اوري افنيري 

جامعة الإرهابيين المتقدمين / أوري أفنيري


قبل عدة أيام نُفِذَت عملية إرهابية في لندن، المدينة التي أحبها.

دهس إرهابي أشخاصا، طعن شرطيا حتى الموت، واقترب من بناية البرلمان. فعندها أطلقت النيران صوبه وقُتل. حدث كل ذلك في بالقرب من موقع "بيغ بن"، السياحي المشهور.

أثارت هذه العملية ضجّة في العالم. خلال دقائق اتُهِم تنظيم داعش. ولكن حينها اتضحت الحقيقة: كان الإرهابي مواطنا بريطانيا، مسلما من مواليد إنجلترا. وفي سن مبكرة نفذ جرائم صغيرة. فدخل السجن في أحيان كثيرة.

لماذا أصبح هذا الشخص فجأة متعصّبا دينيا، شهيدا - يشهد على أحقية تعاليم الله، ويضحي بحياته من أجل تعظيم الإسلام؟ كيف نفذ عملية هزت بريطانيا والعالم كله؟

قبل أن أحاول الإجابة عن هذا السؤال المثير للفضول، أقدّم لكم ملاحظة حول فعالية "الإرهاب".

كما تدل كلمة الإرهاب على نفسها، يمكن أن نعرف أنها طريقة لإلقاء الخوف وتحقيق هدف سياسي.

ولكن لماذا يخاف البشر من الإرهاب جدا؟ انشغلت دائما بهذا الموضوع، حتى عندما كنت شابا وعضوا في منظمة كان اسمها وفق تسمية بريطانية "منظمة إرهابية".

لا أعلم كم شخصا قُتل في بريطانيا في حوادث الطرق في الشهر الذي حدثت فيه عملية الدهس في لندن. أقدّر أن العدد أكبر بكثير، بكثير جدا من عدد الأشخاص الذين قتلوا في العملية الإرهابية. ولكن الإنسان بطبيعته لا يخاف من حوادث الطرق. لا يخاف من المشي في الشارع. لا تعتقل الدولة أيضا السائقين المتسببين بالحوادث اعتقالا إداريا.

ولكن تكفي حفنة صغيرة جدا من "الإرهابيين" من أجل إلقاء الرعب في بلدان كاملة، قارات، وفي العالم كله.

من المفترض أن تكون بريطانيا آخر دولة في العالم يمكن إخضاعها عبر فرض الخوف. فعام 1940 وقفت هذه الدولة الصغيرة أمام الوحش النازي الذي سيطر على كل أوروبا. أذكر إعلانا مؤثرا كان ملصقا أيضا على الجدران في البلاد - وجه ونستون تشرشل وإلى جانبه الكتابة: "إذا كان الأمر كذلك، فنحن وحدنا"!

هل يمكن لـ "إرهابي" وحيد، يقود سيارة ويحمل سكينا، أن يخيف دولة كهذه وأن يُخضعها؟

يبدو لي ذلك جنونيا. ولكن هذه مجرد ملاحظة. أود في هذا المقال التركيز على مؤسسة يفكر فيها القليلون: السجن.

يثير العمل الإرهابي في لندن سؤالا بسيطا: كيف أصبح مجرم صغير "شهيدا" ونجح في جذب الانتباه العالمي؟

طرح خبراء كثيرون نظريات كثيرة. خبراء في الأديان، الثقافات، التعاليم الإسلامية، وفي علم الإجرام.

الإجابة بسيطة للغاية: السبب هو السجون.

عودة من لندن إلى بلادنا الصغيرة. إلى إسرائيل وعالم الإجرام فيها.

نسمع في أحيان كثيرة عن جرائم كبرى ينفذها أشخاص كانوا مجرمين صغار.

كيف يصبح شخص عادي رئيس منظمة إجرامية؟ أين احترف الإجرام؟

حسنا، في نفس المكان مثل ذلك الجهادي من لندن. أو مثل الجهاديين هنا في إسرائيل.

يعاني الطفل موشيه من مشاكل في العائلة. ربما يضرب والده والدته المحبوبة. ربما تكون والدته زانية. ربما موشيه تلميذ سيء ويسخر أصدقاؤه منه. هناك أسباب كثيرة.

في سنّ 14 تم الإمساك بموشيه بتهمة السرقة. حذّرته الشرطة وأطلقت سراحه. بعد مدة قصيرة سرق مجددا. فاعتُقِل. في السجن تبناه مجرم كبير، وهو سجين يحظى باحترام كبير. ربما أيضا يتم استغلاله جنسيا. يعتقل موشيه في أحيان كثيرة، وتدريجيا يصعد في سلّم السجناء غير الرسمي.

فيبدأ أصدقاؤه في السجن باحترامه. ويبدأ موشيه بفرض سلطته. يصبح السجن عالمه. يتعرف على القواعد. يشعر بشعور جيد.

ولكن عندما يتم إطلاق سراح موشيه من السجن، يصبح عديم الأهمية مجددا. هناك ضباط مراقبة يتعاملون معه كـ "غرض". عندها يتوق إلى دخول السجن ثانية، المكان الذي يعترفون به ويحترمونه. يمكن القول: لم يدخل السجن لأنّه نفّذ جريمة، بل إنه ينفّذ جريمة ليدخل السجن.

ومن ثم ينفّذ موشيه جريمة أخطر من الجرائم السابقة. ويصبح رئيسا لمنظمة إجرامية. عندما يعود إلى السجن، فحتى المدير يتعامل معه باعتباره أحد معارفه القدماء.

هكذا يتحول السجن بمثابة جامعة لموشيه، جامعة الجريمة. فهناك تعلم كل تكتيكات مهنته، حتى أصبح بروفيسورا.

وننتقل من موشيه إلى محمد. يلتقي السارق المسلم الصغير بواعظ مسلم معروف، كان مسجونا بتهمة الإرهاب. يقنع هذا الشخص محمد بأنّه ليس مجرد مجرم صغير ومحتَقَر، وإنما الله سبحانه وتعالى اختاره كي يقضي على الكفار.

كل هذا معروف. يعلم كل سجين، خبير بعلم الإجرام، شرطي، مدير سجن وكل ضابط مراقبة ذلك أفضل مني.

إذا كان الأمر كذلك، فكيف لا يقوم أحد بشيء في هذا الخصوص؟ كيف يعمل السجن اليوم مثلما عمل قبل مئات السنين؟

أخشى أنّ هناك إجابة بسيطة لذلك: ليس هناك حتى الآن بديل للسجن.

يوما ما كانت هناك إجابة لدى البريطانيين: لقد أرسلوا كل المجرمين، السارقين الصغار أيضا، إلى أستراليا. إلا إذا شنقوهم قبل ذلك.

ولكن هذه الطريقة ألغيت في العصر الحديث. أستراليا الآن هي دولة قوية، ترسل اللاجئين التعساء الذين يقتربون إلى شواطئها إلى جزيرة بعيدة في المحيط الهادئ.

تحتجز الولايات المتحدة، أكبر القوى العظمى في العالم، ذات الجامعات الأفضل في العالم، الملايين من مواطنيها في السجون التي يصبحون فيها مجرمين معتادين.

السجون في إسرائيل مليئة بالسجناء، من بينهم "إرهابيين" يعتقلون من دون محاكمة. يُسمّى هذا مجازا "اعتقالا وقائيا"، وهو تناقض لفظي واضح. يصبحون في السجن متعصّبين تماما.

سألت مرة ضابط شرطة كبير ما هو المنطق من هذه الطريقة. أمسك بكتفي وأجاب وفق الطريقة اليهودية بطرح سؤال: ما يمكن أن نفعل بهم بالإضافة إلى ذلك؟

وهكذا، عاما بعد عام، يُرسل المجتمع المجرمين إلى جامعة الجريمة. فيتعلّمون فيها كيف يصبحون مجرمين أفضل وماهرين أكثر. الدراسة مجانية، توفر مسكنا وطعاما، والدولة تتحمل كل المصاريف.

وبطبيعة الحال، هناك جيش كبير من الموظّفين في السجن، شرطيّون وشرطيات، خبراء وأكاديميون، يعتاشون على هذه الطريقة. إذن الجميع سعداء.

يحقق السجن عكس هدفه، وهو يعتبر لا إنساني أيضا. إنه يحوّل البشر إلى حيوانات في حديقة حيوانات (والذي يجب إطلاق سراحهم أيضا).

في السنوات الأولى من قيام الدولة أجريت مع غرو غرا، مفوّض السجون الأول، جولة في منطقة برية قرب الرملة. "هنا سأقيم السجن الإسرائيلي الأول"! كما صرّح غرو غرا فخورا.

منذ ذلك الحين، عندما أمر بالقرب من هذا السجن، أتساءل كم مجرما خلف هذا المكان.

بشكل غريب جدا، لم أمكث في السجن، وإنْ كنت على وشك الاعتقال عدة مرات.

كما وصفت في أكثر من مرة، اقترح أيسر هرئيل، الذي كان حينها رئيس الشرطة السرية (عذرا، الشين بيت) مرة سجني في "اعتقال إداري"، من دون محاكمة، كجاسوس أجنبي. مُنع هذا الأمر فقط بفضل مناحيم بيجن، الذي كان رئيس المعارضة آنذاك، وطُلبت منه الموافقة على سجني ولكنه رفض.

في مرة أخرى حدث ذلك عندما التقيت ياسر عرفات في بيروت المحاصرة. ففرضت الحكومة رسميا على المستشار القضائي أن يحقق معي بتهمة الخيانة. قرر المستشار، يتسحاق زمير، وهو شخص لطيف، بأنني لم أرتكب أية جريمة. لم أجتز الحدود بشكل غير قانوني، لأنّ الجيش الإسرائيلي هو الذي دعاني كمحرر صحيفة لبيروت الشرقية (المحتلة). وأيضا لم يكن هناك شك بأنّني كنت أنوي الإضرار بأمن البلاد.

ورغم أنني لم أدخل السجن، ولكن باتت سخافة النظام برمّته تشغلني منذ سنوات. ألقيت خطابات كثيرة حول ذلك في الكنيست.

لم تساعد خطاباتي، لا يعرف أحد بديلا.

كانت زوجتي، راحيل، معلّمة. رفضت دائما أن تعلّم طلاب الصفوف ما فوق الصفّ الثاني. كانت تدعي أنّه بعد ذلك السنّ تكون هوية الإنسان قد تبلورت نهائيا، ولا يمكن التأثير فيها.

إذا كان الأمر كذلك، ربما يجب تركيز كل الجهود في تلك السنّ.

أنا متأكد أنّه تتم تجارب ويتم اختبار طرق أخرى للعلاج سوى الحبس في السجون. ربما في الدول الإسكندنافية، وفي جزر فيجي.

حان الوقت.