اوري افنيري 

هل عكا تشتعل؟


عكا لم تكن مدينة إسرائيلية طوال آلاف السنين من تاريخها.

كذلك وفقا للرواية الأسطورية في التوراة، لم يحتل بنو إسرائيل المدينة، التي كانت حينذاك مدينة ميناء قديمة. الفصل الأول من سفر القضاة، الذي يدحض وصف سفر اشعيا، يقر بشكل قاطع: " (سبط) آشر لم يترك تركة للمقيمين في عكا".

قليلة هي مدن العالم القادرة على الاعتزاز بتاريخ رائع وهائج إلى حد شبيه بمدينة عكا، مدينة الميناء الرئيسي في البلاد. لقد كانت مدينة كنعانية-صيداوية، تاجرت مع مصر، تمردت على آشور، جابهت الحشمونائيم، تم احتلالها على يد الصليبين، كانت ميدانا للمعركة التي دارت بين صلاح الدين الأسطوري وريتشارد قلب الأسد، الأسطوري هو أيضا، كانت عاصمة مملكة الجليل العربية المستقلة إلى حد ما، التابعة لظاهر العمر، وصمدت أمام حصار نابليون. جميع هذه الفترات، تركت آثارها في عكا على شكل مبان وأسوار. مدينة جذابة، وربما الأجمل بين مُدن إسرائيل، ومن دون شك الأكثر إثارة للانتباه ، باستثناء القدس.

عاشت مجموعة يهودية في المدينة، خلال فترات، ولكنها لم تكن مدينة يهودية ذات مرة. على العكس تماما: دار جدال بين الحاخامين، إذا كانت – من ناحية الهلاخاه (الشريعة اليهودية) – تنتمي عكا لإسرائيل بشكل عام. كان هذا الأمر هام، بسبب الوصايا المنطبقة على ارض إسرائيل فقط. كان هناك حاخامون ممن اعتقدوا أن عكا لا تتبع لنا، بينما اعتقد الآخرون أنه، على الرغم من ذلك، هناك جزء واحد من عكا يتبع لنا. (لم يزعجنا الأمر، في شبابنا، أن ننشد "عكا هي أيضا ارض إسرائيل" – عندما كان القصد هو القلعة الصليبية والتي احتجز البريطانيون فيها أسرى المقاومة اليهودية).

في حرب عام 1948 احتل الجيش الإسرائيلي عكا، ومنذ ذلك الحين أصبحت تخضع للسيطرة الإسرائيلية: ستون عاما من تاريخ دام 5000 سنة على الأقل.

هذه خلفية لما حدث في عكا في الأسبوع الماضي. يراها السكان العرب مدينة أجدادهم، التي اجتاحها اليهود بالقوة. أما السكان اليهود، فهم ينظرون إليها كمدينة يهودية، وأن العرب فيها ما هم سوى أقلية يمكن تحملها– بالكاد يمكن تحملها.

طيلة سنين، كان مفروش على المدينة غطاء رقيق من النفاق. لقد مدح وأطرى الجميع التعايش الرائع في المدينة. حتى اخترق الغطاء، وانجلت الحقيقة المجردة.

أنا إنسان علماني بكل جوارحي. كنت أؤيد دائما الفصل التام بين الدين والدولة ، وحتى عندما كان يبدو الأمر لدينا فكرة جنونية. ولكن لم يخطر ببالي أبدا السفر يوم الغفران. لا يوجد قانون يمنع ذلك. لم تقتض الحاجة ذلك.

بالنسبة ليهودي محافظ، يوم الغفران هو يوم مقدس لا ثان له. وحتى من لا يؤمن تماما، أن في هذا اليوم يُصدر الله تعالى حكمه القاضي بأن مصير كل إنسان الحياة أو الموت في السنة القادمة، ويدون الحكم في كتاب كبير، ويشعر أن في هذا اليوم يجب أخذ مشاعر الآخرين بعين الاعتبار. لن أسافر في يوم الغفران في حي يهودي، كما أنني لن آكل علنا في شهر رمضان في حي عربي.

من الصعب معرفة ما الذي فكر به ذلك السائق العربي توفيق جمال، عندما دخل بسيارته عشية يوم الغفران إلى حي معظم سكانه من اليهود. من المرجح أنه لم يفعل ذلك عمدا، انطلاقا من خلال الخبث، كعمل تحرشي، بل انطلاقا من حماقة أو تهور.

كان رد الفعل متوقعا. هاجمه حشد من اليهود الحانقين، واحتجزوه في بيت كان له ملجأ. أعلنت مكبرات الصوت في المساجد، في الحي العربي البعيد، أنه تم قتل العرب، وأن عربيا يواجه خطر الموت. حاول شباب عرب حانقين الوصول إلى العائلة المُحاصرة، وتم صدهم من قبل رجال الشرطة، وخلال ذلك دمّروا حوانيت وسيارات تابعة لليهود. أما الشباب اليهود، الذين حازوا على دعم من أتباع اليمين المتطرف، فقد أحرقوا بيوت السكان العرب، الذين أصبحوا لاجئين في مدينتهم. خلال بضع ثوان، تم تدمير 60 سنة من "التعايش" – وثبت أن في المدينة "المختلطة" لا يوجد أي تعايش: يوجد فيها مجموعتان سكانيتان تكره إحداهما الأخرى.

من السهل إيجاد أسباب عقلانية لهذه الكراهية. كما هي الحال في المدن "المختلطة" الأخرى، وكما هي الحال في الدولة بأسهرا، فإن الجمهور العربي مظلوم في كل مجالات الحكم الرسمي والبلدي. الميزانيات أقل، التعليم متدن أكثر، السكن بمستوى أقل والكثافة السكانية أعلى.

المواطنون العرب موجودون في حلقة مفرغة. إنهم يعيشون في مدن وأحياء تحولت إلى جيتوهات مهملة، جراء العنصرية المنهجية طويلة السنوات. عندما يرتفع مستوى معيشة السكان، ينشأ طلب لبيئة أفضل وسكن أفضل. أزواج شابة تترك الأحياء العربية المجحف بها والمهملة، وينتقلون إلى أحياء يهودية، الأمر الذي يثير المعارضة والاحتكاكات بشكل فوري. الأمر ذاته حدث للأفريقيين-الأمريكيين، في حينه، في الولايات المتحدة الأمريكية، وقبل ذلك لليهود.

الأحاديث عن مساواة في الحقوق، جيرة حسنة وتعايش، تتطاير كالدخان في الهواء، عند دخول عائلات عربية إلى بيئة يهودية مُعادية. الأسباب موجودة دائما، وسفر توفيق جمال كان مثالا حادا بشكل خاص.

مثل هذا الوضع قائم في أماكن كثيرة في العالم. الحساسيات الدينية، القومية، الطائفية والمجتمعية من شأنها أن تندلع في أي لحظة. لقد مر مئة عام منذ تحرير العبيد في الولايات المتحدة، وحتى سن قوانين المساواة في الحقوق، وخلال هذه السنين حدثت الكثير من أعمال المجازر. مرت أربعون سنة أخرى، حتى تم السماح لمرشح أسود بالاقتراب إلى عتبة البيت الأبيض. الشرطة العنصرية في لندن معروفة بسمعتها السيئة، المواطنون في برلين من أصل تركي مجحف بحقهم، وفي فرنسا يمكن لأفريقي أن يصل إلى منتخب كرة القدم، ولكن لا يمكنه أن يصل إلى قصر الإيليزيه.

من هذه الناحية، عكا هي مثال على المستوى العالمي.

في هذا السياق قال جان بول سارتر أنه في كل واحد مننا يعيش عنصري صغير. الفرق فقط هو بين من يعترف بذلك ويحاول قمعه ومن يخضع له.

أرادت الصدفة في يوم الغفران، في الوقت الذي حدثت فيه أعمال الشغب في عكا، أن أقضي وقتي في قراءة الكتاب المشوّق (بالإنجليزية) لوليام بولاك، "جيران وغرباء"، الذي يتناول مصادر العنصرية. وكما هو الأمر لدى الحيوانات الأخرى، عاش الإنسان القديم على الصيد وجمع الفواكه. يتنقل مع عائلته، 50 فردا على الأكثر، في منطقة كانت تكاد تكفي لمعيشتهم. إن كل غريب كان يدخل إلى منطقته كان يعرض كيانه الجغرافي إلى الخطر، وأما هو فقد كان يحاول اجتياح مناطق الجيران، بهدف زيادة إمكانية البقاء على قيد الحياة. أي: الخوف من الغريب والرغبة في طرده مغروسة عميقا في ميراثنا البيولوجي، منذ ملايين السنين.

من الممكن التغلب على العنصرية، أو على الأقل كبحها، ولكن يُلزم هذا الأمر معالجة عن وعي وإدراك، منهجية ومتواصلة. في عكا – كما هي الحال في أماكن كثيرة في البلاد – لم تجرى مثل هذه المعالجة.

ترتبط العنصرية، في هذه البلاد، بالتأكيد، بالنزاع القومي، المهمل منذ خمسة أجيال. أحداث عكا هي جزء من الحرب بين الشعبين على البلاد.

اليمين المتطرف، وفيه نواة المستوطنين المتطرفة، لا يخفي نواياه في طرد كل العرب وتحويل البلاد كلها إلى دولة يهودية. أي: تطهير عرقي. يبدو للوهلة الأولى أن هذا حلم أقلية صغيرة، ولكن استطلاعات الرأي العام تظهر أن هذا التوجه ينهش بين أوساط مجموعة سكانية أكثرة اتساعا، رغم أن ذلك يكون بشكل نصف واع، خفي ومنكر.

يوجد بين أوساط الجمهور العربي، ربما، من يحلم بتلك الأيام الجيدة، قبل قدوم اليهود إلى البلاد والسيطرة عليها بالقوة.

عندما يرتكب اليهود مذبحة بالعرب في عكا، بغض النظر عن السبب الفوري، يتحول الحدث إلى ظاهرة قومية. إن حرق بيوت العرب في الأحياء اليهودية، يثير على الفور الخوف من التطهير العرقي. عندما يصل الشباب العرب إلى حي يهودي لإنقاذ أخ عربي في حالة خطر، فإن الأمر يثير على الفور الذكريات من اضطرابات عام 1929 في الخليل، والتي كانت في حينه مدينة مختلطة هي أيضا.

هناك أمل في أن ننجح في نهاية الأمر في إنهاء النزاع القومي ونصل إلى حل سلمي، يكون مقبولا على الشعبين (حتى وإن كان بسبب عدم وجود خيار آخر). عند إقامة الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، سيدرك الطرفان أن هذا الحل هو الحل الممكن الأفضل.

(أحداث عكا من شأنها أن تثير التفكير مرة أخرى في كل من يؤمن بـ"حل الدولة الواحدة"، التي يعيش فيها يهود وعرب بمودة ومساواة. "حل" كهذا معناه أن كل البلاد ستكون عكا كبيرة واحدة).

ولكن السلام الذي يرتكز على إقامة دولتين، الواحدة بجانب الأخرى، لن يحل بشكل أوتوماتكي مشكلة المواطنين العرب في إسرائيل، الدولة التي تُعرف نفسها كدولة "يهودية". ينتظرنا صراع متواصل ومتتالي على شكل دولتنا.

أفيغدور ليبرمان، اليميني المتطرف، اقترح نقل القرى العربية الواقعة غربي الخط الأخضر إلى دولة فلسطينية، مقابل الكتل الاستيطانية اليهودية التي وراء الخط الأخضر. هذا لا يمُس، بالطبع، بالسكان العرب في عكا، حيفا، يافا، الناصرة وقرى الجليل. ولكن في القرى المجاورة للخط الأخضر لا يوجد أي عربي يوافق على هذا الاقتراح. على الرغم من أن ليبرمان وكأنه اقترح ضم قراهم إلى الدولة الفلسطينية ، إلى جانب أراضيهم وجميع ممتلكاتهم، إلا أنه لم يُسمع أي صوت عربي يدعم الاقتراح.

لماذا؟ مليون ونصف المليون من المواطنين العرب في إسرائيل لا يحبون سياسة الحكومة، علم الدولة والنشيد الوطني، فكم بالحري معاملة الدولة تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ولكنهم يفضلون الديموقراطية الإسرائيلية، التطوّر الاجتماعي، التأمين الوطني والخدمات الاجتماعية. إنها متأصلة في العادات والكينونة الإسرائيلية، أكثر بكثير مما هم مستعدون للاعتراف بذلك. إنهم يريدون أن يكونوا مواطنين في هذه الدولة، ولكن في ظروف من المساواة والاحترام المتبادل.

اليهود، الذين يحلمون بالتطهير العرقي، لا يدركون مدى إسهام الجمهور العربي في دولة إسرائيل. يعمل المواطنون العرب في الدولة كسائر سكانها، يقدمون مساهمة كبيرة في الإنتاج القومي، يدفعون الضرائب مثل أي مواطن آخر. إنهم مثلنا لا خيار لهم – يدفعون ضريبة القيمة المضافة على كل شراء، ويتم خصم ضريبة الدخل من أجرهم أيضا.

هناك العديد من الأسئلة، يتوجب أن نراها وأن نفكر بها وأن نستخلص العبر في ما يتعلق بها. هل من المحبذ أو غير المحبذ، في هذه المرحلة، أن يسكن العرب في أحياء يهودية، ويسكن اليهود في أحياء عربية؟ كيف يمكن دفع الأحياء العربية قدُما وجعلها مشابهة للأحياء اليهودية من الناحية الفعلية وليس بالكلام فقط؟ هل يجب إلزام كل ولد يهودي أن يتعلم العربية، وكل ولد عربي أن يتعلم العبرية، حسب ما اقترح رئيس بلدية حيفا هذا الأسبوع؟ هل يجب إعطاء التعليم العربي ذات المكانة والميزانيات الممنوحة للتعليم الحاريدي؟ هل يجب مأسسة المؤسسات العربية المستقلة؟ إن إيجاد حلول لهذه المشاكل، أو على الأقل لجزء منها، من شأنه أن يساعد في النضال ضد داء العنصرية من جذوره، وليس في أماراته الخارجية فقط.

في الحقيقة، ما من خيار: لقد "حُكم" على مواطني إسرائيل، يهودا وعربا، العيش معا. ولكن، حسب ما ثبت ثانية في عكا، فإن النسيج المشترك دقيق وهش. من أجل تغيير ذلك، يجب أن تكون لدى جميعنا الجرأة في النظر المباشر إلى المشكلة، وأن نراها على حقيقتها، من دون رياء ولا تزوير، كشرط لإيجاد الحلول.