اوري افنيري 

"يا بن الكلب" / أوري أفنيري


كلما أصبحت نهاية ولاية أبو مازن أقرب أصبح يتحدث بفظاظة أكثر.

فهو تحدث منذ وقت قصير عن دونالد ترامب قائلا: "يخرب بيتك". لا تعتبر هذه الأقوال عادية عند التحدث عن رئيس.

وتحدث أبو مازن مؤخرا عن السفير الأمريكي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، قائلا: "يا بن الكلب!" هذه العبارات قاسية أيضا.
من الصعب أن نقول إن فريدمان لا يستحق هذه العبارات. فهو يهودي يعتمر قلنسوة، متماه مع المستوطِنين المتطرفين في الأراضي المحتلة. من الأنسب أن يشغل منصب السفير الإسرائيلي في واشنطن بدلا من منصب السفير الأمريكي في القدس.

كما أن هذا المنصب إشكالي أيضا لأن فريدمان قال عن اليهود الليبراليين في أمريكا إنهم "أسوا من أعضاء الكاوبو" - (تعني كلمة كاوبو بالألمانية "شرطة المعسكر") وهم سجناء ساعدوا النازيين في معسكرات الإبادة.

فإن تعيين فاشستي يهودي أمريكي في منصب سفير أمريكا في إسرائيل يعتبر قمة الوقاحة. لا يمكن لهذا أن يحدث في دولة طبيعية. من المتبع في العالم عدم إرسال سفير إلى بلاد تربطه علاقة شخصية بها. ولكن ترامب لا يهمه. لا يهتم بإسرائيل ولا بالفلسطينيين.

إذا، ماذا يهمه؟ إنه يركّز جلّ اهتمامه على كسب الأصوات في الانتخابات الأمريكية. قد يحظى بأصوات أبناء الجالية اليهودية الأمريكية بعد إرسال سفير يهودي متديّن إلى إسرائيل. غالبا، يصوّت يهود أمريكا لصالح الحزب الديمقراطي المنافس. لماذا؟ لأن الديمقراطيين يمثلون جيل القادمين الجدد في أمريكا - الإيرلنديون الذين وصلوا إلى أمريكا قبل اليهود والآسيويين الذين قدموا إليها بعدهم.

ولكن رغم ذلك سيصوّت معظم يهود أمريكا للديمقراطيين، رغم أن فريدمان يعتمر قلنسوة. وأكثر من ذلك، هناك أصوات تتهم الزعماء اليهود في إهمال شؤون اليهود في الولايات المتحدة، مثل الحرب ضد السامية المحلية، لأنهم مشغولون بدعم إسرائيل فقط.

ولكن معظم داعمي ترامب هم من الإنجليين - المسيحيين المتدينين الكثيرين الذين يؤمنون بعقائدهم الخاصة. فهم يؤمنون أن المسيح سيعود إلى الكرة الأرضية بظروف معنية. الشرط الأول هو عودة اليهود إلى الأراضي المقدّسة. لا يوضح النيليون لليهود ما الذي سيحدث لاحقا: على كل اليهود أن يعتنقوا المسيحية، وألا ستتم إبادة من لا يفعل هذا.

يبدو شرطا غريبا؟ هكذا يؤمن الإنجليون. بما أن ترامب يحتاج إلى الملايين من هذه الأصوات، لأنه من دونها لم يكن قادرا على الفوز في الانتخابات، أصبح يعمل وفق آراء هذه المجموعة الجنونية.

لهذا يتجاهل الرئيس الأمريكي حقوق الشعب الفلسطيني وطموحه كليا. فهو يعتقد أن على الفلسطينيين أن يوافقوا على ما يقرره. ماذا يحدث الآن؟ ما زال برنامج السلام العبقري الخاص بترامب سريا. ولكن يكفي أن نعرف مَن يرأسه: صهر ترامب اليهودي، جاريد كوشنير.

لهذا ليس صدفة أن أبو مازن أصبح يائسا. فهو يعرف أن الفلسطينيين لن يحققوا شيئا في فترة ولايته.

لم يكن وضع الفلسطينيين أسوا منذ نشوء الشعب الفلسطيني المعاصر.

فقد بدأ الفلسطينيون يشعرون بأنهم شعب جديد ومنفصل في نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما سقط الحكم العثماني. كانت ألوان العلم الفلسطيني في تلك الفترة أسود - أبيض - أخضر - أحمر. حتى تلك الفترة كان يعتبر الفلسطينيون "سوريين جنوبيين". ولكن عندما سيطرت فرنسا على سوريا، وسيطرت بريطانيا على فلسطين، انقطعت هذه العلاقة.

منذ ذلك الحين، مر الفلسطينيون بظروف كثيرة ومنها الغزو الصهيوني، الثورة العربية الكبرى، قرار الأمم المتحدة، هجرة البريطانيّين، حرب 1948، النكبة، الحروب المختلفة، صعود ياسر عرفات إلى الحكم، واغتياله، وغيرها. ولكن لم يكن وضعهم في الماضي أسوأ من الآن.

صحيح أن كل الشعوب العربية والإسلامية ما زالت مخلصة للفلسطينيين. ولكن ليست هناك أية حكومة عربية أو إسلامية ليست مستعدة لبيع القضية الفلسطينية من أجل مصالحها. يدعم العالم الفلسطينيين، ولكن ليست هناك أية حكومة مستعدة للعمل من أجلهم. وأصبحت الآن الدولة العظمى في العالم تقف ضدهم علنا وبحزم.

وإذا لم يكن كل هذا كافيا، فهناك الانقسام بين منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في قطاع غزة. هذا الانقسام يثير الشك أن إسرائيل مسؤولة عنه.

يعيش بين الأردن والبحر نحو 13 مليون شخص، نصفهم من العرب والآخر من اليهود. هناك أفضلية صغيرة لدى العرب، وهي آخذة بالازدياد بفضل نسب الولادة المتزايدة. تثير هذه الحقيقة قلق الديموغرافيين الصهاينة. ولكن إذا فصلنا قطاع غزة عن البلاد، فسينخفض عدد الفلسطينيين بمليونين، وعندها يصبح الوضع أقل إثارة للقلق.

وهذا ما يحدث الآن. هناك اتفاق هادئ في إسرائيل يقضي بعدم "حسبان" سكان القطاع. لا يؤخذون بعين الاعتبار، ولكن يؤخذ سكان الضفة فقط. ويجب أن تصبح الضفة يهودية بطريقة معينة.

هناك أفضلية كبيرة لهذا الوضع البائس، فهو يثير حاجة للبحث عن أفكار جديدة.

هذا ما يحدث الآن لدى الفلسطينيين. بدأت تظهر حلول جديدة دون الانتظار لأن يحل زعيم جديد بدلا من أبو مازن.

أوضح لي ياسر عرفات ذات مرة لماذا شارك في اتفاق أوسلو قائلا جربنا كل الإمكانيات، ومنها الصراع المسلّح، الدبلوماسية، الحروب، ولكن فشل جميعها. لهذا قررت المشاركة في طريق جديدة من أجل السلام مع إسرائيل. (كانت دعوتي للقاء معه في بيروت أول علامة على ذلك).

من الواضح الآن أن اتفاق أوسلو قد فشل. قُتل إسحاق رابين. وأصبح يسيطر اليمين المتطرّف الذي يسلب الأراضي الفلسطينية على إسرائيل ويشجع استيطان اليهود فيها. يترأس إسرائيل يهودي يميني متطرف، يكره الفلسطينيين، ويهتم بضم الأراضي إلى إسرائيل. هذه الإمكانية ليست قائمة الآن. وصلت طريق أبو مازن وكذلك طريق جيل عرفات إلى طريق مسدود.

ونشأ الآن جيل جديد، أفكار جديدة، وبعد مرور عدة أسابيع من المتوقع أن تبدأ فترة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني (وتاريخ إسرائيل).

كانت هناك أصوات فلسطينية دائمًا تطالب بالصراع غير العنيف. ولكنها لم تجد آذانا صاغية لأنها غير معتبرة في التقاليد العربية. فصراعات العالَم العربي كانت عنيفة دائما تقريبا. لم يكن مهاتما غاندي، مارتن لوثر كينغ، ونيلسون مانديلا مسلمين.

يتبع الفلسطينيون الآن فكرة تقضي باتباع الصراع غير العنيف. ليس لأسباب أخلاقية بل لأسباب النجاعة.

سيفتتح الفلسطينيون قريبا معركة غير عنيفة. وهي تهدف إلى عودة اللاجئين. من المتوقع أن يصل مئات آلاف الفلسطينيين إلى حدود إسرائيل، في البداية إلى الحدود مع غزة، ثم إلى أماكن أخرى. لا يتوقع أن تجرى اشتباكات بينهم وبين الجيش الإسرائيلي، وأن يخترقوا الجدار، بل أن يقيموا خيما في الجانب الفلسطيني من السياج وأن يظلوا لفترة طويلة فيها.

هذه الطريقة ناجعة في العالم. عندها ستنتعش القضية الفلسطينية الخامدة فجأة، وسيصل صحافيون من كل العالم إلى هذه المخيمات لنقل التقارير. وعندها ستتصدر القضية العناوين الرئيسية. وستُقام في أوروبا مخيمات دعم. في المقابل، سيصعب على الأمراء والملوك في العالم العربي عدم إبداء دعمهم.

وماذا سيحدث لاحقا؟ لا يعرف أحد.

أعتقد أن هناك خلل جدي في هذا البرنامج: الهدف المُعلن.

لو ركزت المسيرة الاحتجاجية على السيادة الفلسطينية، كان العالم سيشجعها. هناك إجماع عالمي ضد الاحتلال الإسرائيلي ودعم للاستقلال الفلسطيني. وهناك من يدعم هذه الفكرة في إسرائيل أيضا. الخيار واضح بين "دولتين لشعبين" واستقلال وبين الاحتلال ودولة استعمارية قامعة.

لكن مشكلة اللاجئين تختلف تمامًا. ففي حرب 1948 طُرِد نحو 650 ألف فلسطيني من منازلهم. هرب جزء منهم في الحرب، وطُرد جزء آخر. لقد ازداد عدد هؤلاء اللاجئين ووصل إلى 6 ملايين.

يعيش جزء منهم في الضفة الغربية، وجزء آخر في قطاع غزة. وهناك من يعيش في الدول الجارة، في أنحاء العالم. بدأ جزء منهم حياة جديدة في الدول التي لاجئوا إليها، وبالمقابل ما زال جزء منهم لاجئا ويحظى بدعم المؤسسات الدولية. يشتاق جميعهم إلى منازل أجدادهم.

تعني عودة اللاجئين إلى إسرائيل نهاية دولة إسرائيل وطرد ملايين الإسرائيليين من منازلهم. يمكن للحرب أن تحقق هذا الحلم فقط.

هل هذه مشكلة غير قابلة للحل؟ أعتقد أن هناك حلا. قلت لزوجتي راحيل، طيبة الذكر، بعد لقاء مؤثر مع الفلسطينيين في أمريكا: "هل تعرفين ما هو انطباعي؟ يشعر هؤلاء الفلسطينيون بحاجة إلى العودة أخلاقيا أكثر من الحاجة فعليا. فهم يريدون أن تعترف إسرائيل بأعمالها وتعتذر".

عندما صغتُ برنامج سلام، اقترحتُ (أ) أن تقدم إسرائيل اعتذارها رسميًّا (ب) أن تعيد عددا رمزيا من اللاجئين و (ج) أن تدفع تعويضات لكل الآخرين.

ما هو عدد اللاجئين الذين يُسمح له بالعودة؟ ذُكر في الماضي أن عددهم هو 100 ألف. منذ ذلك الحين ازداد حجم إسرائيل. لهذا أعتقد أنه في وسعنا إعادة أكثر. في إطار السلام والتسوية، فإذا عاد نصف مليون وانضموا إلى مليون ونصف مليون مواطني عربي آخر، فلا بأس.

تحدثت عن هذا مع ياسر عرفات سابقا. شعرت أنه يوافق إلى حد معين، ولكنه يحافظ على قضية اللاجئين كورقة للمساومة. على أية حال، ليس هذا هو السبب الحقيقي لصنع السلام.

لماذا يجب العودة إلى 70 عاما إلى الوراء؟ في إطار حملة فلسطينية كبيرة، من الأفضل التركيز الآن على قضية أساسية: إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل.

إن الصراع غير العنيف هو فكرة ممتازة.

يذكرني هذا بأقوال أبا إيبان: "تصنع الشعوب والدول القرارات الصحيحة، بعد تجربة كل الإمكانيات الأخرى".