|
||
ألقى رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، خطابا حادا استثنائيا بينما كان يجلس إلى جانب رئيس الكنيست. هاجم فيه الائتلاف برئاسة الليكود متهما أعضاءه بالسعي وراء سلطة القانون، الادعاء العام، والشرطة. ريفلين ليس يساريا، بل على العكس. إنه ينتمي إلى اليمين القومي. أيديولوجيته هي أرض إسرائيل الكبرى. وبالإضافة إلى ذلك، هو عضو في الليكود. من أجل التعرّف إليه أكثر، يجب أن نعود إلى زئيف جابوتنسكي، الذي أسس في عشرينيات القرن الماضي الحزب التصحيحي، وهو الحركة الأم لليمين الصهيوني. وُلد جابوتنسكي وتعلم في مدينة أوديسا تحت حكم القيصر، ولكنه تعلم في إيطاليا، عندما كانت حركة الإحياء الإيطالية (الـ "ريسورجيمنتو" الشهيرة) لا تزال جديدة في الوعي. تبنت هذه الحركة مزيجا استثنائيا من القومية والليبرالية المتطرفتين. ذوّت جابوتنسكي هذه القيم. رغم أنّ صور جابوتنسكي تُعلّق في كل مكاتب الليكود، إلا أن هذا الحزب نسيَ تعاليمه منذ زمن. ما زال يتذكره القدامى فقط مثل الرئيس ريفلين ابن الثامنة والسبعين. ينتمي ريفلين إلى المجموعة الصغيرة المؤلفة من أحفاد "تلاميذ المتنسكون"، الذين قدِموا إلى البلاد في القرن الثامن عشر، قبل ولادة الحركة الصهيونية بكثير. كان والده خبيرا بالثقافة العربية. ريفلين هو أحد ألطف الزعماء الذين أعرفهم. فيحبه الجميع، فيما عدا بنيامين نتنياهو، الذي - بحسّ تنبّؤي نادر - حاول منع اختياره رئيسا. أنصت نتنياهو إلى خطاب ريفلين بدهشة. ثم ألقى خطابه، الذي أعده قبل الجلسة بكثير، ولكن بدا كما لو أن ريفلين سمعه في السابق، قبل أن يعدّ خطابه. هاجم رئيس الحكومة المحكمة العليا، المستشار القضائي للحكومة، المفتّش العامّ للشرطة، الإعلام واليسار الخائن، كما لو كان كل هؤلاء يلتقون سرا ويخططون معا لاغتياله. كان ذلك الخطاب غريبا جدا، لأنّ نتنياهو هو الذي اختار المستشار القضائي ومفتش الشرطة أيضا. بحسب كلامه، تآمر كل هؤلاء من أجل طرده من السلطة من خلال انقلاب غير ديمقراطي، وتحقيقات شرطية ودعاوى جنائية. تشكل التسريبات المتكررة من التحقيقات، التي تُنشر بشكل واسع في الإعلام، بحسب كلام نتنياهو جزءا من السياق التآمري. وحقا، عرف الجمهور معلومات كثيرة حول التحقيقات، جزء منها بسبب الهدايا الباهظة التي حصل عليها نتنياهو من ثري جدا، رغم أن نتنياهو نفسه غني جدا أيضا. تضمنت الهدايا سيجارا باهظا، لذلك سُمي تحقيق الرشوة هذا "قضية السيجار". قدّم هؤلاء الأثرياء وأصدقاؤهم هدايا باهظة أيضًا لسارة، زوجة نتنياهو غير المحبوبة بشكل خاص. تضمنت الهدايا مشروبات مثل زجاجات الشامبانيا الوردية، لهذا سُمي التحقيق "قضية الشامبانيا الوردية". ولكن كل هذه القضايا كانت بسيطة مقارنة بالسحابة السوداء، التي تخيّم فوق رأس نتنياهو. إنها "قضية الغواصات"، المرتبطة بشراء غواصات وسفن أخرى من حوض بناء سفن ألماني. من المعروف عن مزوّدي الأسلحة الألمان أنهم يدفعون غالبا مبالغ هائلة كرشوة لرؤساء الدول الضعيفة، لهذا لم يندهش أحد عندما شاعت شكوك حول دفع عشرات ملايين اليوروهات للسياسيين، الجنرالات، والوسطاء الإسرائيليين. ولكن متى قُبِض على هذه الملايين؟ هل تم الإمساك بها قبل أن تصل إلى القمة؟. صدى ردود فعل نتنياهو أعلى من صدى الشكوك ذاتها. فقد حلت ردود الفعل هذه محل الانشغال القهري لنتنياهو بالقنبلة الإيرانية، بحزب الله الرهيب، وحتى باليسار الإسرائيلي الخائن. أصبحت ردود الفعل هذه شغل نتنياهو الوحيد تقريبا. لدحض علاقته بالموضوع، وجد نتنياهو ومساعدوه حلا بسيطا: تبني "القانون الفرنسي". أصبح هذا الهدف أساسيا لدى الحكومة والليكود، وبات يتفوق على أية قضية أخرى. يقضي هذا القانون بعدم إجراء تحقيق في الشرطة أو تقديم دعوى جنائية ضد "رئيس الحكومة الحالي". للوهلة الأولى، من جهة، يبدو أن هناك منطق معيّن. ولكن على رئيس الحكومة أن يدير أمور الدولة، يخطط للحرب القادمة (هناك الحرب القادمة دائمًا)، ودفع الاقتصاد قدما – لهذا ستضرر كل هذه الأهداف في حال كان رئيس الحكومة مشغولا بدعاوى جنائية. ولكن من جهة أخرى، يشير ذلك القانون إلى أنه قد يترأس الدولة مجرم، وإلى أن رئيس الحكومة - فقط - يكون محميا من الخضوع للتحقيق الجنائي. ولكن وفق القانون المقترح ستؤجل التحقيقات فقط حتى يصبح رئيس الحكومة مواطنا عاديا منتهية ولايته. إلا أن هذه هي الولاية الرابعة لنتنياهو، ووفق كل التقديرات سيتولى الولاية الخامسة، السادسة، والسابعة، في حال أطال الله بعمره. لا يتمتع أي زعيم في العالم الديمقراطي بحقوق شبيهة سوى الرئيس الفرنسي. لذا يُدعى القانون المقترح "قانونا فرنسيا". ولكن هناك فارق هائل. ففي فرنسا يتمتع الرئيس بحصانة وحده ولا يتمتع بها رئيس الحكومة. وبشكل أساسي، تقتصر فترة ولاية الرئيس الفرنسي على عامين، لهذا لا يدوم التأجيل طويلا. في هذه الأثناء، ترتكز كل الجهود الحكومية الإسرائيلية لتحويل هذه الدعوى القضائية إلى قانون الدولة. يخشى بعض أعضاء ائتلاف الليكود من هذا الاقتراح. يتكوّن هذا الائتلاف من أحزاب كثيرة، أعتقد أن هناك ستة أحزاب ولكني لست متأكدا، وإذا عارض أي منها فلن يمر هذا القانون. أعلن حزبان من هذه الأحزاب حتى الآن أنهما يمنحان "حرية العمل" لزملائهم في الكنيست. أصبح زعيم الائتلاف غاضبا جدا. وهو يهدد أنه سيفكك الحكومة ويعلن عن إجراء انتخابات جديدة - تهديد خطير، لأن كل الأحزاب المشاركة قد تسقط في الانتخابات. ليس هناك مَن يعارض في الليكود، ولا أي ثوري جريء. (حتى أنه في الولايات المتحدة قام سيناتوران وتمردا ضد الرئيس دونالد ترامب). ولكن أعلن الرئيس ريفلين أن القانون المقترح مرفوض، وأقر المستشار القضائي للحكومة أن هذا القانون "باطل" أيضا. إذا، على أية نقطة أتفق مع نتنياهو؟ على نقطة واحدة: يدعي نتنياهو أن اليسار هو "آلة إحباط" تُنتج في المجتمع أجواء "غريبة وحزينة". لهذا شبّه نتنياهو هذه الأجواء بالخيار المخلل الذي يصبح غريب الطعم بعد تصنيعه مقارنة بحالته الطبيعية. يدعي نتنياهو أن اليسار مسؤول عن الأجواء "الغريبة" في المجتمع التي تهدف لإسقاطه. ربما سيتذكر بعض القراء أنني طرحت أمام اليسار الادعاء ذاته ولكن من وجهة نظر عكسية تماما. أعربت عن أن في الأجزاء الكبيرة من معسكر السلام الإسرائيلي تسود أجواء غريبة، من اليأس، والكآبة. تؤدي هذه الأجواء إلى الاستنتاج أننا لسنا قادرين على القيام بأية خطوة لإنقاذ الدولة، في حين أن نتنياهو ومساعديه يحركونها في طريق الضياع. وأوضحت أن هذه الأجواء مريحة، لأن ليس هناك أمل ولا فائدة من الصراع، لهذا نحن معفيون من مواصلة النضال. إذا كان سيذهب كل جهد سدى، فلا داعي للمحاولة، ولا داعي لخوض تجربة فاشلة منذ البداية. هناك مَن يستنتج أنه يجب إدارة النضال في مكان آخر، بعيدا عن إسرائيل، مثل حركة المقاطعة النشطة في أنحاء العالم. فهي تشجع على مقاطعة كل المُنتجات الإسرائيلية. في الأيام الماضية، شهد هذا النزاع حالة غير مسبوقة، بعد أن حدد رئيس مدينة أمريكية، تضررت من الإعمار الاستوائي أن المواطنين لن يحصلوا على تعويضات إلا في حال وقّعوا على التزامهم بعدم مقاطعة إسرائيل. يتضح أن الولايات المتحدة هي بلاد الجنون التي لا حدود لها. (بالمناسبة، كشفت صحيفة "هآرتس" هذا الأسبوع أن الحكومة الإسرائيلية استأجرت سرا مكتبا كبيرا للمحامين في الولايات المتحدة، لمحاربة حركة المقاطعة سرا). لا تنجح الأجواء الكئيبة في تجنيد المقاتلين، بل يمكن تجنيدهم عندما تسود أجواء السعادة. حتى عندما يكون الوضع سيئا، ومتشائما، فإن المقاتلين السعداء قادرين على إنجاز العجائب. لا داعي لليأس. لا يصنع الخالق التاريخ، بل نحن الذين نصنعه. عندما يجري الحديث عن الرئيس الفرنسي: من المهم أن نتذكر أن إيمانويل ماكرون، ظهر فجأة وأقام حزبا جديدا تماما، ونجح منذ الجهود الأولى في تحقيق أكثرية في البرلمان. إذا كان الفرنسيون قادرين، فنحن قادرون أيضا! اليأس والإحباط هما حالتان لا يمكن أن نسمح بحدوثهما. علينا العودة إلى النضال بينما نؤمن أن هناك أملا ونتمتع بثقة ذاتية كبيرة. كما قال أوباما: نعم، نحن قادرون! تحدثنا عن زئيف جابوتنسكي. لقد كتب قصة رومانسية عن شمشون الجبار، الذي هدم المعبد على نفسه وعلى الفلسطينيين. ترك جابوتنسكي وصية لشعبه تضمنت ثلاثة بنود: وضع ملك لهم، جمع الحديد، والضحك! |