اوري افنيري 

النغمة والموسيقى / أوري أفنيري


تحدث أحدهم إلى العالم، والعالم أصغى له.

لقد اعتلى المنصة في القاهرة، رجل واحد وحيد، من دون مضيفين ومن دون مرافقين، وألقى عظة أمام جمهور تعداده مليارات.

مصريون وأمريكيون، إسرائيليون وفلسطينيون، يهود وعرب، سنيّون وشيعيون، أقباط وموارنة– جميعهم أصغوا بانتباه.

لقد فرش أمامهم خارطة عالم جديد، عالم آخر، وقد فصّل قيمه وقوانينه بلغة بسيطة وواضحة. مزيج من المثالية والسياسة الفعلية، الرؤيا والعمل.

باراك حسين أوباما - كما شدد على تسمية نفسه، هو الشخص الأقوى في العالم. كل كلمة ينطق بها هي حقيقة سياسية.

أعلن المعلقون بمئة لغة أنه "خطاب تاريخي". أنا أفضل لقبًا آخر:

خطاب صحيح.

كانت كل كلمة فيه في محلّها وكل جملة دقيقة وكل نغمة صحيحة. فكرة فذة من إنسان يبشر العالم ببشرى جديدة.

شعر كل واحد من المشاهدين في القاعة والعالم، منذ أول كلمة، أن هذا الرجل يتحدث بصراحة، قلبه ولسانه متساويان، وأنه ليس سياسيا من النوع القديم والمعروف - مداهن، منافق ويحسب حسابا لأي كان. لغة الجسم تحدثت، وتعابير الوجه كذلك.

لذلك كان الخطاب خطابا هاما إلى هذا الحد. منح التوجه الأخلاقي والشعور بالصدق مصداقية إضافية لفحواه الثوري.

وقد كان الخطاب خطابا ثوريا بالفعل.

خلال 55 دقيقة لم تُشطب ثماني سنوات جورج دبليو بوش فحسب، بل عشرات السنوات التي سبقتها منذ الحرب العالمية الثانية أيضا.

دارت السفينة الأمريكية، ولم تدر بحركة بطيئة، كما كان متوقعا، بل بانطلاقة طرّاد.

إنه أكثر من تغيير سياسي. إنه منوط بجذور الوعي القومي الأمريكي. توجه الرئيس إلى مئات الملايين من مواطني الولايات المتحدة ليس بأقل مما توجه إلى مليار من المسلمين.

ترتكز الثقافة الأمريكية على أسطورة "الأفلام الغربية"، على GOOD GUYS ו-BAD GUYS، العنف في خدمة العدل، العراك في وضح النهار. بما أن الشعب الأمريكي مؤلف من مهاجرين من دول كثيرة، كان يبدو أن وحدته تستلزم دائما عدوًا وحشيا حول العالم، يكون أشبه بالنازيين واليابانيين، أو بالشيوعيين. بعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية، تم نقل هذا المنصب للإسلام.

الإسلام المتطرف، الوحشي، المتعطش إلى الدماء؛ الإسلام الذي كله دين قتل ودمار؛ الإسلام الرجعي الذي يقتل النساء والأطفال بشهوة . لقد استحوذ هذا العدو على خيال الجماهير، زوّد التلفزيون والسينما بالمواد، كان موضوعا تناوله البروفيسورات المثقفين ووحيا للكتاب الذين يحظون بالشعبية. جلس شخص أبله في البيت الأبيض وأعلن الحرب على "الإرهاب الدولي".

وحين جاء أوباما الآن ليقتلع هذه الأسطورة من جذورها، أحدث انقلابًا في لب الثقافة الأمريكية. إنه يمحو صورة هذا العدو، ولا يرسم صورة عدو آخر مكانها. إنه يعظ ضد مجرد التوجه العنيف، المقارِن، ويحاول أن يزرع مكانه ثقافة المشاركة بين الدول، الحضارات والأديان.

أنا أعتبر أوباما أول مبشر كبير في القرن الواحد والعشرين، وهو ابن العصر الحديث، حيث يكون الاقتصاد فيه شاملا، ويجب على الإنسانية جمعاء أن تواجه الخطر الذي يتهدد بقاء الحياة على الكرة الأرضية. عصر يربط الإنترنت فيه خلال جزيء من الثانية بين ولد في نيوزيلندا وبنت في ناميبيا، ينتشر فيه مرض مصدره قرية مكسيكية صغيرة إلى سائر أنحاء الكرة الأرضية خلال بضعة أيام.

يحتاج هذا العالم إلى قانون عالمي، نظام عالمي، ديموقراطية عالمية. لذلك يتمتع هذا الخطاب بأهمية تاريخية: وصف أوباما الخطوط التأسيسية لدستور دولي.

في حين أن أوباما يبشر بالقرن الواحد والعشرين، تتراجع حكومة إسرائيل إلى القرن التاسع عشر.

ذلك القرن الذي علا فيه شأن القومية الضيقة، الأنانية، الهجومية في العديد من الدول. القرن الذي قدّس الشعب المقاتل، الذي اضطهد الأقليات والذي استغلّ الجيران. القرن الذي ولّد اللاسامية العصرية وكذلك ردة الفعل عليها - الصهيونية المعاصرة.

إن رؤيا أوباما ليست معادية للقومية. لقد تحدث عن الأمة الأمريكية باعتزاز. ولكن قوميته هي من نوع آخر: قومية مستوعِبة، متعددة الثقافات وثنائية الجندر، توحّد مواطني الدولة وتحترم جميع الشعوب الأخرى.

هذه هي قومية القرن الواحد والعشرين، التي تصبو دون كلل إلى إطار فوق قومي، فوق سياسي، إقليمي ودولي.

كم يبدو العالم الروحي لليمين الإسرائيلي تعيسا مقارنة به! كم يبدو تعيسا عالم المستوطنين المتعصب والعنيف، الجيتو القومي لنتنياهو، ليبرمان وباراك، العالم العنصري الفاشي المنطوي التابع لحلفائهم الكهانيين!

علينا أن نفهم البعد الروحي لخطاب أوباما، قبل أن نناقش التأثيرات السياسية. إن نتنياهو وأوباما يسيران في مسار مصيره التصادم وليس في المجال السياسي فقط. التصادم الحقيقي بين عالمين روحانيين، يبعد أحدهما عن الآخر كبعد الشمس عن القمر.

في عالم أوباما الروحاني، لا مكان لليمين الإسرائيلي وأمثاله في هذا العالم. لا مكان لمفاهيمه ولا "لقيمه"، وبالأساس لا مكان لأعماله.

كما أن هناك هوة هائلة اتسعت الآن بين حكومتي إسرائيل والولايات المتحدة.

ركبت حكومات إسرائيل في السنوات الأخيرة موجة رهاب الإسلام التي أغرقت الغرب. تم النظر نحو العالم الإسلامي نظرة العدو اللدود، وهرعت أمريكا نحو "صراع الحضارات"، وكان كل مسلم يعتبر إرهابيا.

كان بوسع زعماء إسرائيل أن يحتفلوا. فالفلسطينيون عرب، والعرب مسلمون، والمسلمون "إرهابيون"، أي أن لإسرائيل مكان جيد في الوسط في جبهة أبناء النور ضد أبناء الظلمة.

كان هذا جنة عدن للديماغوغيين العنصريين. كان باستطاعة أفيغدور ليبرمان أن يدعو إلى طرد العرب من الدولة، كان بإمكان إيلي ييشاي أن يبادر إلى سن قوانين لسحب الجنسية من أبناء البلاد غير اليهود، كان بوسع أعضاء كنيست أن يتصدروا العناوين الرئيسية في اقتراح سن قوانين بدا وكأنه قد تم التحضير لها في نيرنبرغ.

هذا الفردوس لم يعد قائما. سيتم اكتشاف الإسقاطات عاجلا أم آجلا، ولكن اتجاه السهم واضح للعيان. في حال استمررنا في هذه الطريق، سنتحول إلى زمرة من المصابين بالجذام.

النغمة تصنع الموسيقى. هو الأمر كذلك في الأقوال التي قيلت عن إسرائيل وفلسطين. تحدث أوباما عن الكارثة بإسهاب – أقوال شجاعة وعادلة، أقوال شفقة ورحمة، قبل بها المصريون بصمت ولكن باحترام. لقد ألح بإصرار على حق بقاء دولة إسرائيل. وواصل الحديث مباشرة عن معاناة الفلسطينيين، عن ضائقة الشعب الفلسطيني غير المحتملة في غزة، عن طموح الفلسطينيين في إقامة دولة خاصة بهم.

لقد تحدث عن حماس باحترام. لم تعد "منظمة إرهابية" منحطة، بل هي جزء من الشعب الفلسطيني. لقد طالبها بالاعتراف بإسرائيل والكفّ عن العنف، ولكنه ألمح أيضا إلى أنه يقبل مبارِكًا حكومة وحدة فلسطينية .

كانت الرسالة السياسية واضحة وجليّة: سيتم إنجاز حل الدولتين لشعبين. إنه سيهتم بذلك بنفسه. يجب وقف الاستيطان. خلافا لسابقيه، لم يتحدث عن "الفلسطينيين" عبثا، بل عن "فلسطين" بشكل واضح- اسم الدولة والأرض.

ولا يقل عن ذلك أهمية: تم شطب الحرب على إيران عن جدول الأعمال. الحوارمع طهران كجزء من العالم الجديد ليس محدّدا بوقت. لا مكان للحلم بالسماح الأمريكي بهجوم إسرائيلي.

كيف كان رد فعل إسرائيل الرسمية؟ كان أول رد فعل هو الإنكار. "خطاب ليس هامًا". "لا جديد فيه". استلّ محللو السلطة من الخطاب الجمل المريحة لإسرائيل وتجاهلوا البقية. وبوجه عام، " ما هذه سوى كلمات. إذن فقد قال. لن يتمخض أي شيء عن ذلك".

هذه حماقة. كلمات رئيس الولايات المتحدة هي قرائن سياسية. إنها تغيّر وجهة نظر مئات الملايين. لقد أصغى الجمهور المسلم. لقد أصغى الجمهور الإسرائيلي. سيمر وقت للاستيعاب والتذويت، ولكن بعد هذا الخطاب، لن يبقى اللوبي الإسرائيلي على ما كان عليه. انتهى عصر "الدواوين". فذلكة شمعون بيرس، ألاعيب إيهود أولمرت المخادعة، كلمات بنيامن نتنياهو الفارغة - كل هذه غدت تابعة للماضي.

على الجمهور الإسرائيلي الآن أن يتخذ قرارا: اتباع حكومة اليمين نحو التصادم الحتمي مع واشنطن، كما فعل اليهود قبل 1940 سنة، حين انبهروا بالمتعصبين الذين أعلنوا الحرب على روما، أو الانضمام إلى موكب أوباما نحو عالم جديد.