|
||
يبدو لي أنّ الحكومة الإسرائيلية تتعامل مع هذه الحركة الآن كتهديد من الدرجة الأولى - أكثر من داعش أو إيران. ساحة المعركة الرئيسية هي العالم الأكاديمي. يدير الأنصار المتعصّبون لـ BDS جدالات حادّة ومريرة مع أنصار إسرائيل، والذين لا يقلّون عنهم تعصّبا. يستخدم كلا الطرفين مجادلين خبراء، أساليب دعائية، ادعاءات كاذبة، وأكاذيب حقيقية. إنه جدل قبيح، ويصبح الآن أكثر قبحا. وقبل أن أعبّر عن موقفي حول ذلك، أريد أن أكون أكثر دقيقا في الخطاب. على ماذا يدور الجدل؟ في السبعينات الماضية، منذ سنّ 23، كرستُ حياتي للسلام؛ السلام اليهودي العربي، السلام الإسرائيلي الفلسطيني. يتحدث الكثير من الناس من كلا الطرفين عن السلام. قال الفيلسوف البريطانيّ المعروف، الدكتور جونسون، إنّ "الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد". عندنا يمكن القول الآن إنّ الحديث عن "السلام" هو الملاذ الأخير لناشر الكراهية. فما معنى السلام؟ يُصنع السلام بين الأعداء. الافتراض هو أن كلا الطرفين حيّ وموجود. عندما يقضي أحد الطرفين على الطرف الآخر، كما قضت روما على قرطاج، ورغم حقيقة أن هذا قد وضع حدّا للحرب، ولكنه ليس سلامًا. إن معنى السلام ليس فقط أن كلا الطرفين قد أوقفا الأعمال العدائية. بل معناه السلام هو التصالح بين الأحياء معًا واحدا بجانب الآخر، ومع القليل من الحظ اتباع التعاون أيضا، وفي النهاية أيضًا إبداء التعاطف المتبادل بينهما. لذلك، فالحديث عن الرغبة في السلام مع رعاية الكراهية المتبادلة؛ لا يعني السلام. المقاطعة هي أداة شرعية في الكفاح السياسي. المقاطعة هي أحد الحقوق الأساسية الإنسانية. لكل إنسان الحق في الشراء أو عدمه كما يحلو له. يحق لكل إنسان أن يطلب من الآخر أن يشتري أو لا بضاعة ما، أيا كان تفسير ذلك. وكدليل على ذلك: يقاطع ملايين الإسرائيليين المتاجر والمطاعم التي "ليست موافقة للشريعة اليهودية". إنهم يعتقدون أنّها وصية الله تبارك وتعالى. ولأنني ملحد تماما، فلا أنتمي إلى هذا الجمهور. ولكني أحترم موقف المتدينين. عندما وصل النازيون إلى الحكم، أعلن يهود الولايات المتحدة مقاطعة ألمانيا. ردّ النازيون بإعلان المقاطعة ليوم واحد على المتاجر التي يملكها يهود. كنت حينذاك في التاسعة من عمري ولا زلت أذكر المنظر جيّدا: يرتدي بلطجية قمصانًا بنّية، يحملون في أيديهم لافتات مكتوب عليها "أيها الألمان، دافعوا عن أنفسكم! لا تشتروا من متاجر اليهود!" وفي بلادنا؟ أُعلنت المقاطعة الأولى ضدّ الاحتلال من قبل "كتلة السلام"، وهي حركة السلام التي أنا ناشط فيها. كان ذلك قبل ولادة حركة BDS بفترة طويلة. كانت دعوتنا موجّهة إلى الجمهور الإسرائيلي. دعونا إلى مقاطعة منتجات المصانع الواقعة في الأراضي المحتلة؛ الضفة الغربية، قطاع غزة، وهضبة الجولان. ومن أجل التسهيل على المواطنين، نشرنا قائمة بهذه المصانع. (سيتم نشر قائمة محدّثة قريبا). شاركت أيضًا في محادثات مع ممثّلين في الاتحاد الأوروبي، في البلاد، وفي بروكسل. حاولنا إقناعهم بعدم دعم المستوطنات. مرّ زمن طويل حتى قرّر الأوروبيون أخيرا أنّه تجب الإشارة إلى منتجات المستوطنات بوضوح. قرار الشراء أو عدمه، لأي سبب كان، هو شخصي. ولذلك من الصعب معرفة عدد الإسرائيليين الذين استجابوا وما زالوا يستجيبون إلى دعوتنا. انطباعنا هو أن العدد كبير جدّا. لم ندعو إلى مقاطعة إسرائيل كلها. في رأينا، هذا يتناقض مع الهدف. عندما يواجه الإسرائيليون تهديدا على دولتهم، فإنّهم يتكتّلون. أي إنّ ذلك يدفع الإسرائيليين العقلاء، ذوي النيات الحسنة، إلى أذرع المستوطِنين. وفي الواقع فإنّ هدفنا معاكس تماما: الفصل بين الجمهور العام وبين المستوطِنين. هناك وجهة نظر مختلفة تماما لحركة الـ BDS. لقد تأسست من قبل فلسطينيين وطنيين، وهي موجّهة إلى الجمهور العالمي. إنها لا مبالية تماما لمشاعر الإسرائيليين. لا تحتاج الحركة الاحتجاجية إلى برنامج سياسي مفصّل. يكفيها المقصد العام بوضع حدّ للاحتلال والسماح للشعب الفلسطيني بإقامة دولته الحرّة في الأراضي المحتلة. ولكن، نشرت حركة الـ BDS مع تأسيسها برنامجا سياسيا واضحا. وهنا تبدأ المشكلة. يتضمّن البرنامج المعلن لـ BDS ثلاثة بنود: إنهاء الاحتلال والمستوطنات، ضمان المساواة للعرب في إسرائيل، وعودة اللاجئين. إنه يبدو برنامجا سهلا، ولكنه ليس كذلك. لا يذكر البرنامج السلام مع إسرائيل، ولا حلّ الدولتَين. ولكن، تكمن اللدغة الرئيسية في البند الثالث. إنّ خروج نصف أبناء الشعب الفلسطيني من منازلهم خلال حرب 1948 - هرب بعضهم من القتال الطويل والوحشي وطُرد بعضهم الآخر من قبل القوات الإسرائيلية - وهذه قصة معقّدة. كجندي مقاتل كنت شاهدا وكتبت عن ذلك في كتبي. (الجزء الثاني من مذكراتي نُشر مؤخرا). الشيء الأساسي هو أنه في نهاية الحرب لم يُسمح للاجئين بالعودة إلى منازلهم. أعطيت منازلهم وأراضيهم للمهاجرين اليهود، والذين كان الكثير منهم من الناجين من الكارثة. إن طموح إعادة الأمور كما كانت هو واقعي بقدر ما هو واقعي طلب عودة الأمريكيين إلى بلاد أجدادهم، وأن تُعاد الأرض إلى السكان الأصليين. معنى هذا الطلب هو القضاء على دولة إسرائيل وإقامة دولة فلسطين في كل الأرض الواقعة بين البحر والنهر، دولة تعيش فيها غالبية عربية وأقلية يهودية. كيف يمكن تحقيق ذلك من دون حرب ضدّ دولة مزوّدة بقنابل نووية؟ ما العلاقة بين ذلك وبين السلام؟ أقر جميع الفلسطينيين الجادّين الذين اهتموا في السنوات الأخيرة في المفاوضات بهذا الواقع بهدوء. تحدثت مع ذلك أكثر من مرة مع ياسر عرفات. الاتفاق الضمني هو أن تعيد إسرائيل ضمن الاتفاق الأخير عددا رمزيا من اللاجئين، وأن تُدفع تعويضات عادلة للبقية. هذا متضمّن في "حلّ الدولتين". إنها خطة سلام. في الواقع، إنها خطة السلام الوحيدة القائمة. لا تبدو أهداف الـ BDS كخطط سلام. يبدو الطرف الآخر في الجدالات أقل طموحا للسلام. جحافل من "الدعائيين" الصهاينة - بعضهم مهنيين مأجورين - تجتاح جمهور الطلبة الجامعيين من أجل إيقاف هجمة الـ BDS وصدّها. نقطة انطلاقهم هي نفي الحقائق الأكثر وضوحا: تضطهد دولة إسرائيل الشعب الفلسطيني، يحوّل الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يرحم حياة الفلسطينيين إلى جهنّم، أصبح "السلام" كلمة سيئة في إسرائيل. (قبل عدة أيام أعلن محلل تلفزيوني، ليس مازحا تماما قائلا: "لقد مرّ خطر السلام!"). الطريقة الأبسط لتشويه سمعة أعضاء الـ BDS وإخراجهم من القانون هي اتهامهم بمعاداة السامية. فهذا سيضع حدّا لكل جدل جادّ في دول الخارج، وخصوصا في ألمانيا. الأشخاص الذين ينكرون الكارثة هم ليسوا شركاء في النقاش. ليس هناك أي دليل على أنّ معظم مؤيدي الـ BDS هم معادون للسامية. أنا على قناعة أنّ غالبيّتهم العظمى مؤلفة من مثاليين مخلصين، متعاطفين مع الفلسطينيين المضطهدين - كما أن اليهود في كل الأزمة والبلاد هرعوا لمساعدة المضطهدين، بدءًا من المزارعين الروس في روسيا القيصرية وصولا إلى السود في الولايات المتحدة. ولكن ينبغي الاعتراف أنّ بعض أعضاء الـ BDS يطلقون تصريحات ذات رائحة نفاذة ومعروفة لمعاداة السامية. وليس هذا عجيب: فلمعادو السامية الحقيقيون من النوع القديم تشكّل الـ BDS ملاذًا آمنًا. فباستطاعتهم هناك الوعظ بتعاليمهم المثيرة للاشمئزاز متنكّرين بمعاداة الصهيونية ومعاداة إسرائيل. وأرغب بتحذير الفلسطينيين وأصدقائهم الحقيقيين (مجدّدا)، من أنّ معادي السامية هم أخطر أعدائهم. معادو السامية هم من يدفع اليهود في جميع أنحاء العالم نحو الاستيطان في إسرائيل. لا تهم المشكلات الحقيقية الفلسطينية معادي السامية إطلاقا. إنهم يستغلون محنة الفلسطينيين من أجل نشر سمّهم القديم. والعكس صحيح: فإنّ اليهود الذين يركبون على الموجة الجديدة لكراهية الإسلام، انطلاقا من الاعتقاد الخاطئ أنّ ذلك سيساعد إسرائيل، يرتكبون هم أيضًا خطأ خطيرا. كان كارهو الإسلام اليوم كارهي اليهود أمس فحسب، وسيكونون كارهين لليهود مجدّدا غدا. الفلسطينيون بحاجة إلى السلام من أجل التخلّص من الاحتلال، والحصول نهائيا على الحرية، الاستقلال، والحياة الطبيعية. الإسرائيليون بحاجة إلى السلام، لأنّه من دونه فسنغرق أكثر فأكثر في أوحال حرب أبدية. نحن نفقد الديمقراطية التي كنا نفخر بها، ونتحول إلى دولة أبارتهايد (فصل عنصري) حقيرة. الجدال مع الـ BDS قد يزيد من الكراهية المتبادلة، ويعمّق الهوة بين الشعبين، ويوسّع الشرخ بينهما. من شأن التعاون الوثيق بين معسكري السلام من كلا الطرفين فقط أن يحقق الحلم الوحيد الذي يحتاجه كلاهما بشكل ماسّ: السلام. |