|
||
طيلت سنوات أحببت الصليبيين. بدأ هذا العشق في حرب 1948، عندما سنحت لي الفرصة قراءة كتاب عنهم. اكتشفت أنّهم تحصّنوا في المواقع ذاتها التي تحصّنا فيها مقابل قطاع غزة. كان الصليبيون بحاجة إلى عشرات السنين لاحتلال القطاع، الذي كان يمتدّ حينذاك حتى أشكلون. يسيطر عليه الآن المسلمون. بعد الحرب قرأت كل كتاب عن الصليبيين نجحت في الحصول عليه. كلّما أكثرت من قراءة الكتب عنهم، أعجِبت بهم أكثر. في النهاية فعلت خطوة وحيدة: كتبت رسالة إلى مؤلف الكتاب الأكثر موثوقية عن الصليبيين: المؤرخ البريطاني ستيفن رانسيمان. وبشكل مفاجئ حصلت على ردّ خطي من ستيفن فورا. دعاني فيه إلى زيارته في منزله، إذا سنحت لي الفرصة يوما بزيارة لندن. وتسنت لي فرصة زيارتها بعد أسابيع قليلة وهاتفته. فدعاني لزيارته فورا. ملحوظة شخصية: تقريبا ككل من قاتل البريطانيين في البلاد، أنا أيضا أحبّ الإنجليز. كان سهلا أن أحبّ رانسيمان، نبيل بريطاني مع كل الغرابة. تحدّثنا لساعات واستمرت المحادثة طويلا أثناء زيارة زوجتي وزيارتي له في حصن اسكتلندي قديم على الحدود الإنجليزية. أسر رانسيمان قلب زوجتي راحيل، التي كانت تحب الإنجليز أكثر مني تقريبا. تحّدّثنا عن أحد الأسئلة الأولى التي عرضتها أمامه في لقائنا الأول: "عندما كتبت كتابك، هل خطر في بالك أنّ هناك تشابه بين الصليبيين والصهاينة في أيامنا؟". "ليس أن ذلك حدث فحسب"، أجاب، "بل لم أفكّر في أي شيء آخر تقريبًا. أردت أن أعطي الكتاب عنوانا فرعيا: "دليل للصهاينة حول ماذا عليهم ألا يفعلوا". ضحك قليلا وأضاف: "لكن أصدقائي اليهود نصحوني بتجنّب هذا". وبالفعل، يُحظر في إسرائيل ذكر الحملات الصليبية. لدينا بعض الخبراء، ولكنهم بشكل عام يتجنّبون الحديث عن هذا الموضوع. لا أذكر أنني سمعت يوما عن الصليبيين في السنوات القليلة التي قضيتها في المدرسة. هذا ليس مفاجئا كما يبدو. يركّز التاريخ اليهودي على الشعب، وليس على البلاد. إنه يبدأ بإبراهيم أبينا الأسطوري وبمحادثاته الحميمية مع الله، ويستمرّ حتى قمع ثورة باركوخفا عام 136 للميلاد. من هذه النقطة فصاعدا يتجاهل تاريخنا أرض إسرائيل ويركز على مختلف الأماكن في العالم، ويهتم بالأحداث التي تتعلق باليهود، وبشكل خاص بالاضطهاد والمذابح. واستمر هذا الوضع حتى عام 1882، عندما قدم البيلوييم إلى البلاد، التي كانت تسيطر عليها آنذاك الإمبراطورية العثمانية. بين هذين التاريخين كانت البلاد فارغة، لم يحدث فيها شيء. هكذا يتعلم تلاميذ إسرائيل اليوم أيضًا. في الواقع حدثت في البلاد أمور كثيرة خلال الـ 1746 عاما هذه، أكثر ممّا حدث في معظم بلدان العالم. بدّلت الإمبراطوريات الرومانية، البيزنطية، العربية، المملوكية، العثمانية، والبريطانية بعضها البعض. كانت ممالك الصليبيين جزءا مهمّا بحدّ ذاته. عندما يعرف معظم الإسرائيليين أنّ الصليبيين أقاموا في البلاد طيلة 200 عام على الأقل - أكثر بكثير من الاستيطان الصهيوني حتى الآن سيندهشون. لم تكن تلك بالطبع تلك الفترة مرحلة قصيرة وعابرة. يستقطب التشابه بين الصليبيين والصهاينة الاهتمام منذ اللحظة الأولى. نقلت هاتان المجموعتان عددا كبيرا من البشر من أوروبا إلى البلاد المقدّسة. (في السنوات الأولى من الفترة الصهيونية قدم إلى البلاد أوروبيون فقط تقريبا). ولأنّ كلا الحركتين قدمَتا من أوروبا، فقد اعتبر السكان المحليّون الصليبيين والصهاينة غزاة غربيين. لم يحظ الصليبيون والصهاينة بيوم واحد من السلام أثناء وجودهم في الأراضي المقدسة. بلور الشعور المستمرّ من الخطر العسكري تاريخهما، ثقافتهما، وطبيعتهما. في عصر الصليبيين كانت هناك فترات قصيرة من الهدنة، لا سيما مع دمشق. لدينا اليوم اتفاقيات سلام مع مصر والأردن. ولكن بغياب كل شعور متبادل من السلام أو الصداقة مع أبناء تلك البلدان، فإنّ الاتفاقيات معها أشبه بالهدنة. في ذلك الحين كما هو الآن، تمتّع الصليبيون بحقيقة أنّ العرب لم يكونوا قادرين على التوحّد ودار صراع بينهم طوال الوقت. حتى قدم صلاح الدين الأيوبي، الذي كان كردي الأصل، ووحّد العرب وهزم الصليبيين في معركة حطّين الكبيرة قرب طبريا. بعد هذه الهزيمة التاريخية تمركز الصليبيون من جديد في جزء من البلاد وأقاموا هنا حتى أربعة أجيال. اعتبر الصليبيون والصهاينة أنفسهم جسرا للغرب في منطقة غريبة ومعادية. قدم الصليبيون، بطبيعة الحال، كجيش غربي لاحتلال البلدان المقدّسة. كتب بنيامين زئيف هرتسل في كتابه "دولة اليهود" سنخدم في فلسطين كسلاح طليعة للحضارة (الأوروبية) ضدّ البربرية (الإسلامية). ما زال جبل الهيكل، الذي كان مقدّسا أيضا لدى الصليبيين، يشكّل في أيامنا أيضا مركزا للصراع اليومي. في الأسبوع الماضي سُمح لعضوي كنيست متديّنَين يمينيَين متطرّفين بالدخول إليه. لحسن الحظة، لم يؤدّ ذلك هذه المرة إلى أعمال شغب، كما في الماضي. في الأسبوع ذاته، اتّهمت وزيرة العدل الإسرائيلية ("شيطان متنكّرا بثياب امرأة جميلة") المحكمة العليا بأنها تأخذ بالحسبان حقوق الإنسان أكثر من "قيم الصهيونية" (أيا كانت). تعمل شاكيد على مشروع قانون يعزز "قيم الصهيونية" أكثر من "قيم الديمقراطية". الصهيونية أولا. إن التشابه بين الصليبيين والصهاينة بارز جدّا في كلّ ما يتعلّق بموضوع السلام. لم يستطع الصليبيون، بطبيعة الحال، التفكير في السلام. كان يهدف المشروع الصليبي إلى تحرير القدس والأرض المقدّسة كلّها من أيدي العدو الأبدي، المسلمين. لهذا منع ذلك مسبقا كل إمكانية لصنع السلام مع أعداء الله. يتحدّث الصهاينة باستمرار عن السلام. لا يمر أسبوع دون أن يذكر فيه بنيامين نتنياهو عن حنينه القوي للسلام. ولكن من الواضح تماما أنّه ليس حلم لإعادة ولو سنتيمتر واحد من الأرض من غربي الأردن. فقد صرّح نتنياهو مؤخرا أنّه لا ينوي أن تكون أية مستوطنة ثابتة في الضفة الغربية. وفقا للقانون الدولي، كل المستوطنات غير قانونية. من المفهوم أنّ هناك فروق هائلة بين الحركتين التاريخيّتين، مثل الفروق بين القرن الحادي عشر والقرن الحادي والعشرين. هل يمكن أن يتخيّل أحد فرسان الهيكل وهم يمسكون قنبلة نووية؟ صلاح الدين وهو يركب دبابة؟ الفرسان الهوسبيتاليون وهم ينتقلون من فرنسا إلى يافا؟ لم تولد بعد فكرة الأوروبية لـ "القومية" في عهد الصليبيين. كان الفرسان فرنسيين، إنجليز وألمان، ولكن أهم شيء أنهم كانوا مسيحيين. ولكن نشأت اليهودية بسبب الرغبة في تحويل يهود العالم إلى "شعب ككل الشعوب"، بالمفهوم الحديث للمصطلح. من كان هؤلاء اليهود حينذاك؟ في أوروبا في القرن التاسع عشر، التي كانت وطن القوميات الجديدة، كان اليهود مشهدا استثنائيا فيه، لذلك كانوا مكروهين ومثيرين للقلق. في الواقع كانوا آخر من تبقى من عهد الإمبراطورية البيزنطية، التي كان سكانها مقسّمين لطوائف، كان ينتمي كل منها إلى ديانة معينة. كانت هذه الطوائف مستقلّة، وخاضعة، أيضا من الناحية القانونية، لزعمائها الدينيين. كان باستطاعة الرجل اليهودي في الإسكندرية أن يتزوّج شابة يهودية من أنطاكيا في سوريا، ولكن لم يكن قادرا على الزواج من جارته المسيحية في المنزل المقابل. كان في وسع امرأة كاثوليكية من دمشق أن تتزوج رجلا كاثوليكيا من القسطنطينية، ولكن ليس الرجل الأرثوذكسي اليوناني من الشارع الآخر. ما زال هذا المبنى القانوني متبعا في بلدان معينة، ومن بينها - لا تخمّنوا! - إسرائيل. ولكن حتى لو أخذنا بالحسبان كل الفوارق في الفترة، فإن المقارنة بين الحركتين ما زالت مهمّة. إنّها توفّر مصدرا هاما للتفكير - لا سيما عندما نجلس على الشاطئ في قيسارية، أمام سور المدينة الصليبية، الذي يبعد كيلومترات قليلة من ميناء عتليت، الذي ألقيَ فيه آخر الصليبيين إلى البحر، حرفيّا. هكذا وصل عهد الصليبيين في البلاد إلى نهايته، قبل 726 عاما. وأنا أسمح لنفسي بإعادة صياغة مقولة رانسيمان: آمل أن نتعلّم في الوقت المناسب كيف لا نكون مثلهم. |