|
||
هذه ظاهرة عالمية. في كل الدول الديمقراطية، أهون الشرّين هو الذي يفوز تقريبا. وما هو الوضع في إسرائيل؟ منذ قيام الدولة جرت الانتخابات للكنيست في إسرائيل 20 مرة، وفي أعقابها اختار الكنيست حكومة. في خمس من تلك الانتخابات انتخبت نفسي. في ثلاثة منها انتخبت القائمة التي كنت أرأسها. في واحدة منها انتخبت القائمة التي كنت واحدا من ثلاثة مؤسسيها (شلي) وفي واحدة انتخبت القائمة التي وضعتني في مكانة الشرف الـ 120 فيها ("القائمة المتقدمة للسلام"، وهي قائمة يهودية-عربية). في كل الانتخابات الـ 15 المتبقية كنت انتخب قائمة حزب "أهون الشرّين". لم أنتخب الحزب الذي أحببته، ولا الحزب الذي أعجبت به، ولا الحزب الذي كنت أظن أنه جيد. ببساطة لم يكن كذلك. انتخبت الحزب الذي كنت أظن أنّه سيتسبّب بالضرر الأقل للدولة والذي سيحقق الهدف القومي الذي هو الأهم في نظري: السلام مع الشعب الفلسطيني ومع العالم العربي بأسره. كانت طريقة الانتخاب بسيطة جدا: نضع على الطاولة أسماء القوائم، عادة بين 10 إلى 20. نستبعد القائمة الأسوأ. وهلمّ جرا، إلى أن يبقى حزب واحد فقط. نعم، هذه ليست طريقة تفرح القلب. فأنا لا أخرج عادة من صندوق الاقتراع وأبدأ بالرقص في الشارع. ولكن على الأقل أقوم بواجبي المدني بالطريقة المنطقية. فأنا مواطن مسؤول. يمكن، بطبيعة الحال، تقرير عدم التصويت. تقولون في قرارة قلبكم: الجميع نفس الشيء، شخص عاقل مثلي لا يمكنه أن ينتخبْ لصالح واحد منهم. ولكن في الواقع هذا قرار سيء جدا. إذا لم تصوتوا لصالح "أهون الشرّين"، فستصوّتون فعليا إلى أكبر الشرّين. هذا صحيح أيضا بخصوص طريقة الانتخابات الأمريكية. إنّ التصويت لصالح مرشّح حزب ثالث، من اليمين أو اليسار، ليس له احتمال للفوز، هو تصويت سيء. يمكنه أن يمنحكم شعورا جيدا. ولكن في الواقع معناه إلقاء الصوت النفيس. إنّه - إذا سمحتم لي – عمل غير مسؤول. وبخصوص الطرق. دائما كنت مؤيدا متحمسا لطريقة الانتخاب النسبي المعتمدة في إسرائيل. يصوت المواطنون لصالح قوائم حزبية. لا يذهب أي صوت ضياعا، فيما عدا الأصوات التي تُعطى لقوائم سريعة الزوال. أعترف أنني تمتعت بهذه الطريقة، لأنه لم تفز أية قائمة أقمتها بأكثر من 2%. كانت نسبة الحسم حينذاك 1%. ومع ذلك، عندما أنظر اليوم إلى نتائج هذه الطريقة، تراودني أفكار الندم. تملأ هذه الطريقة الكنيست بالأصفار المثيرة للاشمئزاز. الزعيم الحزبي هو الذي يعيّن المرشّحين، ويملأ القائمة بأشخاض حقيرين يمكنه أن يعتمد عليهم دون شرط. الزعيم الذي يفعل ذلك بأفضل طريقة هو أفيغدور ليبرلمان. ففي كل انتخابات يركل خارجا معظم أعضاء الكنيست في حزبه ويملأ القائمة بمرشّحين جدد، متعلّقين به فحسب. ورغم أنّ هناك انتخابات تمهيدية في الأحزاب الكبيرة، ولكن نتائجها هي تقريبًا نفسها. هذه الطريقة غير سليمة. ففي الواقع يصوت المواطنون لصالح زعيم الحزب فقط. يقضي بقية الأعضاء وقتهم في جهود محمومة لجذب انتباه الشعب بـ "المبادرات" التي تغدو أكثر وحشية من يوم لآخر. إن نواب الكنيست ليسوا مسؤولين أمام أي أحد، باستثناء زعيم حزبهم. اليوم أنا أفضّل الطريقة البريطانية. إذ يتم فيها تقسيم البلاد إلى مقاطعات انتخاب، وترسل كل مقاطعة شخصا واحدا فقط إلى البرلمان. يبقى عضو البرلمان المنتخب مسؤولا أمام ناخبي مقاطعته. إذا أراد الانتخاب مجددا، فمن المفضل أن يحقق توقعاتهم. صحيح، هناك سلبية واحدة ضخمة لهذه الطريقة: "الفائز يأخذ كل شيء". أي تضيع كل الأصوات التي تُعطى للمرشّحين الآخرين. 45% من الناخبين بل وأكثر قد يبقون دون تمثيل. تحاول الطريقة الألمانية إصلاح هذا العيب. والآن عودة إلى الولايات المتحدة. تختلف طريقة الانتخابات فيها تماما. يقرر الناخبون من سيكون الرئيس، وهو شخص ذو صلاحيات هائلة. في الواقع الرئيس هو وريث الملك البريطاني القادر على كل شيء وحكم البلاد قبل تشكيل الجمهورية. يمكن لبقية الرؤساء ورؤساء الحكومة في العالم الديمقراطي أن يغاروا من الرئيس الأمريكي. في هذه الانتخابات هناك فقط مرشّحان جديران. على الناخبين الأمريكيين الاختيار بينهما. والبقية لا يجدر الحديث عنها. في الانتخابات الحالية، لا أحد من كلا المرشّحين جذّاب بشكل خاصّ. في الماضي كان بإمكان الأمريكيين الإعجاب بأبراهام لنكولن، تقدير فرانكلين ديلانو روزفلت، محبة جون كينيدي وزوجته. ولكن لا تثير هيلاري كلينتون ودونالد ترامب مثل هذه المشاعر. وبناء على ذلك، في نظر غالبية الناخبين هناك سؤال مَن هو أهون الشرّيْن بين المرشحين. إذا كان كلاهما سيّئين، فمن الأسوأ بينهما؟ بالنسبة لي، كمواطن دولة أخرى، الإجابة واضحة. أولا، قبل أن نناقش مسألة طابع كل منهما، نتطرق إلى خبرتهما. أتساءل عما إذا كان هناك يوما ما مرشّح للرئاسة الأمريكية لم يشغل أبدا منصبا عاما أيا كان. لا بصفته نائب رئيس، حاكم ولاية، سيناتور، لا شيء أبدا. السياسة هي مهنة. فهي ليست المهنة الأفضل، ولكنها مهنة بكل معنى الكلمة. إذ يتعلم فيها الأشخاص كيف يمكن القيام بالأمور، تحقيق الأهداف، استخدام طريقة ما لتحقيق الأفضل. ليس هناك شخص يمكن أن يقفز قفزة جريئة واحدة من واقع المواطن البسيط إلى واقع السياسي الأكثر أهمية في العالم. لأن هذه فكرة مرعبة. حتى الخبرة السيئة أفضل من انعدامها تماما. بل العكس، فيمكن التعلم، استخلاص الاستنتاجات من الخبرة السيئة. لأنه من لا شيء يمكن أن تتعلم لا شيء. بعد أن أوضحنا هذه النقاط، يمكن التوجه إلى تحليل المرشحَين. شخصية هيلاري كلينتون ليست ساحرة إطلاقا. أشك إذا كنت سأحاول أن أجلس إلى جانبها أثناء تناول وجبة عشاء. ولكنها سياسية لديها قدرة. وخبيرة أكثر بكثير من معظم المرشّحين السابقين في تاريخ الولايات المتحدة. تبدو كلينتون سياسية طبيعية، إلى حد ما. يبدو لي أن القضية التي تثير أمريكا الآن، قضية الرسائل الإلكترونية، مبالغا بها جدا. من الواضح أن ذلك هراء. ولكن ليس هناك احتمال أن تكررها كلينتون. هاجس الأمريكيين في هذه القضية غريب في نظري. في مقابل ذلك أفهم سلوك رئيس مكتب التحقيقات الفدرالي. مثل هؤلاء الأشخاص ينتمون في العادة إلى اليمين المتطرف. سأل اليهود أنفسهم دائما: "هل هذا جيّد لليهود؟" واليوم يسأل الإسرائيليون: "من كلا المرشحين جيّد لإسرائيل؟" ومن الواضح أنّ ذلك متعلّق بالسؤال "ما هو الجيّد لإسرائيل". هل الدعم غير المشروط للحكومة الإسرائيلية التي تقودنا إلى الانتحار القومي أو دعم السلام الإسرائيلي-الفلسطيني؟ إذا كانت الإجابة الأولى صحيحة، فكلا المرشّحين جيّد. وفقا لطريقة الانتخابات الأمريكية - وهي طريقة فاسدة بشكل لا يصدّق تقريبًا - يحتاج كلا المرشّحَين إلى مبالغ مالية ضخمة من أجل تمويل حملته. لسبب ما، يتبرع أصحاب المليارات اليهود نسبة من المال أكبر بكثير من الآخرين. يتلقى دونالد ترامب تبرعات كبيرة من عملاق القمار، شيلدون أديلسون، الذي تشمل ممتلكاته بنيامين نتنياهو والصحيفة الكبرى في إسرائيل، وهي صحيفة يومية مجانية مخصصة لنتنياهو شخصيا. المتبرعون الخمسة الأكبر لهيلاري كلينتون هم يهود أيضا. فهي ستستمر دون شك بسياسة باراك أوباما الشرق أوسطية، والذي يتألف نشاطه (حتى الآن، على الأقل) من التقاعس. أي الدعم المطلق وغير المشروط للحكومة الإسرائيلية. وإذا كان ذلك يبدو معاديا للسامية قليلا، فهو كذلك فعلا. منذ فترة قليلة أوضحتُ لأجنبي هذا التعلق التام للكونغرس الأمريكي بالحكومة الإسرائيلية، فصاح الرجل: "ولكن ذلك يبدو مثل بروتوكولات حكماء صهيون!" وهو كذلك فعلا. تلك الوثيقة البغيضة، هي تزوير اخترعته الشرطة السرية لنظام القيصر الروسي قبل أكثر من مائة عام، وهي تصف مؤامرة يهودية تسعى إلى السيطرة على العالم بواسطة المال. والآن يسيطر أصحاب مليارات يهود على مرشّحي القوة العظمى الأكثر أهمية في العالم. لماذا يدعم كل أصحاب المليارات هؤلاء السياسة الإسرائيلية الحالية، التي تقودنا إلى الكارثة، حيث إنّه من هذه الناحية لا يوجد فرق كبير بينهما. بالمجمل، هيلاري كلينتون هي المرشّحة المقبولة والمعقولة أكثر، حتى لو لم تكن مرشّحة مثالية. أما دونالد ترامب فليس كذلك. لولا أنه موجود في الواقع، لم يكن بالإمكان اختراعه. نحن نعلم فعلا أنّه عنصري، يكره السود واللاتينيين، النساء، والمثليين. يبدو أن ليس لديه رؤيا متماسكة أو منظومة قيم ما. فهو شخص غير متوقع. إنّه بهلواني طبيعي. أعترف أنني منذ أسابيع، عندما أمسك بيدي صحيفة، فإنّ أول شيء أبحث عنه فيها هو مقالات تتطرق إلى خدعة ترامب الأخيرة. ربما يكون رجل أعمال ممتاز. ومع ذلك، فهناك ادعاء أنّه أفلس مرتين. ولكن قد تكون هذه حيلة ماكرة في مجال الأعمال. (تتحدث إحدى النكات اليهودية عن يهوديين، وقّعا على اتفاق شراكة. طلب أحدهما إضافة بند: "في حالة الإفلاس، نوزّع الأرباح بالتساوي"). تختلف إدارة الأعمال عن إدارة الدولة جدا. ناهيك عن دولة كهذه. فالمصلحة التجارية لا تدير الحروب. ولا تمتلك قنبلة نووية. ربما كان بإمكان ترامب تحديدا أن يكون رئيسا ممتازا، مبتكرا وبراغماتيا. ولكن المخاطرة هائلة. من ينتخب ترامب قد يتسبب بهولوكوست عالمي، يجرّنا نحن أيضا. ولذا فإذا كنتم مواطنين أمريكيين، فأرجو أن تنتخبوا أهون الشرّين. وفي اللحظة الأخيرة: أيضا إن لم تكن كل تلك الأسباب متوفرة، فلدي تفسير آخر، يفوقها جميعا: الصوت. الصوت الذي أحمله في أذني منذ طفولتي في ألمانيا. الصوت الذي يلاحقني طوال حياتي. صوت الجماهير الهستيرية التي تصرخ من الحماسة بعد كل جملة للزعيم. أبدا ليس مجدّدا! |