اوري افنيري 

اصرخي يا بلادي الحبيبة / أوري أفنيري


كل من يقترح فرض عقوبة الإعدام هو غبي تماما، حقير أو مضطرب نفسيا، أو أنه يعاني من كل هذه الصفات.

لا أعرف دواء ناجعا لهذه الصفات المرضية الثلاث، لهذا لن أجرب البحث عنها أيضًا.

لا يفهم الغبي النتائج المثبتة المترتبة على تنفيذ هذه العقوبة. فالحقير يعتقد أن عقوبة الموت هي وسيلة آمنة لكسب الأصوات. وفي المقابل، يتمتع من يعاني اضطرابا نفسيا بفكرة القتل.

لهذا لا أتوجه إلى أي منهم بل إلى المواطنين العاديين.

سأذكر قصتي الشخصية التي ذكرتها في هذا السياق.

في عام 1936، شن العرب مقاومة مسلحة. أدى الاضطهاد النازي إلى أن يهاجر الكثير من اليهود إلى أرض إسرائيل (وقدمت عائلتي أيضا). شعر العرب أن أراضيهم تُسلب منهم، فكان ردهم عنيفا. فهم سموا هذه الأحداث بـ "الثورة" الكبرى، بينما سماها الإنجليز "فوضى"، أما نحن فأسميناها بـ "الأحداث".

هاجم العرب سيارات اليهود والبريطانيين في الطرقات. عندما أمسِكَ بالمشاغبين قتل البريطانيّين جزءا منهم. عندما لم يتوقف العرب عن الهجمات، شن بعض الشبان اليهود معركة ردا على هذه الأعمال وأطلقوا النيران على سيارات العرب.

أمسِكَ بأحد هؤلاء الشبان، كان يُدعى شلومو بن يوسف، وهو قادم جديد من بولندا، غير قانوني، كان عمره 25 عاما، وعضوا في حركة "بيتار". لقد ألقى قنبلة على حافلة عربية، إلا أنها لم تنفجر. كما أطلق عدة طلقات إلا أن أحدا لم يُصب. ولكن رأى البريطانيون أن لديهم فرصة لإثبات أنهم يتعاملون مع كلا الجانبين بشكل متساو.

فحُكم على بن يوسف بالموت. عندها ثارت دهشة في البلدة اليهودية. حتى أن اليهود الذين عارضوا الأعمال اليهودية طلبوا الرحمة من أجل شلومو، وصلى الحاخامات أيضا. ولكن كلما اقترب موعد الإعدام، ازداد التوتر. أملَ الكثيرون بالعفو عنه في اللحظة الأخيرة، إلا أن ذلك لم يحدث.

حُكم على بن يوسف شنقا بالإعدام بتاريخ 29 حزيران 1938، فغمرت البلدة اليهودية موجة غضب. أثرت تلك الحادثة فيَّ أيضًا: قررت القيام بدور بن يوسف. فانضممت إلى منظمة "الإتسل" التي كانت حركة سرية متطرفة جدا. بالكاد كنت في سن 15 عاما تقريبا.

أكرر هذه الحادثة لأن العبّرة هامة جدا. يؤمن نظام حكم القمع، لا سيما الأجنبي، أن قتل "الإرهابيين" يدب الرعب في قلوب الآخرين، ويمنعهم من الانضمام إلى الثوار.

تنبع هذه الفكرة من استعلاء الحكام، الذين يؤمنون أن رعاياهم هم أقل مكانة منهم. ولكن تكون النتيجة النهائية عكسية تماما دائمًا: يصبح القتيل بطلا قوميا. ينضم عشرات الأشخاص إلى النزاع مقابل كل شخص يُحكم عليه بالإعدام. يثير الإعدام الكراهية، التي تؤدي بدورها إلى العنف. في حال عاقب نظام الحكم عائلة القتيل، فتكون ردود الفعل أعنف.

هذا منطق بسيط. ولكن المنطق البسيط لا يشكل مبدأ قويا لدى الحكم.

قصة أخرى: قبل نحو ألفي عام قُتِل شاب كان نجارا بسيطا في البلاد . فانظروا ما حدث.

هناك ساديون في كل جيش يتظاهرون بأنهم وطنيون.

عندما كنت جنديا، كتبت أن هناك في كل جيش جندي سادي واحد على الأقل وجندي محترم واحد. وبين كلا هذين الجندين هناك الجنود الذين لا يتمتعون بهاتين الصفتين. فهم يتأثرون بالشخصية الأقوى.

لقد حدثت حالة فظيعة في الأسبوع الماضي، وذلك بعد أن أعلن المهرّج الأمريكي الرئيسي أن القدس عاصمة لإسرائيل، فبدأت تُجرى تظاهرات يومية في الضفة الغربية وقطاع غزة. في الضفة الغربية، يقترب المتظاهرون من الجدار ويطلقون وابلا من الحجارة على جنود الجيش الإسرائيلي في الجانب الآخر. عندها يتلقى الجنود أمرا لإطلاق النيران. يتعرض الفلسطينيون لإصابات يوميا، وتسفر الاشتباكات عن جرحى وقتلى كل بضعة أيام.

شارك في المسيرات متظاهر، عمره 29 عاما، كان مبتور القدمين وصيادا، واسمه إبراهيم أبو ثورية. بُتِرت كلا قدميه قبل تسع سنوات بعد إصابته بقنبلة إسرائيلية في غزة.

دفع أصدقاؤه كرسيه المتحرك نحو منطقة مفتوحة، فوجه قناص بندقيته تجاهه وأطلق النار صوبه فأرداه قتيلا. لم يكن إبراهيم مسلحا، لكنه "حرض" فقط.

لم يكن الجندي الذي قتله جندي برتبة عادية، بل كان خبيرا، قناصا مؤهلا، اختار أن يلحق ضررا بالضحية في مكان مُحدد من جسمه.

أفكر بما خطر في بال ذلك القناص القاتل قبل إطلاق النيران. كانت الضحية قريبة من القناص. لم تكن هناك أية إمكانية ألا يرى القناص أبو ثورية الذي كان يستخدم مقعدا متحركا. لم يشكل الأخير أي خطر على مطلق النار ولا على أي شخص آخر.

(دارت نكتة إسرائيلية وحشية: تلقى القناصون أمرا لإطلاق النيران على الجزء السفلي من أجسام المُتظاهرين. ولكن كان أبو ثورية مبتور القدمين، فلم يكن أي خيار أمام القناص فأطلق النيران على رأسه).

كانت تلك العملية بشعة تماما. إذا، هل حكم الجيش الإسرائيلي على المجرم؟ لم يحدث ذلك إطلاقا. ابتكر الجيش حجة يوما بعد يوم، كان كل منها مثيرا للسخرية أكثر من غيرها. ما زال اسم مطلق النيران سريا.

يا إلهي، ما الذي يحصل في هذه الدولة؟ ما الذي تسبب لنا به الاحتلال؟

من المعروف طبعا أن إبراهيم أصبح بين ليلى وضحاها بطلا قوميا فلسطينيا. سيحث موته الفلسطينيين الآخرين على الانضمام إلى النزاع.

هل ليس هناك أمل؟

لا شك أن الأمل قائم.

بعد مقتل إبراهيم أبو ثورية بعدة أيام تم التعامل مع مقطع فيديو كان مضحكا تقريبا.

وقف في قرية النبي صالح في الضفة الغربية جنديان مسلحان وضابط. اقتربت مجموعة مؤلفة من ثلاث أو أربع فتيات محليات أعمارهن 15 أو 16 عاما من هؤلاء الجنود. عندها صرخت الفتيات على الجنود وأشرن إليهم بحركات مهينة. عندها تظاهر الجنود وكأنهم لا يولون اهتماما لذلك.

لهذا اقتربت إحدى الفتيات، تدعى عهد التميمي، من أحد الجنود وضربته. إلا أن الجندي لم يرد على ذلك.

لهذا دنت الفتاة منه أكثر فأكثر وصفعته على خده. فوضع الجندي يداه على وجهه. فوثقت شابة أخرى تلك الحادثة بهاتفها الخلوي.

عندها حدث أمر لا يُصدق. توجه الجنديان إلى الخلف وغادرا المكان.

(بعد ذلك كُشف عن الحقيقة واتضح أن قبل بضعة أيام قُتل قريب عائلة الشابة).

ذُهل الجيش الإسرائيلي لأن الجنديين لم يطلقا النيران على الشابة. وتعهد بإجراء تحقيق. فاعتُقلت الشابة في ساعات الليل. من المتوقع أن يتعرض الجنديين اللذين لم يعربا عن ردهما للإهانة.

أعتقد أن الجنديين هما بطلان حقيقيان. كم مؤسف أنهما الوحيدان.

يحق لكل إنسان أن يفتخر بدولته. أعتقد أنه هذا هو حق أساسي، وحاجة إنسانية.

ولكن كيف يمكن التفاخر بدولة تتاجر بالجثث؟

وفق الديانة الإسلامية يجب دفن الجثمان في أسرع وقت ممكن. تعرف الحكومة الإسرائيلية هذه الحقيقة، لهذا ما زالت تحتجز عشرات جثث "الإرهابيين"، وهدفها هو تبديل هذه الجثث بجثث اليهود.

هل هذا منطقيّ؟ طبعا. مثيرة للاشمئزاز؟ طبعا.

هذه ليست الدولة التي بذلت كل جهودي لإقامتها وحاربت من أجلها. كانت دولتي ستعيد الجثث للعائلات، حتى وإن تطلبت تلك الخطوة التنازل عن أوراق المساومة الأهم. هل لا تشكل وفاة فرد من أفراد العائلة عقابا كافيا؟

ما الذي طرأ على المنطق البشري الأساسي لدينا؟