اوري افنيري 

مسيرة الحماقة


قال صديقي الراحل، ناتان يلين-مور، الذي كان قائدا سياسيا لتنظيم ليحي، ذات مرة عن شخص إنّه "ذكي وأحمق إلى في الوقت ذاته".

أتذكر هذه الجملة في كل مرة أفكر في جلعاد أردان، "وزير الأمن الداخلي". عزز تدخله في أحداث الأسابيع الأخيرة التي اشعلت المنطقة كلها تقريبا بالنيران، هذا التشخيص الملائم له.

وبالمقابل، ذكرني بنيامين نتنياهو، سؤال آخر: "مَن هو البارع؟ هو كل مَن قادر على الخروج من فخ لا يدخله إنسان ذكي أصلا".

ويمكن أن أقول إن نتنياهو: "بارع كبير وذكي صغير أيضا".

وهناك خياران للنظر إلى الكوارث التاريخية. يعتبرها الخيار الأول سلسلة من المؤامرات المظلمة، وأما الخيار الثاني فيعتبرها سلسلة من الأفعال الحمقاء.

ومن السهل أن نفهم تفسير الخيار الأول. فمن غير المعقول أن يكون مصير الملايين في أيدي الجهال. هذه فكرية رهيبة.

ومن المريح أكثر أن نظن أنّ مصيرنا مرهون بأيدي الأشرار الذين يعرفون ماذا يفعلون تماما، وليس بأيدي مجموعة من الأغبياء الذين لا يعرفون شيئا.

مثلا، من المريح الاعتقاد أنّ بنيامين نتنياهو قد أمر الحارس زيف في السفارة في عمان أمرا سريا لإطلاق النار حتى الموت على أردنيين، ليستطيع نتنياهو التفاوض مع الملك عبد الله على إطلاق سراحه، وهكذا يوافق على إزالة أجهزة الكشف عن المعادن. هذه خطة عبقرية تماما.

والنسخة الأخرى هي أكثر هذيانا. وتشير إلى أن كل المتحكّمين بمصير الشعوب والدول - الأباطرة والملوك، السياسيين والجنرالات، السياسيين من اليمين واليسار - أغبياء تقريبا. هذه فكرة مخيفة. ولكن هكذا كان الحال في الماضي والحاضر أيضًا. في كل العالم، وفي إسرائيل تحديدا.

وقال أحد أصدقائي هذا الأسبوع: "لا نحتاج لوضع كاميرات في الحرم القدسي الشريف. ولكن علينا وضعها حول طاولة الحكومة، في المكان الذي يتربّص فيه الخطر الحقيقي المهدد لأمن الدولة".

بعون الله.

وابتكرت باربارا توخمان، المؤرخة اليهودية الأمريكية الذكية، مصطلح "مسيرة الحماقة". لقد درست عدة كوارث تاريخية، وأظهرت أنّه غالبا تسبب بها قادة أغبياء.

مثال فظيع على ذلك: الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن ملايين الضحايا واندلعت في أعقاب سلسلة من الأفعال الحمقاء غير المعقولة:

وقتل متعصب صربي دوقا نمساويا. وقد التقى بالدوق صدفة، بعد أن فشل في المحاولة الأولى. اعتبر الإمبراطور النمساوي ذلك فرصة ليثبت عزمه، فقدم إنذارا لصربيا. لهذا جنّد القيصر الروسي جيشه من أجل مساعدة الصرب. كان البرنامج الثابت لرئيس الأركان الألماني يقضي أنه إذا بدأت روسيا بتجنيد جيشها المرهق، فعلى الجيش الألماني أن يغزو فرنسا فورا ويهزمها قبل أن يتمكن الروس من تجنيد جيشهم. أعلنت الحكومة البريطانية الحرب من أجل مساعدة الفرنسيين.

ولم يرغب أحد في خوض حرب عالمية. ساهم عدد قليل من الأشخاص في اندلاعها بسبب غبائهم. وأسفرت أفعالهم عن ملايين القتلى، الجرحى، والمعاقين. في النهاية تقرر بأنّ الإمبراطور الألماني، وهو أيضا غبي جدا ومسؤول عن كل شيء.

وكانت ستكتب المؤرخة، توخمان بسعادة كتابا عن القضية الأخيرة في الحرم القدسي الشريف.

قتل ثلاثة متعصّبين فلسطينيين في المسجد الأقصى شرطيَين درزيَين يعملان في حرس الحدود. (من غير الواضح من "تقاتل" قوات حرسُ الحدود، والتي لم تواجه يوما جيشا عدوا، ويرتكز عملها ضدّ المدنيين المحتلّين).

وطرح أحد أفراد الشرطة الفكرة العبقرية لوضع أجهزة الكشف عن المعادن في المسجد الأقصى منعا لهذه العمليات الإرهابية.

ويكفي التفكير قليلا للتأكد أن الفكرة غبيّة. ففي الأيام العادية يزور الحرم القدسي الشريف مئات آلاف المؤمنين. يشبه عبورهم عبر أجهزة كشف المعادن عبور فيل داخل ثقب إبره.

وكان أسهل ما يمكن القيام به هو مهاتفة أعضاء الوقف الإسلامي المسؤولين عن إدارة المسجد الأقصى والتحدث معهم. كان أولئك الأعضاء سيلغون الفكرة، ويستدعون ملك الأردن، عبد الله الثاني، عند الحاجة ليضع حدّا لهذا الهراء.

ولكن باشر إلى هذه الفكرة جلعاد أردان، الذي أدرك فورا أنها فرصة كبيرة للتباهي. يبلغ أردان ستة وأربعين عاما ووالداه شكنازيّان. تعلم في مدرسة دينية، ولم يخدم أثناء خدمته العسكرية في وحدة قتالية، بل في الشؤون الإدارية. هذه سيرة مهنية نموذجية لسياسي يميني.

وتصرف أردان مثل طفل صغير يلعب بأعواد الثقاب قرب برميل من البنزين. ثُبِتت أجهزة الكشف عن المعادن في المسجد الأقصى دون استشارة أعضاء دائرة الأوقاف الإسلامية والملك الأردني. وفي اللحظة الأخيرة أخبر أردان رئيس الحكومة الذي كان على وشك السفر إلى خارج البلاد بالفكرة اللامعة.

وهناك طموحات كثيرة ومكلفة لدى نتنياهو، وأهمها لالتقاء بزعماء العالم، كي يبدو جزءا منهم. كان نتنياهو على وشك الالتقاء مع الرئيس الفرنسي الجديد، ثم مع رؤساء دول أوروبا الشرقية، الديمقراطيين والفاشيين.

ولم يكن نتنياهو معنيا بالانشغال بهراء أردان في الوقت الذي سيلتقي فيه بعمالقة العالم. لهذا وافق على نصب أجهزة الكشف عن المعادن عن غير وعي.

وليس واضحا في أية مرحلة سُئل الشاباك عن الفكرة. ومن المعروف أنه الهيئة المطلعة على الواقع العربي، وقد حذّر هو وشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي من هذه الخطوة، ولكن لم تلق تحذيراتهم اهتماما حول فكرة أردان المتدين والأحمق.

وبعد نصب أجهزة الكشف عن المعادن ثارت عاصفة. في نظر المسلمين، بدت تلك المحاولة وكأنها بمبادرة إسرائيلية تهدف إلى تغيير الوضع الراهن والسيطرة على المسجد الأقصى. لهذا سادت حالة من الفوضى.

واتضح أن القرار كان أحمقا فورا. وتأججت الأحداث. لم يجتز المصلّون المسلمون مسار أجهزة الكشف. وأختاروا تأدية الصلاة في الشوارع والميادين.

وقد ظهرت أبعاد الغباء فورا أيضا. أظهر المسلمون، الإسرائيليون أو المحتلون فجأة أنهم شعب عازم، ومستعد للقتال. كان ذلك نجاحا كبيرا لجلعاد أردان. كل الاحترام.

ولم تكشف أجهزة الكشف عن أسلحة. ولكنها كشفت عن مدى غباء الحكومة الإسرائيلية. اندلعت الاحتجاجات الكثيرة في القدس، في البلدات العربية في إسرائيل، في الأراضي المحتلة، وفي الدول المجاورة. وفي نهاية الأسبوع الأول قُتل سبعة وأصيب المئات. لذلك جُنّد أفراد حرس الحدود وكتائب جيش الدفاع الإسرائيلي للخدمة بهدف القمع.

وسُمي الهدف الجديد "السيادة". لم تستطع الحكومة الإسرائيلية تفكيك المنشآت الباطلة دون التنازل عن "السيادة" (و "الاستسلام للإرهابيين" أيضًا). لم يكن باستطاعة أعضاء دائرة الأوقاف الإسلامية الانسحاب دون التنازل عن السيادة على المكان الثالث في قداسته في الإسلام. بالمناسبة، ليست هناك دولة واحدة في العالم تعترف بسيادة إسرائيل على القدس الشرقية.

ويخشى المسلمون لأنه إذا سيطر اليهود على الحرم القدسي الشريف، فسيدمّرون قبة الصخرة والمسجد الأقصى من أجل بناء الهيكل الثالث. هناك عدد من الدوائر التي تحلم بذلك في إسرائيل، وهي تؤهل في هذه الأثناء كهنة لتحقيق هذا الحلم.

وفقا لباربارا توخمان، يمكن اتهام السياسيين بالفعل الغبي فقط إذا أشار، على الأقل، شخص ذكي واحد إلى غبائه في الوقت الحقيقي. كان لدينا شخص كهذا: في اليوم التالي لاحتلال الحرم القدسي الشريف عام 1967 طرد موشيه ديان الجنود الذين كانوا يتجوّلون هناك وأزال العلم الإسرائيلي من المكان. لقد أدرك الطاقة التدميرية الكامنة في الموقع.

ولم يعرف أحد كيفية الخروج من الورطة.

لم يلغِ نتنياهو رحلاته الهامة في أوروبا من أجل العودة إلى البلاد وتولي المسؤولية. لماذا؟ لو عمل كذلك في كل مرة يتصرف فيها أحد وزرائه تصرفا غبيا، فكيف سيتمكّن هو وسارة من الاستمتاع بالعالم؟

ولكن حدثت معجزة عندما تدخل الله في القضية.

عمل نجار أردني في السابعة عشرة من عمره في شقّة حارس شاب في السفارة الإسرائيلية في عمان. وفجأة سحب مفكّا وهاجم الحارس، الذي أصيب بجراح طفيفة جدا. لذلك لم يتردّد الحارس زيف أبدا. فسحب مسدّسه وأطلق عليه النار حتى الموت، وفي تلك الفرصة أطلق النار أيضًا على صاحب الشقّة وقتله، وهو طبيب أردني.

وليس واضحا إذا جرى الحادث بسبب خلاف حول دفع التكاليف أم إذا كان يطمح الشاب الأردني أن يكون شهيدا. وليس واضحا أيضا لماذا أطلق الحارس النار مرتين على صدر الشاب الأردني، وليس على رجليه. ولماذا استخدم أصلا مسدّسا، ولم يستخدم تقنية "كراف-مغا"، التي تدرّب عليها. قال رئيس الحكومة إسحاق شمير، الذي كان إرهابيا كبيرا، إنّه لا يجب على أي إرهابي أن يخرج حيّا من العملية. وبالفعل، منذ ذلك الحين لم يخرج أحد تقريبًا حيّا، وليس مهما إذا كانت طفلة ترفع مقصّا أم نجارا يرفع مفكّا. ولا حتى "إرهابيّا" عاجزا، مستلقيا على الأرض وينزف حتى الموت. أطلق إليئور أزريا النار على رأس منفذ عملية وهو فاقد للوعي (وهذا الأسبوع تم إطلاق سراحه من السجن).

وعلى أية حال، شكلت تلك الحادثة الأردنية مخرجا لنتنياهو وأردان. وافق الملك على إطلاق سراح الحارس دون التحقيق معه شريطة أن يزيل نتنياهو أجهزة الكشف من المسجد الأقصى، فاستجاب نتنياهو لهذا الشرط متنفسا الصعداء. فلا يمكن أن يعارض أي إسرائيلي إزالة أجهزة الكشف عن المعادن عندما تشكل شرطا لإنقاذ الحارس اليهودي. لم يشكل ذلك تنازلا عن "السيادة"، بل دفع فدية لإنقاذ يهودي وقع في أسر الأمميّين.

ونجح كل أعضاء السفارة في مغادرة الأردن واحتفل نتنياهو في "إنقاذهم" - رغم أنّهم لم يتعرضوا للتهديد أبدا.

في هذه الأثناء حدثت حادثة أخرى.

لا يخشى نتنياهو خالقه والعالم العربي. ولكنه يخاف من نفتالي بينيت.

بينيت هو رئيس حزب "البيت اليهودي"، وريث المفدال التاريخي، والذي كان يوما الحزب الأكثر اعتدالا في الكنيست. بينيت وأصدقاؤه هم الحزب الأكثر تطرّفا. إنه حزب صغير، مؤلف من ثمانية أعضاء كنيست فقط، ولكنه كاف لتفكيك الائتلاف وإسقاط الحكومة. لهذا السبب يخاف نتنياهو من هذا الحزب كثيرا.

وعندما اشتعل الغضب في العالم الإسلامي بسبب أجهزة الكشف عن المعادن، تسلل شاب عربي إلى منزل في مستوطنة حلميش وقتل ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة. لقد أصيب، وألقي القبض عليه، ونُقِل إلى المستشفى.

وعندها ناشد نفتالي بينيت وزميلته الوفيّة، وزيرة العدل أييلت شاكيد، فرض عقوبة الإعدام على القاتل. في الواقع، ألغت إسرائيل عقوبات الإعدام منذ زمن، ولكن يُسمح للمحاكم العسكرية في فرض عقوبة كهذه.

وطوال فترة وجودها حكمت إسرائيل بالإعدام على شخصين: أدولف آيخمان، من مهندسي الهولوكوست، ومهندس من القدس أدين (بالخطأ، كما اتضح) بالتجسس، في الأيام الأولى تماما من قيام الدولة.

ويشكل طلب تنفيذ عقوبة الإعدام مجددا إثباتا على الغباء. فكل من ينفذ عملية إرهابية يطمح لأن يكون "شهيدا"، وهو شخص يهب روحه من أجل الله ويصل مباشرة إلى الجنة. لهذا يشكل إعدامه تحقيقا لحلمه، ويشجّع الآخرين على السير في طريقه. الإعدام هو أكثر ما يثير المشاعر القومية والعالمية. فهو يشكل دعوة لانتفاضة الشعوب المحتلّة.

ومن يقترح فرض عقوبة الإعدام ومن يؤيدها هم مرضى نفسيون. لو حظي الاقتراح بالموافقة - لم يكن هناك أي احتمال لذلك - كان سيعد نصرا كبيرا للمتعصّبين المسلمين. لحسن الحظ كل أجهزة الأمن في إسرائيل تعارض هذا الطلب، بل حتى أردان لم ينضم إليه.

ولكن في منظومة عبية، يحظى هذا الغباء بأهمية ويوفر حملة تسويقية للمعربين عنه.