|
||
رأى هذا الأسبوع العالم بآسره كيف يمكن القيام بذلك. جلس أوباما في الغرفة البيضاوية إلى جانب بنيامين نتنياهو وتحدث مع الصحافيين. كان جديا ولكنه كان هادئا. لغة الجسد قالت ما لديها: في حين أن نتنياهو قد انحنى إلى الأمام بتوق شديد، كعميل تجاري جوّال يحاول بيع سلعته، اتكأ أوباما إلى الخلف، مستريحا وواثقا بنفسه. تحدث بصوت رخيم، رخيم جدا. ولكن من خلفه، إلى جانب العلم، بشكل خفي، انتصب سوط كبير جدا. أراد العالم بآسره معرفة الحديث الذي دار بين الاثنين قبل ذلك، بأربع عيون. لدى عودته إلى البلاد، عمل نتنياهو كل ما في وسعه لكي يصف اللقاء كنجاح كبير قد أحرزه. ولكن بعد أن تم لف البساط الأحمر وأطفأت الأنوار، من المجدي لنا أن نتمعن في ما رأيناه وسمعناه حقا. شدد نتنياهو في قائمة إنجازاته على الموضوع الإيراني. "توصلنا إلى اتفاق كامل" عاد وتفاخر مرارا وتكرار. اتفاق حول ماذا؟ حول منع إيران من التوصل إلى "القدرة النووية العسكرية". لحظة، لحظة. ما معنى "العسكرية"؟ من أين انطلقت هذه الكلمة عل حين غرّة؟ فحكومات إسرائيل كانت تطالب دائما بمنع إيران من التوصل إلى "قدرة نووية" أيا كانت. في حال اقتصر هذا الطلب على منع القدرة النووية العسكرية فقط، فإن معنى ذلك أن حكومة نتنياهو توافق على أن تتوصل إيران إلى قدرة نووية مدنية. هذا ليس التراجع الوحيد لنتنياهو حول المسألة الإيرانية. لقد طلب من أوباما، قبل سفره، أن يخصص لإيران وقتا "حتى تشرين الأول"، وعندها "تكون الخيارات جميعها مطروحة على جدول البحث". بما معناه إنذار أخير يشمل تهديدا عسكريا. لم يبق أي شيء من هذا. ذكر أوباما أنه سيجري محادثات مع إيران حتى نهاية السنة، وعندها سيقوم بتقييم ما تم إنجازه وسيفكر في الخطوات التالية. في حال توصل إلى استنتاج بأنه لم يتم التقدم، فإنه سيفكر بوسائل أخرى، ومن بينها "عقوبات جسيمة". لقد اختفى الخيار العسكري. صحيح أن أوباما قد قال، قبل اللقاء، أن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة"، ولكن حقيقة عدم تكراره لهذا القول بحضور نتنياهو، يقول الكثير. لا شك في أن نتنياهو قد طلب الإذن بمهاجمة إيران، أو على الأقل تهديدها بالمهاجمة. إذا كانت هذه هي الحال، فالإجابة هي لا قاطعة. لقد عقد أوباما العزم على منع الهجوم العسكري من قبل إسرائيل. حتى أنه قد حذر حكومة إسرائيل بشكل لا ينتطح فيه عنزان. للتأكد من أنه قد تم استيعاب العبرة، فقد أرسل قبل اللقاء رئيس السي أي إي إلى إسرائيل، الذي قام بدوره بإبلاغ زعماء الدولة بذلك شخصيا. لقد تم شطب الهجوم العسكري الإسرائيلي على إيران من جدول الأعمال، إذا كان مطروحا على جدول الأعمال أصلا. لقد أراد نتنياهو أن يربط بين إيران والقضية الفلسطينية، بطريقة سلبية: طالما ظل الخطر الإيراني قائما، فلا وقت لدينا لمعالجة القضية الفلسطينية. قلب أوباما الأمور رأسا على عقب وربط بين القضيتين بشكل إيجابي: التقدم نحو السلام مع الفلسطينيين هو شرط أساسي للتقدم في المسألة الإيرانية. هذا أمر منطقي: النزاع غير المحلول هو الذي يزود إيران بالقوة، يزودها بذريعة لتهديد إسرائيل ويُضعف معارضة كل من مصر والسعودية نحو إيران. العبرة الأساسية التي طرحها أوباما قد تجلت في موضوع واحد، تصدر الأحداث هذا الأسبوع: المستوطنات. كانت هذه الكلمة وكأنها اختفت في فترة بوش (الابن). صحيح أن كل حكومات الولايات المتحدة قد عارضت توسيع المستوطنات، إلا أنه منذ محاولة جيمس بيكر، وزير خارجية بوش (الأب)، تفعيل عقوبات اقتصادية ضدها، فإن أي منها لم تجرؤ على وقف المستوطنات. تلعثموا في واشنطن، وبنوا على أرض الواقع. كذبوا في القدس، وبنوا على أرض الواقع. وكما قالت شخصية فلسطينية كبيرة: "نحن ندير مفاوضات على تقسيم البيتسا، وإسرائيل تلتهمها في هذه الأثناء." يجب أن نعود ونوضح: المستوطنات هي كارثة على الفلسطينيين، كارثة على السلام وكارثة مزدوجة ومثلثة على إسرائيل. أولا، لأن كل هدفها هو تحويل إقامة دولة فلسطينية إلى أمر مستحيل، وبذلك منع إحلال السلام إلى الأبد. ثانيا، لأنها تمتص نخاع عظم الاقتصاد الإسرائيلي وتعزز ضائقة الطبقات الفقيرة. ثالثا، لأن المستوطنات تقوّض سلطة القانون في إسرائيل، تُنبت أعشابا ضارة فاشية وتدفع الحلبة السياسية كلها إلى اليمين. لذلك فإن أوباما على حق حين يضع مسألة المستوطنات على رأس القائمة، حتى قبل مفاوضات السلام. الوقف التام للبناء في المستوطنات يسبق أي شيء آخر. عندما ينزف الجسم دما، يجب أولا وقف النزيف قبل معالجة المرض. لأنه إذا مات المريض بسبب فقدان الدم، فلن يكون هناك من يحتاج إلى تطبيب مرضه. وهذه بالضبط هي استراتيجية الحكومة اليمينية. لذلك رفض نتنياهو قبول الطلب. لو لم يفعل ذلك، لكان ائتلافه سيتفكك، وكان سيضطر هو إلى الاستقالة أو إقامة ائتلاف بديل مع كاديما. كانت تسيبي ليفني الجريحة، التي لا تجد مكانا لها كزعيمة المعارضة، ستنتهز هذه الفرصة بكل ما أوتيت من قوة. يحاول نتنياهو استخدام باراك ضد باراك. إنه يعرض، بمساعدة إيهود باراك، "أخلاء بؤر استيطانية" للتمويه عن مواصلة البناء في المستوطنات. لننتظر ونرى فيما إذا كانت ستنجح هذه الحيلة، وفيما إذا كانت زعامة المستوطنين ستتعاون في المكيدة. بعد يوم من عودة نتنياهو إلى البلاد "هدم" باراك للمرة السابعة بؤرة استيطانية مؤلفة من سبع سقيفات خشبية، وخلال ساعات معدودة عاد المستوطنون إلى المكان. (لقد بنى الجيش الإسرائيلي في النقب قرية عربية كاملة بهدف التدريبات. تقول النكتة أن الجيش الإسرائيلي قد بنى أيضا بؤرة معوز إستير، وأن سكانها هم من الجنود السريين، "جندتوطنين". في كل مرة تزاول فيه الولايات المتحدة الضغط، يقوم الجيش الإسرائيلي بهدم هذه البؤرة. بعد ذلك يبنونها من جديد، استعدادا للدورة التالية من الضغط الأمريكي.) من يرفض تجميد المستوطنات، لا يمكنه الموافقة على حل "الدولتين". لقد نشر نتنياهو من حوله شعارات فارغة من أي مضمون. تحدث عن "شعبين" يعيشان معا بسلام، ولكنه رفض التحدث عن دولة فلسطينية. لقد أعلن احد مساعديه أن هذه المطالبة هي "لعبة صبيانية". ولكن هذه ليست لعبة صبيانية أبدا. لقد ثبت أن المفاوضات، التي لا يتم تحديد هدفها مسبقا، لا تؤدي إلى أي مكان. لقد انهارت اتفاقية أوسلو لهذا السبب بالضبط. يرغب نتنياهو في أن تنهار المفاوضات القادمة أيضا لنفس السبب. إنه لم يطرح برنامجا خاصا به. ليس لأنه لا يوجد لديه برنامج، بل لأن أحدا لن يقبل به. يقول برنامج نتنياهو: سيطرة إسرائيلية كاملة في كل البلاد من النهر إلى البحر. مستوطنات إسرائيلية غير محدودة. حكم ذاتي محلي في بعض القطاعات الفلسطينية التي تعيش فيها كثافة سكانية كبيرة، لتكون محاطة بالمستوطنات. تبقى القدس كلها جزءا من إسرائيل. لا مكان للحديث عن إرجاع لاجئ فلسطيني واحد. هذه بضاعة لا يوجد من يقتنيها في العالم. يحاول نتنياهو رزمها في عبوة تستقطب الأنظار. على سبيل المثال: سيكون للفلسطينيين "حكم ذاتي". أين بالضبط؟ ما هي حدوده؟ لقد أقر أنه لن تكون للفلسطينيين "سيطرة على الجو والحدود". إن دولة من دون مجال جوي، من دون سيطرة على معابرها الحدودية، من دون قوة عسكرية هي أشبه بكثير ببنتستونات جنوب إفريقيا العنصرية في حينه. لن أتعجب إذا بدأ نتنياهو يتحدث في المستقبل عن "دولة فلسطينية"، ويكون قصده هذه البنتستونات. إنه يحاول في هذه الأثناء ربح الوقت وتأجيل المفاوضات قدر الإمكان. إنه يطالب بأن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كـ"دولة الشعب اليهودي"، أملا منه في أن يتم رفض هذه المطالبة رفضا باتا. معنى هذا الأمر هو أنهم قد تخلوا مسبقا عن ورقة المساومة الرئيسية التي لديهم - قضية اللاجئين، أنهم سيطعنون مليون ونصف المليون فلسطيني من مواطني إسرائيل في ظهرهم. نتنياهو مستعد لقبول اقتراح أوباما لإشراك الدول العربية والإسلامية في عملية السلام – الأمر الذي كانت إسرائيل تعارضه دائما. ما هذا سوى أرنب إضافي من الأرانب التي يسحبها نتنياهو كل صباح من قبعة الساحر بهدف المماطلة. حتى تقرر عشرات الدول العربية، وربما خمسون دولة إسلامية ونيّف، الانضمام إلى المسيرة، ستمر أشهر وربما سنوات. في هذه الأثناء، يطالبها نتنياهو، كدفعة على الحساب، بأن يكون هناك تطبيع – أي أن العالم العربي والإسلامي كله سيدفع مسبقا وسيتخلى عن ورقة المساومة الوحيدة التي لديه من دون أي مقابل. يعني بخشيش. هذا هو برنامج عمل نتنياهو. هل يوجد لدى أوباما خطة سلام خاصة به؟ إذا ضممنا معا كل تصريحاته التي صرح بها في الأيام الأخيرة، يبدو لنا أنه توجد لديه خطة. حين يتحدث عن "دولتين لشعبين"، فهو يوافق عمليا على خطة السلام التي كانت قد حظيت بإجماع دولي. الخطة التي نصها بيل كلينتون في أواخر عهده، والتي تجسدت في اقتراح السلام السعودي والذي يلائم اقتراح معسكر السلام الإسرائيلي (مسودة اتفاقية "كتلة السلام"، "مبادرة جينيف"، إعلان أيالون-نسيبة وغيرها وغيرها. باختصار: دولة فلسطينية ذات سيادة قابلة للبقاء إلى جانب إسرائيل، حدود عام 1967 مع تبادل مناطق قليلة ومتفق عليها، تفكيك المستوطنات التي لن يتم ضمها إلى إسرائيل في إطار تبادل الأراضي، القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين والقدس الغربية عاصمة دولة إسرائيل، حل متفق عليه لقضية اللاجئين، معبر آمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ترتيبات أمنية متبادلة. في هذه الأثناء يتزايد الإجماع الدولي القائل بأن هناك طريق واحدة لإعادة دفع عجلة السلام: على أوباما أن يعلن عن اقتراح السلام الخاص به وأن يدعو الطرفين لقبوله. إذا اقتضت الحاجة – بواسطة استفتاء عام. يمكنه أن يفعل ذلك في خطابه الاحتفالي الذي سيلقيه بعد أسبوعين في القاهرة، أثناء زيارته الأولى كرئيس إلى الشرق الأوسط. ليس صدفة أنه يتخطى إسرائيل في هذه الزيارة، وهذه سابقة لم تحدث في الماضي. للقيام بذلك، سيحتاج إلى مواجهة اللوبي الإسرائيلي هائل القوة. يبدو أنه مستعد لذلك. آخر رئيس كان قد تجرأ على القيام بذلك كان دويت أيزنهاور، الذي أرغم إسرائيل على إرجاع سيناء بعد حرب عام 1956، وكانت شعبية "آيك" كبيرة إلى حد أنه لم يتخوف من اللوبي. إن أوباما لا يقل شعبية عنه، ومن الممكن أن يجرؤ هو أيضا. كما رمز "تدي" روزفلت: عندما يكون لديك سوط كبير، فأنت لست بحاجة إلى التلويح به. يمكنك أن تتحدث بصوت رخيم. آمل أن أوباما سيتحدث بصوت رخيم بالفعل – ولكن أن يقول كلمات واضحة. |