اوري افنيري 

كراهية لا نهائية / أوري أفنيري


يتسلل شاب فلسطيني في السابعة عشرة من عمره إلى مستوطنة، ومن ثم يدخل إلى البيت الأقرب ويطعن حتى الموت طفلة في الثالثة عشرة من عمرها.

وثمة حادثة أخرى يختطف فيها ثلاثة رجال إسرائيليون شابا فلسطينيا في الثالثة عشرة من عمره، ومن ثم يجرونه إلى حقل مفتوح ويحرقونه وهو على قيد الحياة.

كما ويدخل ثلاثة شبان فلسطينيون من بلدة قرب الخليل إلى إسرائيل بشكل غير قانوني، يشربون القهوة في مجمّع سارونا ويبدؤون بإطلاق النار على كل من حولهم. فيصبحون أبطالا قوميين.

وفي حادثة أخرى يقترب جندي إسرائيلي من منفّذ عملية فلسطيني كانت إصابته خطيرة وملقى على الأرض، ومن ثم يبدأ بإطلاق النار على رأسه من مسافة صفر، وأصبح يحظى بدعم معظم الإسرائيليين .

كل هذه الحالات ليست أعمالا "طبيعية" حتى في حرب العصابات. إنها تعبّر عن كراهية لا حدود لها، كراهية فظيعة جدا، تطفئ كل شرارة الإنسانية.

لم يكن الأمر كذلك دائما. بعد عدة أيام من حرب الأيام الستة، بعد أن احتلت إسرائيل القدس الشرقية، الضفة الغربية وقطاع غزة، سافرتُ وحدي في مناطق الأراضي المحتلة. في كل مكان تقريبا، لاقيت استقبالا حميما. فرح أصحاب الحوانيت عندما كنت أشتري من بضاعتهم وقصوا قصصهم في أذني. لقد كانوا فضوليين تجاه الإسرائيليين، كما كنّا نحن فضوليين تجاههم.

في الفترة ذاتها لم يحلم الفلسطينيون باحتلال أبدي. لقد كرهوا الحكم الأردني، وفرحوا لأننا نجحنا في إنهائه. لقد ظنّوا أنّنا سنغادر قريبا ونتركهم أخيرا ليحكموا بلادهم بأنفسهم.

في إسرائيل تحدثوا عن "الاحتلال المستنير". كان الحاكم العسكري الأول، حاييم هرتسوغ، شخصا إنسانيا وأصبح لاحقا رئيس الدولة، وهو والد يتسحاق هرتسوغ، زعيم حزب العمل.

ولكن خلال عدة سنوات تغيّر كل ذلك. أدرك الفلسطينيون أنّ إسرائيل لا تعتزم الرحيل، وإنما العكس، تعتزم سرقة أراضيهم، وإقامة مستوطنات عليها.

(حدث أمر مشابه جدا بعد مرور 15 عاما في جنوب لبنان. استقبل السكان الشيعة جنود الجيش الإسرائيلي استقبالا دافئا، لأنّهم اعتقدوا أنّ الإسرائيليين سيطردون الفلسطينيين الكريهين وسينصرفون. ولكن لم يحدث هذا، وعندها أصبحوا مقاتلي عصابات عازمين، وأقاموا لاحقا حزب الله).

تُخيّم الكراهية الآن في كل مكان. يسافر الإسرائيليون والفلسطينيون في شوارع منفصلة، ولكن هذا أكثر سوءًا من نظام الأبرتهايد في جنوب إفريقيا في وقته، لأنّ البيض هناك لم يهتموا بطرد السود. والوضع أسوأ كذلك من غالبية أشكال الاستعمار، لأنّ السلطات الإمبريالية لم تسلب الأراضي من تحت أقدام المواطنين من أجل الاستيطان فيها.

والآن أصبحت الكراهية مهيمنة. إذ يضايق المستوطِنون جيرانهم الفلسطينيين. يلقي الفتيان العرب الحجارة والزجاجات الحارقة المرتجلة على سيارات اليهود أثناء سيرها. منذ وقت قصير تم إلقاء وابل من الحجارة على ضابط في الجيش. عندها خرج من سيارته، ولاحق أحد الفتيان العرب الهاربين، فأطلق النار على ظهره وقتله- ويشكل هذا انتهاكا صارخا لأوامر إطلاق النار.

واليوم، بعد مرور 120 عاما على بدء المشروع الصهيوني، أصبحت الكراهية بين الشعبين سيئة جدا. وأصبح يسيطر الصراع على حياتنا. يتطرق أكثر من نصف الأخبار في وسائل الإعلام في إسرائيل إلى الصراع.

لو عاد إلى الحياة مؤسس الحركة الصهيونية، "المتنبّئ بالدولة" بنيامين زئيف هرتسل، لكان سيتفاجأ تماما. في الرواية المستقبلية التي كتبها، "ألتنويلاند" ("الأرض القديمة-الجديدة") وصف الحياة اليومية في دولة اليهود التي ستقوم بشكل مفصّل. وُصف سكانها العرب كمواطنين سعداء وأمناء، يقدّرون المزايا الكثيرة التي حظوا بها في عهد الصهاينة.

في الحقيقة، في بداية الهجرة اليهودية، قبلها العرب. ربما كانوا يعتقدون أنّ الصهاينة هم نسخة جديدة من المهاجرين الألمان المتديّنين الذين قدِموا إلى البلاد قبل عدة عقود من ذلك وقد أحضروا معهم فعلا البركة والتقدم. لم تكن لدى أولئك الألمان، الذين سمّوا أنفسهم "الهيكليين" (ولكن لا تربطهم أية علاقة بنظام فرسان الهيكل الذي تأسس في فترة الحروب الصليبية) طموحات سياسية أيا كانت. لقد أقاموا قرى وأحياء نموذجية وعاشوا فيها بثراء وسعادة. مع اندلاع الحرب العالمية الثانية طردهم البريطانيون إلى أستراليا البعيدة.

القرية النموذجية التي أقامها الهيكليون قرب يافا، مجمّع سارونا، أصبحت الآن حيّا ترفيهيا في تل أبيب - وهو المكان الذي حدثت فيه العملية الفظيعة الأخيرة.

عندما أدرك العرب أنّ الهجرة الصهيونية لم تكن نسخة جديدة للهيكليين، وإنما مستوطنات عدائية واستعمارية، أصبح الصراع لا مفرّ منه، وهو آخذ بالازدياد سوءًا بين عام وآخر. تزداد الكراهية بين الشعبَين في كل عام.

ويبدو الآن كما لو أنّ الشعبين يعيشان في عالمين مختلفين. يمكن للقرية العربية التي عمرها مئات السنين والمستوطنة الإسرائيلية الجديدة، اللتان تبعدان مسافة كيلومتر واحد عن بعضهما البعض، أن تبقيا قائمتين مثل كوكبين مختلفين.

يسمع الأطفال، منذ ولادتهم، في كلا الجانبين من آبائهم قصصا مختلفة تماما، وفي المدرسة أيضا. عندما يكبرون، يشعرون أن ليس هناك تقريبًا أي شيء مشترك في رؤاهم.

في نظر الشاب الفلسطيني، القصة بسيطة تماما. كانت فلسطين أرضا عربية منذ 1400 عام، جزء من الحضارة العربية. يرى بعض العرب، أن ماضيهم يعود إلى خمسة آلاف عام سابقا، لأنّ الفاتحين المسلمين لم يطردوا السكان المسيحيين الموجودين في البلاد، والذين قبلوا الإسلام على مرور الوقت. في تلك الفترة كان الدين الإسلامي هو الأكثر تقدّما في العالم، وهكذا قبله السكان المسيحيون.

في نظر الفلسطينيين، سيطر اليهود على فلسطين في العصور القديمة لفترة قصيرة فقط. يستند ادعاء اليهود في السيطرة على البلاد إلى الوعد الذي تلقّوه من إلههم، وهو ليس سوى حيلة استعمارية. قدِم الصهاينة إلى البلاد في بداية القرن العشرين كحلفاء للاستعمار البريطاني. لم يكن لديهم أي حقّ في الهجرة.

معظم الفلسطينيين مستعدون الآن لتحقيق السلام والعيش في دولة فلسطينية ذات أبعاد مقلّصة إلى جانب إسرائيل، ولكن الحكومة الإسرائيلية ترفضهم. إنها تريد أن تحتفظ لصالحها بـ "أرض إسرائيل الكبرى" من أجل الاستيطان فيها، وأن تبقي بأيدي الفلسطينيين فقط أراض قليلة منفصلة عن بعضها البعض.

يمكن للعربي الفلسطيني الذي يعتقد أنّ هذه حقيقة مفهومة ضمنا العيش على مسافة بضعة مئات الأمتار عن اليهودي الإسرائيلي، الذي يرى أنّها مجموعة أكاذيب، من اختراع العرب المعادين للسامية (مصطلح يتناقض مع نفسه)، تهدف إلى تبرير إلقاء اليهود في البحر.

يعلم كل طفل يهودي في إسرائيل منذ مرحلة الطفولة المبكّرة أنّ الله قد منح البلاد لليهود، وأنّهم سيطروا عليها على مدى قرون طويلة، حتى أغضبوا الله وتم نفيهم، كعقاب مؤقت. والآن عاد اليهود إلى بلادهم، التي كان يسيطر عليها في تلك الأثناء شعب آخر، شعب غريب وصل من شبه الجزيرة العربية. وأصبح هذا الشعب وقحا ويزعم أن البلاد له.

وبما أن النظرة هكذا، فإنّ النسخة الإسرائيلية الرسمية تقول إنّه لا حلّ للصراع. علينا أن نكون مستعدّين للدفاع عن أنفسنا حتى أبد الآبدين. السلام هو وهم خطير.

تعارضت رؤية هرتسل الساذجة مع رؤية زئيف جابوتنسكي. تُحدد هذه الرؤيا- بصدق تماما - أنّ ليس هناك مثال على أنّ شعبا أصليّا تخلّى بمحض إرادته عن بلاده لصالح مستوطنين أجانب. ولذلك، كما قال، علينا أن نقيم "جدارا حديديا"، من أجل الدفاع عن استيطاننا في بلاد آبائنا.

كان جابوتنسكي، الذي كان طالبا في إيطاليا بعد تحررها، صاحب رؤيا ليبرالية. ولكن كان خلفاؤه في أيامنا، بنيامين نتنياهو والليكود، نقيضا تاما.

لقد كانوا سيصفّقون لو تسبب الله في اختفاء الفلسطينيين من بلادنا. بل إنهم مستعدون لمساعدته في العمل على تحقيق ذلك.

في الواقع، فإنّ مهمة الله سبحانه وتعالى في صراعنا آخذة بالازدياد طوال الوقت.

في البداية كانت مهمّته في الصراع صغيرة تماما. كان كل أبناء الجيل الصهيوني الأول تقريبًا - بما في ذلك هرتسل وجابوتنسكي أيضًا - ملحدين تماما. قيل حينذاك إنّ الصهاينة لا يؤمنون بالله، ولكنهم يؤمنون بأنّ الله قد منحنا البلاد.

والآن تغيّر هذا الموقف تماما - في كلا الجانبين.

في بداية الصراع، منذ بداية القرن الماضي، تمسّك العالم العربي كله بالقومية على النمط الأوروبي. كان الإسلام موجودا هناك دائما، ولكنه لم يشكّل القوة الدافعة. كان الأبطال القوميون العرب، مثل جمال عبد الناصر، قوميين عازمين، وعدوا بتوحيد العالم العربي وجعله قوة عالمية.

فشلت هذه القومية العربية فشلا ذريعًا. لم تتجذّر الشيوعية في العالم العربي أبدا. يجتاح الإسلام السياسي، الذي انتصر على السوفييت في أفغانستان، الآن قلوب العرب في كل مكان.

وبشكل غريب جدا، حدث شيء مشابه في إسرائيل بموازاة ذلك. منذ حرب الأيام الستة عام 1967، والتي أتمّت فيها إسرائيل احتلال البلاد المقدّسة، وخصوصا احتلال جبل الهيكل وحائط المبكى، بدأت الصهيونية العلمانية بالانسحاب وحلّت مكانها الصهيونية الدينية العنيفة.

في الثقافة السامية لم يتجذّر مبدأ الفصل بين الدولة والدين أبدا. إنه مصطلح أوروبي. في الإسلام وفي اليهودية أيضًا ليس هناك فصل بين الدين والدولة.

في إسرائيل يخضع الحكم اليوم إلى حكومة تسيطر عليها أيديولوجيّة اليمين الديني المتطرفة، بينما اليسار "العلماني" آخذ بالاختفاء.

يمر الشعب العربي الشيء نفسه - فقط بقوة أكبر. يتعزز تنظيم القاعدة، داعش وأشباههما في كل مكان. هناك بلدان عربية، مثل مصر، تحاول فيها الأنظمة الاستبدادية العسكرية إيقاف هذه العملية، ولكن أسسها هشّة.

يحذر القليل من بيننا، الملحدون الإسرائيليون، منذ عشرات السنين من هذا الخطر. اعتقدنا أن الدول القومية يمكنها أن تصل إلى تسوية وأن تحقق السلام، ولكن هذا اعتقاد شبه مستحيل بالنسبة للحركات الدينية.

أنا مقتنع أنّ المصلحة الوجودية الإسرائيلية تقضي بصنع السلام مع الشعب الفلسطيني، ومع كل الدول العربية، قبل أن تغمر هذه الموجة الخطيرة وجه العالم العربي والإسلامي.

لا يزال قادة الشعب الفلسطيني، في الضفة الغربية وأيضًا في قطاع غزة، أشخاص معتدلين نسبيًّا. وهذا ينطبق أيضًا على حماس، المعروفة كحركة دينية.

أعتقد أنّ العالم الغربي أيضًا لديه مصلحة كبيرة في أن يسود السلام في منطقتنا. إنّ الاضطرابات التي تعصف الآن بالدول العربية لا تبشّر بالخير أيضًا.

عندما قرأت هذا الأسبوع تقرير "اللجنة الرباعية" (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا، والأمم المتحدة) حول الشرق الأوسط دُهشت من السخرية المنعكسة فيه. إنها سخرية من الدمار الذاتي. تحرص هذه الوثيقة السخيفة على "التوازن" وتلقي بالمسؤولية على المحتلّ والواقع تحت الاحتلال، على المضطهِد والمضطهَد، مع التجاهل التامّ لواقع وجود الاحتلال. في الواقع، هذه الوثيقة هي نفاق، يُدعى أيضًا دبلوماسيّة.

من دون احتمالات لبدء عملية سلام جادة، ستنمو الكراهية أكثر وأكثر، حتى تغرقنا الموجة العكرة جميعا، إلا إذا نجحنا فعلا في إيقافها في الوقت المناسب.