اوري افنيري 

ما بين تل أبيب وطهران


يخرج مئات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع ليحتجوا على ممارسات حكومتهم! يا له من مشهد رائع! كتب غدعون ليفي أنه يحسدهم، يحسد الإيرانيين.

ومن دون أدنى شك، من يحاول في هذه الأيام حث الجمهور على الخروج إلى الشارع الإسرائيلي يمكنه أن يموت حسدًا. من الصعب جدا حث مئات الأشخاص على الخروج إلى الشارع للاحتجاج ضد الأعمال الحقيرة التي تنفذها الحكومة أو ضد سياستها، وليس لأن هذا الجمهور يدعم الحكومة. في خضمّ حرب غزة، قبل نصف عام، لم يكن من السهل تجنيد عشرات آلاف المتظاهرين. ينجح معسكر السلام، مرة واحدة في السنة فقط، بإحضار مئة آلف شخص إلى الميدان، ولكن ليبكي فقط على اغتيال إسحق رابين في المكان الذي اغتيل فيه.

الشعور العام في إسرائيل هو مزيج من اللا مبالاة، الإرهاق، و "فقدان الإيمان بالقدرة على تغيير الواقع" (وفق أقوال قاضي محكمة العدل العليا إدموند ليفي). هناك حاجة إلى تغيير دراماتيكي كبير للعودة إلى حث الجماهير على الخروج إلى الشارع مرة أخرى من أجل السلام.

لقد تظاهر مئات آلاف الأشخاص لصالح مير حسين موسوي، وتظاهر مئات الآلاف لصالح محمود أحمدي نجاد. هذا يقول شيئا ما عن الشعب ونظام الحكم.

هل يخطر بالبال أن يتظاهر مليون شخص في ميدان التحرير في القاهرة احتجاجا على نتائج الانتخابات الرسمية هناك؟ ستطلق الشرطة النار قبل أن يجتمع الألف الأول.

هل سيتظاهر آلف شخص في وسط عمان ضد أعمال صاحب الجلالة؟ تبدو هذه الفكرة، سخيفة.

شرعت قوات الآمن بإطلاق النار في مكة المكرّمة نحو الحجاج المشاغبين قبل بضع سنوات. لا يمكن إجراء أي مظاهرة في السعودية ضد نتائج الانتخابات، وذلك لأنه لا تجرى هناك انتخابات.

بالمقابل، تجرى انتخابات في إيران. تجرى على فترات متقاربة أكثر منها في الولايات المتحدة، وقد تبدّل رؤساء إيران على فترات متقاربة أكثر من الرؤساء الأمريكيين. مجرد الاحتجاج والقلاقل تشهد على مدى تعامل مواطني الدولة مع القرار الانتخابي.

من الواضح أن الحكم في إيران ليس ديموقراطيا بالمفهوم الذي نعرفه نحن. يوجد "مرشد أعلى"، يحدد قوانين اللعبة. توجد مؤسسات دينية، تلغي مرشحين لا يعجبونها. لا يمكن للبرلمان سن قوانين تتعارض مع الشريعة الدينية. والشريعة الدينية، وهي قانون الله، غير قابلة للتغيير، بل للتفسيرات المختلفة على الأكثر.

جميع هذه الأمور ليست غريبة على الإسرائيليين. يحاول المعسكر المتدين، منذ قيام الدولة، تحويل إسرائيل إلى دولة-شريعة، لتكون الشريعة فوق القانون. أي أن تكون القوانين التي صدرت قبل آلاف السنين، وغير القابلة للتعديل، فوق القوانين التي تسنها الكنيست، التي تم انتخابها بشكل ديموقراطي.

لفهم نظام الحكم الإيراني، ما علينا سوى النظر إلى أحد الأحزاب الهامة في إسرائيل: شاس. إن لدى شاس مرشد أعلى أيضا، الحاخام عوفاديا يوسف، وهو الآمر الناهي. هو الذي يعين رؤساء الأحزاب، يؤلف قائمة المرشحين للكنيست، وهو الذي يصدر الأوامر للكتلة في الكنيست حول كيفية التصويت حول أي موضوع. ليست هناك انتخابات في شاس. ومقارنة بتفوهات الحخام عوفديا المتكررة، فإن أحمدي نجاد ، يتحدث برباطة جأش بريطانية مميزة.

يختلف نوع الانتخابات بين دولة وأخرى. من الصعب أن نقارن بين مصداقية الانتخابات في دولة ومصداقيتها في دولة وأخرى.

لقد تربع الاتحاد السوفيتي على أحد جانبي المؤشر. كانوا يسخرون هناك من المنتخب الذي يتوجه إلى صندوق الاقتراع، ويسجلونه بموجب القانون ويسلمونه مغلفا مغلقا. "ضع المغلف في صندوق الاقتراع من فضلك" يقول له عضو لجنة الصندوق.

"ماذا جرى، أليس من حقي أن اعرف لمن أصوّت؟" يقول الناخب مستشيطا من الغضب.

"بالتأكيد لا!" يجيبه الموظف مستنكرا، "الانتخابات في الاتحاد السوفيتي سرية!"

من شأن الولايات المتحدة أن تتربع على الجانب الآخر من المؤشر، وهي معقل الديموقراطية في العالم. غير أنه قد أجريت انتخابات هناك قبل تسع سنوات، وقد تم تقرير نتائجها في المحكمة. كان الخاسرون، الذين صوتوا إلى جانب المرشح أل غور، مقتنعون حتى يومنا هذا أن النتائج قد تم تزييفها.

ينتقل الحكم في السعودية، سوريا، الأردن، والآن في مصر على ما يبدو، من الأب لابنه أو من الأخ لأخيه. هذا نوع من مصلحة تجارية عائلية.

أما لدينا، فإن الانتخابات نقية بوجه عام، على الرغم من أنه بعد أي جولة انتخابات يتم إطلاق ادعاءات بأن المتوفون ينتخبون أيضا في الأحياء الحاريدية. أجرى مواطنوا الأراضي الفلسطينية المحتلة ويبلغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف المليون انتخابات، وقد صرح الرئيس جيمي كارتر الأسبق أن الانتخابات كانت ديموقراطية يُحتذى بها، ولكن إسرائيل، الولايات المتحدة وأوروبا قد رفضت النتائج، وذلك لأنها لم تنل إعجابها.

يتبين أن الديموقراطية هي مسألة جغرافية.

هل تم تزييف نتائج الانتخابات في إيران؟ لا أحد منا في تل أبيب، واشنطن أو لندن يعرف تقريبا. ليست لدينا أية فكرة، لأن أي منا، بمن فينا جميع رؤساء الخدمات الاستخباراتية، لا يعرف ماذا يجري في الحقيقة في تلك البلاد. يمكننا أن نحاول تفعيل منطقنا فقط، استنادا إلى القليل من المعلومات الموجود بحوزتنا.

من الواضح أن مئات آلاف الناخبين لا يؤمنون حقا أن النتائج قد تم تحريفها. وإلا فلم يكونوا ليخرجوا إلى الشارع. غير أن هذا عادي جدا لدى من يخسر الانتخابات. يعتقد كل طرف، في خضمّ ثمالة الانتخابات، أنه على وشك الفوز. وحين لا يحدث ذلك، فسيكون على ثقة بأن النتائج قد تم تزييفها.

شاهدت في قناة تلفزة ألمانية، قبل حين، تقريرا إخباريا مثيرا عن طهران. سافر الطاقم في شارع رئيسي من الجهة الشمالية للمدينة باتجاه الجنوب، وقد تأخر في الطريق ودخل إلى منازل السكان وزار المساجد والنوادي الليلية.

تعلمت أن إيران شبيهة إلى حد ما بتل أبيب، على الأقل من ناحية واحدة: يسكن الأغنياء والمشبعون في الشمال، ويسكن الفقراء والمجحف بحقهم في الجنوب. يقلد الشماليون أمريكا، يذهبون إلى الجامعات الراقية ويرقصون في النوادي الليلية. والنساء متحررات. أما في الجنوب فيلتزمون بالتقاليد، يتقيدون بما يقوله آيات الله والحاخامون ويكرهون الشمال المستهتر والفاسد.

كان موسوي مرشح الشمال وأحمدي نجاد مرشح الجنوب. القرى والبلدات، التي نطلق عليها لدينا اسم "الضواحي"، تتعاطف مع الجنوب وغريبة عن الشمال.

أما لدينا، فقد انتخب الجنوب الليكود وشاس وسائر الأحزاب فقد انتخبوا اليمين. انتخب الشمال حزب العمل وكاديما. أحرز اليمين، في الانتخابات التي جرت لدينا قبل بضعة أشهر، انتصارا ساحقا.

يبدو أن هذا أشبه بما جرى في إيران. من المعقول أن أحمدي نجاد قد فاز هناك بالفعل.

المعهد العربي الوحيد الذي أجرى استطلاعا جديا للرأي العام قبل الانتخابات في إيران كان قد توصل إلى نتائج شبيهة جدا بنتائج الانتخابات الرسمية. يصعب الاعتقاد أيضا أن من الممكن إنجاز تزييف يصل إلى ملايين الأصوات في الحملة التي يشارك فيها عشرات الآلاف من أعضاء صناديق الاقتراع. وبكلمات أخرى: من المعقول جدا أن أحمدي نجاد قد فاز بالفعل. إذا كان هناك تزييفات، وما من سبب يجعلنا نؤمن بغير ذلك، فإنها لم تصل على ما يبدو إلى أحجام يمكنها أن تغير النتيجة ذاتها.

ثمة اختبار بسيط ولكنه ناجع لنجاح قوة ثورية: موقف الجيش. هل تسربت روح الثورة بين أوساط الجيش؟ منذ الثورة الفرنسية، لم تنجح أي حركة في إحداث ثورة طالما بقي دعم الجيش للحكم القائم قويا. نجحت انقلابات شهر شباط وأكتوبر عام 1917 في روسيا وذلك بسبب تفتت الجيش. في عام 1918 حدث الأمر ذاته في ألمانيا. شدد كل من موسيليني وهتلر على منع التصادم مع الجيش، ووصلا الحكم بمساعدته.

وقد أتت اللحظة الحاسمة في العديد من الثورات: وقف حشد من الناس في الشارع أمام الجنود وأفراد الشرطة، والسؤال الذي يطرح نفسه هل سيشرع هؤلاء بإطلاق النار على أبناء شعبهم. حين يرفض الجنود القيام بذلك، تنتصر الثورة. أما إذا أطلقوا النار فستكون هذه هي نهاية الثورة.

عندما صعد بوريس يلتسين على دبابة، رفض الجنود إطلاق النار عليه، وفاز يلتسين. سقط جدار برلين لأن ضابطا واحدا من شرطة ألمانيا الشرقية كان قد رفض في اللحظة الحاسمة إصدار أمر بإطلاق النار. فاز الخميني في إيران لأن جنود الشاه رفضوا إطلاق النار في نهاية الأمر. هذا لم يحدث في هذه المرة. كانت قوى الأمن على أهبة الاستعداد لإطلاق النار. إنها لم تلتزم بالروح الثورية. حسبما تبدو الأمور الآن، فقد انتهت القضية بذلك.

أنا لست من المعجبين بأحمدي نجاد، من دون مبالغة. يبدو لي موسوي أكثر ودية.

لا أحب الزعماء الذين تربطهم علاقة مباشرة بالله، الذين يخطبون أمام الجماهير من على الشرفات، مستخدمي لغة الديموغوغيا والإثارة، الذين يمتطون مشاعر الكراهية والخوف. إنكار الكارثة، ظاهرة حمقاء بحد ذاتها، فإنها تعزز صورته كزعيم رجعي أو تهكمي.

لا شك في أنه عدو لدود لدولة إسرائيل، أو كما يفضل أن يسميها، "النظام الصهيوني". حتى وإن لم يلتزم في محوها بنفسه، كما أعلن خطأ، بل عبر عن الإيمان بأنها "ستمحى عن الخارطة" فقط، هذا لا يطمئنني.

السؤال هو هل انتخاب موسوي كان سيغير شيئا من ناحيتنا. هل كانت إيران ستتوقف عن إنتاج الأسلحة النووية؟ هل كانت ستتوقف عن دعمها للمقاومة الفلسطينية؟ الإجابة سلبية.

ليس سرا أن زعماءنا كانوا يأملون بفوز أحمدي نجاد، لأنه يثير كراهية العالم الغربي ضده ويزيد من صعوبة المصالحة مع الأمريكيين.

لقد تصرف براك أوباما، طيلة هذه الأزمة، برباطة جأش تثير الإعجاب. لقد دعاه الرأي العام، إلى جانب كل مؤيدي حكومة إسرائيل، إلى رفع صوته، إلى التعاطف بشكل كامل مع المحتجين، إلى ارتداء ربطة عنق خضراء من أجلهم، إلى استنكار آيات الله وأحمدي نجاد بصوت مرتفع. فيما عدا حد أدنى من الاستنكارات، فإنه لم يفعل شيئا. لقد أثبت بذلك جرأة وحكمة.

إيران هي إيران. يجب على الولايات المتحدة أن تدير معها مفاوضات، وذلك لمصلحتنا أيضا. بهذه الطريقة فقط يمكن – إن أمكن فعلا – منع أو إرجاء تسلحها النووي. وإذا قُدر لنا أن نعيش تحت ظل قنبلة نووية إيرانية، بوضع من توازن الرعب الكلاسيكي، فمن الأفضل أن تكون القنبلة بين أيدي زعامة إيرانية تجري مفاوضات مع رئيس الولايات المتحدة. وبطبيعة الحال، من الأفضل أن نتوصل قبل ذلك، بمساعدة أوباما السخية، إلى سلام كامل مع الشعب الفلسطيني – الأمر الذي سيزعزع أي قاعدة للعداء الإيراني تجاه إسرائيل.

سيبقى تمرد "الشماليين" في إيران، عل ما يبدو، مجرد فترة عابرة. يجب أن يحذونا الأمل بأن يؤثر هذا التمرد مع مرور الأيام وتحت السطح. ولكن في هذه الأثناء لا فائدة من إنكار فوز المنكِر الإيراني الكبير.