكل ما أوتي من قوة.

لماذا يعتبر الأمر مهما ويتعدى الثرثرة المحضة؟ إن حغاي هداس، إضافة إلى كونه أمين سر بيبي نتنياهو، وكما نُشر هو صديق شخصي لسارة زوجته، فهو قد تولى في الماضي منصب رئيس شعبة العمليات الميدانية في الموساد، وهو منصب يحتل المكان الثالث في صفوف الاستخبارات من ناحية أهميته. كان بإمكانه أن يتربع في هذه الأيام على عرش رئيس الموساد، لولا أن الشخص الذي يتربع عليه اليوم لا يسمح لأي شخص بالاقتراب إلى مسافة التماس.

عين نتنياهو، قبل بضعة أسابيع، حغاي هداس في منصب أصبح يشكل اليوم أحد المواقع المركزية في الأجهزة الأمنية. إنه مسؤول الآن عن جميع النشاطات لإعادة الجندي "المخطوف" غلعاد شليط.

لو لم نفترض أن هذا الرجل، وهو الذي يتقلد منصبا رفيعا في الموساد وأمين سر رئيس الحكومة، الذي كان مسؤولا فيما مضى عن حياة أشخاص كثيرين، إذا لم نفترض أنه كان شريكا في عملية احتيال مُقرفة، فلا مناص من الاستنتاج بأنه يتمتع برزانة يشوبها عيب كبير، وقد وقع في شرك كان ينبغي لشخص ذي عقل متّقد أن يكتشفه من مسافة بعيدة.

إذا كان الأمر كذلك كيف يمكن أن يُسند إلى مثل هذا الشخص منصب يستوجب مسؤولية إلى هذا الحد وحساس كمفاوضات تبادل الأسرى مع حركة حماس، بواسطة الوسطاء المصريين الأذكياء جدا؟

وما هو نوع الاعتبارات التي أخذها نتنياهو بالحسبان حين ألقى على عاتقه هذه المهمة، حتى وإن طلبت زوجته ذلك؟

لقد حدث هذا الأسبوع أمر آخر: مرت 100 يوم على تولي نتنياهو منصب رئيس الحكومة.

وقد وجدوا في كديما شعارا لذلك: "100 يوم، 0 (صفر) إنجازات". هذا الشعار ليس بعيدا كثيرا عن الواقع.

في البداية، عين نتنياهو حكومة منتفخة، يتولى فيها ثلث أعضاء الكنيست مناصب وزراء ونواب وزراء، كثيرون منهم من دون وظيفة بادية للعيان. لقد أسند منصبين، من بين أهم ثلاثة مناصب في الحكومة، إلى شخصين غير ملائمين أبدا: لقد أسند وزارة المالية إلى رضيع اقتصادي ووزارة الخارجية إلى عنصري، يرتدع منه كثير من كبار زعماء العالم بشكل معلن.

بعد ذلك جاءت سلسلة من القوانين والخطوات، التي تم الإعلان عنها بقرع الطبول، وانتقلت إلى رحمة باريها بأنين ضعيف. على سبي المثال فقط: فرض ضريبة القيمة المضافة على الفواكه والخضار.

ولكن ذروة المجريات كانت في عدم القدرة على تأسيس طاقم جدي في ديوان رئيس الحكومة. المستشار لشؤون الأمن القومي، عوزي أراد، هو شخص غير معني بالسلام لا مع الفلسطينيين ولا مع السوريين، وهو يفضل التعاطي مع إيران (وقد فرض براك أوباما، هذا الأسبوع، منعا لا ينتطح فيه عنزان على تنفيذ عملية عسكرية إسرائيلية). رئيس الديوان، مدير عام ديوان رئيس الحكومة المستشار السياسي وسائر أعضاء الطاقم يكره أحدهم الآخر، ولا يألون جهدا في إخفاء ذلك. أما المستشار الإعلامي فقد تم تبديله، وعُينت هذا الأسبوع صديقة سارة نتنياهو مستشارة في شؤون "تمريك" (مشتقة من كلمة ماركة - المترجم) الدولة (هل يعرف أحد ما معنى ذلك؟)

بين هذا وذاك عادت سارليه (سارة) إلى الأضواء. لقد أثارت سارة، في فترة تولي نتنياهو الأولى، نظرة ازدراء من قبل أغلبية الجمهور، الذي يستمتع بالسخرية منها. أما في هذه المرة فقد حاولوا طمسها. عندما اصطحبها نتنياهو، على الرغم من هذا كله، إلى واشنطن، تهربت منها ميشيل أوباما بكل ما أوتيت من قوة. عشية خروج نتنياهو إلى أوروبا تم شطب اسم سارليه في اللحظة الأخيرة من القائمة. غير أنه يبدوا أنها تعمل باجتهاد من وراء الكواليس، وخاصة في اختيار الأشخاص للمناصب الكبيرة.

ربما تحتاج الدولة بأسرها إلى لاصقة عجيبة.