|
||
في مطار تونس أعلمنا ممثل منظمة التحرير الفلسطينية أنّنا سنلتقي أولا مع أبي مازن (محمود عباس)، المسؤول عن العلاقات مع الإسرائيليين. حتى ذلك الحين كنت أعلم بوجوده فقط من المعلومات التي تلقيتها من قبل مَن حاورتهم سابقا من منظمة التحرير الفلسطينية، مثل سعيد حمامي (الذي قُتل) وعصام سرطاوي (الذي قُتل). كان انطباعي الأول أن أبا مازن يختلف جدا عن عرفات. في الواقع لقد كانا متضادين تماما. كان عرفات شخصا دافئا، منفتحا، ومتفهما. في المقابل،أبو مازن شخص بارد، منطو على نفسه، وموضوعي. كان عرفات الشخصية المثالية لزعيم حركة التحرير، وقد حرص أيضًا على أن يبدو كذلك. كان يرتدي زيا عسكريا دائما. في المقابل، بدا أبو مازن كمدير مدرسة، مرتديا بدلة. عندما أقام عرفات في بداية الخمسينيات حركة فتح (الأحرف الأولى بالمقلوب من "حركة تحرير فلسطين") في الكويت، كان محمود عباس أحد المنضمين الأوائل. فهو من "المؤسسين". لم يكن ذلك سهلا. عارضت كل الحكومات العربية تقريبا الكيان الجديد آنذاك، والذي تحدث باسم الشعب الفلسطيني. في تلك الفترة توخّت كل حكومة عربية تقريبًا الحديث باسم الفلسطينيين، واستغلت القضية الفلسطينية لأغراضها. صادر عرفات وأصدقاؤه هذا الحق من أيديهم، ولذلك اضطُهدوا وقُمعوا في العالم العربي. بعد ذلك اللقاء الأول التقيتُ بأبي مازن في جميع زياراتي إلى تونس. ناقشت معه الأعمال الإسرائيلية - الفلسطينية الممكنة لتعزيز السلام بين الشعبَين. شكّلنا برنامجا لحملات دعائية. عندما انتهينا قال أبو مازن: "والآن سنقدّم هذا البرنامج للرئيس". وصلنا إلى مكتب عرفات وقدّمنا له البرنامج الذي وضعناه. أنصت عرفات إلى أقوالنا متخذا قراراته بسرعة البرق - بصعوبة انتهيت من الكلام وكان يجيب "نعم" أو "لا". كنت دائما معجبا بسرعة تفكيره وقدرته على اتخاذ القرارات. (قال لي أحد معارضيه الفلسطينيين مرة: "إنه زعيم لأنّه الوحيد القادر على اتخاذ القرار"). عندما كان عرفات موجودا كانت مكانة أبي مازن واضحة: كان عرفات الزعيم والمقرر، وكان أبو مازن المستشار والمساعد، كسائر "الآباء" المؤسسين مثل: أبو جهاد (الذي قُتل)، أبو إياد (الذي قُتل) وأبو علاء (أمدّ في عمره). في إحدى زياراتي إلى تونس طٌلب مني أن أقوم بخدمة شخصية لأبي مازن: أن أحضر له كتابا عن محاكمة كاستنر. اتضح أنّ أبا مازن قد درس في جامعة في موسكو وأعدّ رسالة دكتوراة عن العلاقات بين النازيين والصهاينة. كان هذا الموضوع حينذاك إحدى هوايات النظام السوفيتي. لم يرسل عرفات أبا مازن إلى المفاوضات السرية في أوسلو، والذي كان معروفا منذ ذلك الحين جدا، وإنما تحديدًا أبا علاء، المسؤول عن الأموال، لأنّه لم يثر أي انتباه. كانت العملية كلها ثمرة مبادرة عرفات، وأرجح أنّه كان لأبي مازن دور في تشكيلها. في البلاد تشاحنوا بعد ذلك إذا كان سيحظى رابين، شمعون بيريس أم يوسي بيلين بالمجد. الحقيقة أنّ الجانب الفلسطيني هو الذي بادر إلى إجراء المفاوضات، والجانب الإسرائيلي هو الذي استجاب. (يفسّر ذلك أيضًا المصير المحزن للاتفاق بعد ذلك). كما أشرت في مقال سابق، فقد قررت لجنة جائزة نوبل في البداية منح جائزة السلام لعرفات ورابين. أثار أصدقاء بيريس الكثيرون في العالم ضجيجا كبيرا، ولذلك مُنحت الجائزة لبيريس أيضًا. وفقا للمنطق كان يجب أن تُمنح الجائزة أيضًا لأبي مازن، الذي وقع الاتفاق مع بيريس. ولكن لائحة الجائزة لم تسمح بفائز رابع، وهكذا بقي أبو مازن خارجا، الأمر الذي كان بمثابة ظلم فادح. وقد صمت. عندما عاد عرفات إلى البلاد، تركّز الاحتفال به. عندما التقيته في يوم مجيئه في فندق "فلسطين" في غزة، وتنقّلت بصعوبة من خلال الحشود المزدحمة التي غمرت المكان، لم أر أبا مازن. لم يكن موجودا. حتى بعد ذلك بقي أبو مازن في الظلّ. يبدو أنه كفّ عن أن يكون مسؤولا عن المحادثات مع معسكر السلام في إسرائيل. التقيتُ مع عرفات عدة مرات في المقاطعة، بل وذهبت مرات للسكن هناك كـ "درع واق"، عندما كان هناك خطر على حياته من قبل أريئيل شارون. التقيتُ بأبي مازن مرتين أو ثلاثة فقط. (أذكر صورة واحدة: قادني عرفات أنا وراحيل زوجتي إلى بوابة المبنى، وهو يمسك بيدينا، وفي الطريق صادفنا أبا مازن. صافحناه، تبادلنا عبارات المجاملة فحسب). كان لدى زوجتي راحيل وأبي مازن موضوع مشترك: أبو مازن من مواليد صفد، وعاشت راحيل فيها في فترات مختلفة من طفولتها. كان والدها طبيب أطفال، وحاولنا أن نستوضح إذا كان قد عالج الطفل محمود عباس في عيادته على جبل كنعان. عندما تُوفي عرفات (وفي رأيي فقد قُتل هو أيضًا) كان أبو مازن المرشّح الطبيعي لخلافته. كعضو مجموعة المؤسسين كان مقبولا على الجميع. وكان قد اختفى جميع بقية المؤسسين تقريبا. لم يكن أبو علاء، الذي ظهر معنا أكثر من مرة في مظاهرات ضدّ الاحتلال، شخصية حاسمة بشكل كاف. كان فاروق القدومي من أتباع نظام البعث في سوريا وكان يعارض في الأصل اتفاق أوسلو. ولم يأت إلى البلاد. التقيتُ أبا مازن في حفل تأبين عرفات في المقاطعة. جلس على طاولة الرئاسة قرب رئيس المخابرات المصري. بعد أن صافحتهما، رأيت بطرف عيني أن أبا مازن يحاول أن يشرح لرئيس المخابرات مصري من أنا. منذ ذلك الحين يتولى أبو مازن منصب رئيس "السلطة الوطنية الفلسطينية" (كما تدعو هذه المؤسسة نفسها بشكل رسمي، رغم أنف الحكومة الإسرائيلية). هذه هي إحدى أصعب المهام في العالم. تضطر الحكومة الوطنية في ظل الاحتلال للرقص على حبل رفيع جدا. قد تسقط في كل لحظة إلى أحد الجوانب (التعاون مع العدو أو القضاء عليها من قبل سلطات الاحتلال). في سنّ السابعة عشرة، عندما كنت عضوا في الإيتسل، أجرت كتيبتي "محاكمة" لفيليب بيتان، المارشال الفرنسي الذي كان رئيسا للحكم "الذاتي" جنوب فرنسا بعد انتصار الجيش النازي. أُلقيت علي مهمة "الدفاع" عن بيتان. قلت إنه وطني فرنسي. وإنّه يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. يحرص على أن بقاء فرنسا في نهاية الحرب أيضا. ولكن مع انتهاء الحرب حُكم على بيتان بالإعدام، وتم إنقاذ حياته فقط بفضل كرم (وحكمة) عدوه اللدود، شارل ديغول، زعيم "فرنسا الحرة". لا يمكن الحفاظ على الاستقلال في ظل الاحتلال. من يحاول أن يقوم بذلك قد يجد نفسه على منحدر زلق، يحاول أن يرضي المحتلّ وفي نفس الوقت الحفاظ على أبناء شعبه. ولكن مع مرور السنين اضطرت حكومة فيشي التراجع خطوة تلو خطوة. لقد تعاونت ضدّ أبطال الحركات السرية بل ومع منفّذي الكارثة. كيف انتهى ذلك؟ فضلا عن ذلك، في المكان الذي فيه سلطة، حتى ولو سلطة تحت الاحتلال الأجنبي، تنشأ مصالح. يسعى أصحاب المصالح إلى استمرار الوضع القائم. إنهم يربحون من الاحتلال، ويدعمونه. حدث ذلك في فيشي: ازدادت عظمة بيير لافال، وهو سياسي فرنسي انتهازي وفاقد للضمير، وتجمّع الكثير من الفرنسيين مثله حوله. فتم إعدامه. واليوم يقع أبو مازن في حالة مشابهة. حالة مستحيلة. إنّه يلعب البوكر مع سلطة الاحتلال - وهي لعبة يتسمك المحتلّ بالأوراق الرابحة الأربعة فيها، بينما توجد في يد أبي مازن ورقة واحدة صغيرة فقط. إنه يرى مهمته في الحفاظ على سلامة السكان الفلسطينيين المحتلّين حتى يمرّ الغضب - حتى تضطر إسرائيل إلى التخلي عن الاحتلال وعن أشكاله - المستوطنات، السرقة، الاستغلال، والقمع. تضطر - كيف؟ يعارض أبو مازن الكفاح المسلّح ("الإرهاب") وفي رأيي، بحقّ. هناك جيش عظيم لدى الاحتلال، ولا يلتزم بالكثير من القيود الأخلاقية (راجع إليئور أزريا). توفر أفعال الشهداء الفَخر الوطنيّ لدى الفلسطينيين، ولكنها تزيد من القمع. إنها لا تؤدي إلى أي تقدم. علق عباس آماله على العمل الدولي. في هذه اللحظة يُركز كل قوته للنضال في الأمم المتحدة من أجل الحصول على قرار لصالح الفلسطينيين، قرار يدين الاحتلال والمستوطنات، ويعترف بدولة فلسطين كعضو كامل في الأمم المتحدة. يخشى نتنياهو من أن يستغل الرئيس أوباما الشهرين اللذين تبقيا له في الحكم بعد انتهاء الانتخابات، وألا يفرض فيتو على القرار. فماذا سيحدث؟ هل من شأن ذلك أن يعزز النضال العالمي ضدّ الاحتلال الإسرائيلي؟ هل سيخفض دولارا من المعونة الأمريكية لإسرائيل؟ انتهكت الحكومات الإسرائيلية في الماضي عشرات القرارات في الأمم المتحدة، ولكن تعزز موقفها الدولي فقط. إن الفلسطينيين ليسوا شعبا غبيا، وهم يعلمون كل هذه الحقائق. سيفرحون لكل انتصار في الأمم المتحدة، ولكنهم يفهمون أيضًا أن نجاح كهذا لا يتضمن فائدة واقعية كبيرة. أنا لا أقدم نصائح للفلسطينيين. دائما كنت أعتقد بأنّه ليس من اللائق أن يعطي أبناء شعب الاحتلال نصائح لأبناء الشعب المُحتلّ. ولكن من المسموح لي أن أفكر بصوت عال. وتقودني تأملاتي إلى الاستنتاج أنّ الطريقة الفعالة الوحيدة المتاحة أمام الشعب المُحتلّ هي العصيان المدني - المقاومة الشعبية الشاملة ولكن غير العنيفة للاحتلال. عدم الخضوع التام للحكم الأجنبي. هذه هي الطريقة التي اعتُمدت في النضال الهندي ضدّ الاحتلال البريطاني. كان زعيمها، المهاتما غاندي، رجل أخلاق استثنائي، ولكنه كان أيضا زعيما ذكيا جدا. كان في الهند عشرات الآلاف من جنود الاحتلال والقادة الاستعماريين مقابل أكثر من مليون محليّ. استطاعت المقاومة غير العنيفة أن تضع حدّا للاحتلال. إن علاقات القوى في بلادنا مختلفة تماما. ولكن المبدأ ذاته: لا يمكن لأية سلطة أن تصمد على الأمد الطويل عندما يرفض الشعب كله التعاون معها. في مثل هذا النضال، فإنّ اللاعنف هو دائما من نصيب المُحتل، بينما يكون الاحتلال عنيفا دائما. في معركة المقاومة غير العنيفة سيُقتل الكثير من الفلسطينيين، وستشتد المعاناة العامة كثيرا. ولكن مثل هذا النضال سينتصر. لقد انتصر في كل مكان تم اعتماده فيه. سيضطر العالم المحبط، والذي يعرب عن تأييده الأخلاقي العميق للشعب الفلسطيني ولكنه يتعاون في الخفاء مع نظام الاحتلال، في مثل هذه الحال إلى التدخل. وبشكل أساسي: سيستيقظ الشعب الإسرائيلي، الذي ينظر إلى ما يحدث على مسافة عشرات الكيلومترات من وطنه كما لو أن ذلك يحدث على القمر. سينضم الجيدون فيه إلى النضال السياسي. سيمتلئ معسكر السلام الهزيل بالقوة. تعرف سلطة الاحتلال هذا الخطر جيدا. إنها تحاول إضعاف أبي مازن بكل الوسائل. إنها تتهم هذا الرجل بـ "التحريض" - أي بمقاومة الاحتلال - كما لو كان عدوا لدودا. كل ذلك في الوقت الذي تتعاون فيه قوات أبي مازن المسلحة علنا وبفعالية مع جيش الاحتلال. بشكل غير مباشر يعزز الاحتلال أيضًا سلطة حماس في قطاع غزة، والتي تكره أبا مازن. هناك تاريخ طويل من العلاقات بين حماس والحكومة الإسرائيلية. في السنوات الأولى للاحتلال، عندما كانت جميع التنظيمات الحزبية في الأراضي المحتلة محظورة تماما، تم تحديدا التساهل مع التنظيم الإسلامي. أولا، كان من الصعب إغلاق المساجد. وثانيا، اعتقد عباقرة الاحتلال أنّ عداوة المسلمين المتديّنين لمنظمة التحرير الفلسطينية العلمانية ستضعف عرفات. تبدد هذا الوهم في بداية الانتفاضة الأولى، عندما تأسست حماس وأصبحت تحديدا حركة متطرفة. ولكن حينها أيضًا اعتبرت سلطات الاحتلال حماس عاملا إيجابيا، لأنها تتسبّب بانقسام النضال الفلسطيني. يجب التذكر أنّ قطاع غزة "المستقل" هو من صناعة إسرائيل. في اتفاق أوسلو التزمت إسرائيل بإقامة أربعة "معابر آمنة" بين القطاع وبين الضفة. بتأثير من الجيش الإسرائيلي انتهك إسحاق رابين هذا الالتزام منذ اللحظة الأولى. نتيجة لذلك حدث انقطاع تام بين الضفة والقطاع - والواقع الحالي هو نتيجة مباشرة لذلك. اندهش العالم لكون إسرائيل تشوّه سمعة أبي مازن وتسكت بخصوص حماس. ولكن ذلك منطقي تماما: قد ينجح أبو مازن "المعتدل" في أسر قلب الأمم المتحدة ويحصل على قرار مؤيد للفلسطينيين. ومن غير المتوقع من حماس "المتطرفة" حدوث خطر كهذا. لن تحدث المقاومة الشعبية في المستقبَل القريب. الشعب الفلسطيني ليس مستعدا لذلك، وأبو مازن ليس الزعيم الملائم لمثل هذا النضال. إنه ليس غاندي ثان. وأيضًا ليس مانديلا الفلسطيني. أبو مازن هو قائد لشعب يحاول البقاء على قيد الحياة في ظروف صعبة الاحتمال - حتى يتغير الوضع. |