|
||
في الحقيقة، لم يهتم أي منا بشكل خاص بخطابات السياسيين في تل أبيب. كانت تبدو هذه المدينة نائية جدا. لقد كنا نعلم أن الدولة موجودة هنا، لدينا. إذا انتصر العرب، فلن تكون هناك دولة ولن نكون نحن أيضا. إذا انتصرنا نحن، فستكون الدولة. كنا شبابا وكنا واثقين من أنفسنا، فلم نشك للحظة واحدة بأننا سننتصر. ما أثار فضولي في تلك اللحظة كان أمرا واحدا: ماذا سيسمّون هذه الدولة؟ يهودا؟ صهيون؟ الدولة اليهودية؟ هرولت إلى غرفة الطعام، حيث كان الراديو موجودا هناك. صدر عن الجهاز صوت بن غوريون المميّز. في اللحظة التي وصل فيها إلى الكلمات "... هي دولة إسرائيل"، فقدت أي اهتمام كان لديّ وخرجت. صادفت إيسر بجانب الباب. كان ينتمي إلى كتيبة أخرى، كانت على وشك مهاجمة قرية أخرى في الليل. أخبرته باسم الدولة، وقلت له "حافظ على نفسك!" وتودّعنا. بعد عدة أيام لقي حتفه. لذلك أتذكره بالشكل الذي وقف فيه هناك: كان في حينه: صبّار (كلمة تُطلق على شخص وُلد وعاش في البلاد) شاب يبلغ التاسعة عشرة من العمر، طويل القامة، مبتسم، تغمره فرحة الحياة وهو مفعم بالسذاجة. كلما اقتربنا من يوم الاستقلال الستين، تزيد صعوبتي في التخلص من استغرابي: ماذا كان سيعتقد إيسر – الذي ما زال يبلغ التاسعة عشرة – لو فتح عيناه ورأى ما نحن فيه؟ ماذا سيكون رأيه بالدولة التي أعلنوا عن قيامها في ذلك اليوم؟ كان سيرى أن الدولة قد تطورت لتتعدى كل أحلامه. بلدة صغيرة تعدادها 635,000 نسمة (أكثر من 6000 من أبنائها قُتلوا في تلك الحرب) قد نمت وتحولت إلى شعب يزيد تعداده عن سبعة ملايين مواطن. الأعجوبتان الكبيرتان اللتان أحللناهما ما زالتا واقعا: اللغة العبرية والديموقراطية الإسرائيلية. لدينا اقتصاد متين، وفي بعض المجالات، مثل الهاي-تك، نحن نتصدر الدوري العالمي. كان إيسر سوف ينفعل وسيتحمّس بالتأكيد. ولكنه كان سيكتشف أيضا أن أمرا ما قد تشوش في مجتمعنا. الكيبوتس، الذي أقمنا فيه خيمة الجوّالة في ذلك اليوم، قد تحول إلى مصلحة تجارية كأي مصلحة تجارية أخرى. التضامن الاجتماعي، الذي كنا نفتخر به، قد انهار. كثيرون من المسنين والأطفال يعيشون تحت خط الفقر، الشيوخ والمرضى والعاطلون عن العمل ظلوا لا حول لهم ولا قوة. لقد تعمقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتحولت إلى إحدى أكبر الفجوات في الدول المتقدمة. وفي مجتمعنا، الذي رفع ذات مرة راية المساواة والعدل، أصبحت هذه القيم موضوعا للثرثرة قبل متابعة الأعمال اليومية. غير أنه كان سيستغرب بالأساس من اكتشافه أن تلك الحرب القاسية، تلك التي قتلته وجرحتني، مع آلاف الآخرين، ما زالت متواصلة بكل قوتها. أنها هي التي توجه كل حياتنا في الدولة. أنها تملأ الصفحات الأولى في صحفنا وتتصدر كل نشرات الأخبار، أن جيشنا، ذلك الذي كان بالفعل "نحن"، والذي لم يتسن له أن يقسم فيه قسم الوفاء، قد تحول إلى شيء مختلف تماما، جيش معظم عمله هو قمع شعب آخر. وفعلا، فقد هاجمنا في تلك الليلة قرية القباب. عندما دخلنا إلى القرية كانت قد أصبحت خالية خاوية. كسرت باب أحد المنازل. كانت القدر ما زالت ساخنة، وبقي الطعام على المائدة. في أحد الأدراج وجت بعض الصور: رجل قد صفّف شعره بعناية، امرأة قروية، ولدان صغيران. ما زالت هذه الصور بحوزتي. أعتقد أن الوضع كان مشابها في القرية التي هاجمها إيسر أيضا في تلك الليلة. أبناء القرية، من الرجال والنساء والأطفال – فروا ناجين بحياتهم في اللحظة الأخيرة، وخلّفوا وراءهم كل حياتهم. لا مفر من الحقيقة التاريخية: ذكرى استقلال دولة إسرائيل وذكرى "نكبة" الفلسطينيين هما وجهان لنفس العملة. طيلة 60 عاما لم ننجح – ولم نحاول عمليا – في حل هذا الرباط بواسطة خلق واقع جديد. وهكذا تواصلت الحرب. قبيل الذكرى الستين للاستقلال، جلس أعضاء لجنة واختاروا شعار الحدث. يمكن للشعار الذي تم اختياره أن يكون ملائما لشركة كوكا-كولا ولمسابقة الأغاني الأوروبية أيضا. الشعار الحقيقي للدولة مختلف تماما، ولا حاجة لأية لجنة من الموظفين لإعادة اختراعه. إنه مغروس في الأرض ويمكن مشاهدته عن بعد: الجدار. الجدار الفاصل. فاصل، بين من ومن، بين ماذا وماذا؟ إنه يفصل، للوهلة الأولى، بين كفار سابا وقلقيليا، بين موديعين-عيليت وبلعين. بين دولة إسرائيل، مع إضافة أرض مسلوبة، وبين الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولكنه يفصل في الحقيقة بين عالمين. في المشهد العالمي لدى الذين ينادون "بصراع الحضارات"، جورج بوش من جهة وأسامة بن لادن من جهة أخرى، فإن الجدار هو الحدود بين العملاقين التاريخيين، الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، العدوان اللدودان الذان تدور بينهما رحى حرب جوج ومأجوج. لقد تحول جدارنا إلى خط المواجهة بين هذين العالمين. الجدار ليس مبنى من الباطون والحديد فقط. الجدار – مثله مثل أي جدار آخر كهذا – هو بالأساس تعبير عن الأفكار، إعلان للمبادئ، حقيقة نفسية. يعلن مقيموه أنهم ينتمون، بالجسد والروح، إلى أحد المعسكرين، وهو المعسكر الغربي، وأما في الطرف الآخر من الجدار، فيبدأ العالم المعاكس، العدو، الجماهير العربية وسائر المسلمين. متى تم تحديد ذلك؟ من حدد ذلك؟ كيف تم تقرير ذلك؟ قبل 102 سنة، كتب ثيودور هرتسل في كتابه "دولة اليهود"، وهو الذي أتى بالحركة الصهيونية إلى العالم، جملة مفعمة بالمضمون لم يسبق لها مثيل: "من أجل أوروبا سنكون هناك [في فلسطين] جزءا من الجدار ضد آسيا، سنخدم كقوة طلائعية للحضارة ضد الهمجية." هكذا، باستخدام 22 كلمة ألمانية، تم رسم صورة العالم من قبل الصهيونية ورُسم موقعنا فيها. بعد أربع أجيال تم بناء الجدار الحقيقي وفق مسار الجدار الفكري. الصورة بسيطة وواضحة: نحن جزء من أوروبا (وأمريكا الشمالية)، جزء من الحضارة التي هي كلها أوروبية. وبالمقابل: آسيا، قارة همجية، تخلو من الحضارة، ويوجد فيها العالم الإسلامي والعربي. يمكن أن نتفهم وجهة نظر هرتسل. لقد كان شخص عاش في القرن التاسع عشر، وكتب ما كتبه في وقت كانت فيه الإمبريالية البيضاء في ذروتها. كان يؤيد هذه الإمبريالية كل ما أوتي من قوة. كان حلمه (الذي لم يتحقق) هو اللقاء بسسيل رودس، الشخص الذي كان رمز الاستعمار البريطاني. لقد اتصل بجوزيف تشمبرلين، وزير المستعمرات البريطاني، الذي اقترح عليه أوغندا، التي كانت في حينه مستعمرة بريطانية. لقد أعجب، في حينه، أيضا بالقيصر الألماني وبالرايخ الخاص به، المنظم إلى حد كبير، والذي أنجز في عام وفاة هرتسل إبادة شعب مرعبة في جنوب غرب أفريقيا. لم تبق مقولة هرتسل بمثابة مقولة مجردة. لقد تصرفت الحركة الصهيونية بموجب هذه المقولة منذ لحظاتها الأولى، وها هي دولة إسرائيل تواصل التصرف بموجبها حتى اليوم. هل يمكن لهذا الأمر أن يكون مختلفا؟ هل كان بإمكاننا أن "ننخرط في المنطقة"؟ هل كان بإمكاننا أن نكون أشبه بسويسرا حضارية، جزيرة مستقلة بين الشرق والغرب، تجسّر وتتوسط بين كلاهما؟ قبل شهر من نشوب حرب عام 1948، وقبل سبعة أشهر من إقامة الدولة، نشرت كراسة تحت عنوان "الحرب أو السلام في المجال السامي"، وافتتحتها بالكلمات: "حين قرر أجدادنا الصهيونيون إقامة "ملجأ آمن" في أرض إسرائيل، كان لديهم الخيار بين وسيلتين: كان بإمكانهم أن يتصدروا أسيا كمحتل أوروبي، يرى في نفسه رأس جسر للعرق "الأبيض" وسيد "أبناء البلاد"، مثل الكونكويستادوريين الإسبان والاستعماريين الأنجلو-سكسونيين في أمريكا. هذا ما فعلوه الصليبيون في حينه في أرض إسرائيل. الوسيلة الثانية كانت أن يروا في أنفسهم شعبا أسيويا يعود إلى وطنه – ويرى في نفسه وريث التقاليد السياسية والتربوية للمجال السامي..." لقد عرف تاريخ هذه البلاد عشرات الاجتياحات، ومن ذا الذي سيعدها. إنها تنقسم بالأساس إلى هذين النوعين. كانت هناك اجتياحات أتت من الغرب، مثل الفلسطنيين (في التوراة)، اليونانيين، الرومان، الصليبيين، نابليون والبريطانيين. مثل هذا الاجتياح يبني رأس جسر ونظرته كنظرة رأس جسر. المنطقة المقابلة هي بلاد معادية، سكانها أعداء يجب قمعهم أو إبادتهم. في نهاية الأمر، تم طرد كل هؤلاء المجتاحين. وبالمقابل، المجتاحين من الشرق، مثل الآموريين، الآشوريين، البابليين، الفرس والعرب. لقد احتلوا البلاد وحوّلوا جزءا منها، أثروا على ثقافتها وتأثروا بها، وفي نهاية الأمر ضربوا جذورهم فيها. كان الإسرائيليون القدامى ينتمون إلى النوع الثاني. إذا وافقنا أن الخروج من مصر لم يجر على النحو الذي تصفه التوراة، وكذلك احتلال كنعان لم يجر على النحو الموصوف في كتاب يشوع، فمن المرجح، على الرغم من ذلك، أنهم كانوا أسباطا جاءوا من الصحراء، اندسوا بين المدن الكنعانية المحصنة التي لم يتمكنوا من احتلالها (كما هو وارد في الفصل الاول من سفر القضاة) وضربوا جذورهم هنا. مقارنة بذلك، كان الصهيونيون ينتمون إلى النوع الأول. لقد أحضروا معهم نظرة رأس الجسر، القوة الطلائعية التابعة لأوروبا. نظرتهم هذه ولّدت الجدار كشعار وطني. يجدر تغييرها من جذورها. إحدى الظواهر التي تميزنا هي طريقة النقاش، التي يستخدم فيها كل الأطراف، من اليمين ومن اليسار، الادعاء الأبدي: "إذا لم نفعل كذا وكذا، فإن الدولة لن تبقى!" لا يمكن أن نتخيل مثل هذا الادعاء في فرنسا أو في بريطانيا أو في الولايات المتحدة. هذا تعبير عن قلق "صليبي". رغم أن الصليبين كانوا هنا لفترة 200 سنة تقريبا، وأقاموا ثمانية أجيال من "الصبّار"، إلا أنهم لم يثقوا ذات مرة بوجودهم هنا. أنا لست قلقا على وجود دولة إسرائيل. إنها ستبقى، طالما بقيت الدول. السؤال المطروح هو: أي دولة ستكون هذه؟ دولة منغمسة في حرب أبدية، تدب الرعب في قلوب جاراتها، دولة متسلطة في كل المجالات، دولت ينتعش فيها الأغنياء ويعيش الفقراء فيها في ضائقة، دولة يهرب منها خيرت شبابها؟ أم دولة تعيش بسلام ومشاركة مع جاراتها، لما فيه مصلحة الجميع، مجتمع معاصر يقدم مساواة في الحقوق لكل مواطنيه ويسمح بالمساواة بين كل عناصره، دولة تستثمر مواردها في العلم والثقافة والصناعة وجودة البيئة. دولة يرغب الأبناء والأحفاد في العيش فيها، دولة يفتخر مواطنوها بها وبكل ما يفعلونه. يجب أن يكون هذا هو هدفنا في السنوات الستين التالية. أعتقد أنه هذا ما كان يرغب به إيسر ايضا. |