|
||
إنها مرحلة جديدة في صراع قديم. وما يميّز هذه المرحلة هو الفلسطيني الوحيد - من القدس الشرقية، من الضفة الغربية أو من إسرائيل نفسها. هذا الإنسان غير مرتبط بأية حركة فلسطينية. قبل العملية لم تكن له أية علاقة معروفة مع أي تنظيم كان. هو (أو هي) غير معروفين مطلقا من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية. ولذلك لا يمكن منع مثل هذه العمليات. في صباح ما يستيقظ الشهيد - المستقبلي، يسحب سكين مطبخ طويلة، يذهب إلى حيّ يهودي ويطعن أقرب إسرائيلي - وإذا كان بالإمكان جندي، ولدى غياب الجندي - أي مواطن إسرائيلي كان، سواء كان رجلا أو امرأة أو عجوزا أو حتى طفلا. يعلم منفّذ العملية أنّه سيُقتل في المكان، على الأرجح. يريد أن يصبح "شهيدا" ("شاهدا على التعاليم الدينية"، وهو مصطلح إسلامي). في الانتفاضات السابقة، كان المهاجمون غالبا أعضاء في تنظيم أو خلية. تسلّل إلى هذه الخلايا دائما خونة مأجورون، وتم الإمساك بجميع المنفّذين، عاجلا أو آجلا. تم منع الكثير من العمليات. ولكن الانفجار الحالي مختلف. لأنّ العمليات تتمّ من قبل أفراد، وليس هناك جواسيس أو مخبرون يعلمون بذلك. لا يمكن منع العملية مسبقا. يمكن للعمليات أن تحدث في كل مكان، في كل وقت - في القدس، في سائر الأراضي المحتلة، أو في وسط إسرائيل نفسها. كل إسرائيلي، في كل مكان، يمكن أن يُصاب. ومن أجل مشاهدة الصورة كاملة، يجب أن نضيف إلى ذلك الشبان الفلسطينيين من ملقي الحجارة على طول الشوارع. فجأة، بشكل عفوي، تتجمع مجموعة من الشبان، عادة ما يكونون من أبناء المكان، في سن المراهقة. يلقون الحجارة أو الزجاجات الحارقة تجاه السيارات التي تمرّ، بعد أن يتأكدوا أنّها سيارات لإسرائيليين يهود. في بعض الأحيان ينضمّ إليهم أطفال، يسعون إلى إثبات شجاعتهم وإخلاصهم لله. لقد تم إلقاء القبض على أحد الأطفال في سنّ الثالثة عشرة. تنتهي حوادث إلقاء الحجارة أحيانا بموت السائق، الذي يفقد السيطرة على المقود. يردّ الجيش بالغاز المسيل للدموع، بالرصاص الفولاذي المغطّى بالمطّاط (والذي يؤلم جدا ولكن غالبا لا يقتل) وأيضا بالذخيرة الحيّة. بدأت حالة الانفجار الحالية، التي لم تجد لها حتى الآن اسما متفقا عليه، قبل أسابيع معدودة في القدس الشرقية. يمكن القول: كما هو معتاد. في المدينة القديمة في القدس هناك المكان المقدس، الذي يسميه اليهود "جبل الهيكل" أما العرب فيسمّونه "الحرم القدسي الشريف". قديما كانت تقع في المكان المعابد اليهودية. عندما هدم الرومان الهيكل الثاني، قبل نحو 1945 عاما، تم تدنيس المكان من قبل المسيحيين، الذين حولوه إلى تلة من القمامة. عندما احتُلّ المكان من قبل الخليفة عمر، وهو رجل ذو طابع إنساني بشكل خاصّ، أمر بتنظيفه. وأقيم هناك المكانان المقدّسان للمسلمين - قبة الصخرة الجميلة، ذات القبة الذهبية، والموقع الأكثر قداسة - وهو المسجد الأقصى ("أي البعيد"). وهو الموقع الثالث في قداسته في الإسلام. إذا كان أحد ما يبحث عن المتاعب، فهذا هو المكان للبدء. إن الدعوة بأن الأقصى في خطر تثير غضب كل فلسطيني وكل مسلم في جميع أنحاء العالم. إنها تثير ليس فقط المتعصّبين المتديّنين، وإنما أيضًا المسلمين المعتدلين (كما هم معظم العرب). إنها دعوة للسلاح، دعوة للتضحية بالنفس. حدث هذا السيناريو مرتين في الماضي. اندلعت "أعمال الشغب" التي قُتل فيها العديد من أبناء الجالية اليهودية القديمة في الخليل، عقب استفزاز يهودي غبي قرب الحائط الغربي. اندلعت الانتفاضة الثانية بسبب زيارة أريئيل شارون الاستفزازية إلى جبل الهيكل، بموافقة رئيس الحكومة إيهود باراك. وقد بدأت الأحداث الحالية بسبب زيارة أعضاء يمينيين إسرائيليين متطرّفين، ومن بينهم وزير وأعضاء كنيست، إلى جبل الهيكل. هذه الزيارة ليست محظورة بذاتها (باستثناء الحاريديم، الذين فُرض عليهم حظر وفقا للشريعة اليهودية لأنّه في المكان الذي فيه قدس الأقداس يحظر على اليهودي أن يمشي، ولا يعلم أحد أين كان ذلك بالضبط). يشكل المكان موقعًا سياحيًّا مطلوبًا. ومن أجل ترتيب الأمور، تقرر شيء يدعى "الوضع الراهن" (في اللاتينية: "الوضع الذي" وهو اختصار للتعبير "الوضع الذي كان قائما قبل ذلك"). عندما احتلّ الجيش الإسرائيلي القدس الشرقية في حرب الأيام الستة، تقرر أن يكون موقع جبل الهيكل تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن تحت إدارة من قبل أجهزة أردنية. لماذا أردنية؟ لأن إسرائيل لم توافق على أن يدار من قبل فلسطينيين. سُمح لليهود بالدخول إلى الموقع، ولكن دون أن يصلّوا فيه. يدعي بنيامين نتنياهو أنّ الوضع الراهن لم يُمسّ. ولكن الحقيقة هي أنّه بدأت مجموعات من المتعصّبين الإسرائيليين، مؤخرًا، بالدخول إلى الموقع برعاية الشرطة الإسرائيلية والصلاة فيه. ففي نظر المسلمين يعتبر هذا انتهاك صارخ للوضع الراهن. فضلا عن ذلك، كانت هناك دعاية لنشاطات المجموعات اليهودية، التي تخطط لبناء الهيكل الثالث، بعد تدمير المقدّسات الإسلامية. يجهّز هؤلاء المتعصّبون الملابس والأدوات التي يُفترض، بحسب التوراة، أن تُستخدم في الممارسات المقدسة في الهيكل. في الأوقات العادية، وفي مكان طبيعي، كان بالإمكان ترتيب الأمور بطرق السلام. ولكن ليس في جبل الهيكل، وليس في هذا العصر، حيث يحتلّ المستوطنون اليهود موطئ قدم في القرى المحيطة بجبل الهيكل. في جميع أنحاء الأراضي المحتلة وأيضا في أوساط المواطنين العرب في إسرائيل نفسها تصدر دعوة أنّ الأماكن المقدسة في الإسلام في خطر. يصرخ رئيس الحكومة ورجاله أنّ هذه مجموعة من الأكاذيب. يأخذ شبان فلسطينيون سكينا ويطعنون الإسرائيليين، وهم يعلمون تماما بأنّهم سيدفعون مقابل ذلك بحياتهم. يدعو القادة الإسرائيليون المواطنين اليهود إلى حمل السلاح في كل وقت وإطلاق النار فورا عندما يلاحظون وجود عملية إرهابية. والآن هناك حوادث معدودة كهذه كل يوم. في هذا الشهر فقط قُتل ثمانية يهود، بالإضافة إلى 18 مشتبه به و 20 فلسطينيًّا آخرون. ولا تشمل هذه الأرقام اليهودي الذي أطلقت عليه النار هذا الأسبوع حتى الموت لأنّه كان مشتبه به أنه إرهابي. هذه هي خلفية الرعب الذي يُغيّم على بئر السبع. جرت الحادثة في محطة الحافلات المركزية في عاصمة النقب، وهي مدينة فيها نحو 250 ألف يهودي. والمدينة محاطة بخيام وبلدات بدوية. أصيب في الحادثة ثلاثة أشخاص. كان الأول جنديا في التاسعة عشرة من عمره، وهو عمري ليفي. نزل من الحافلة ودخل إلى مبنى المحطة، ومن ثم قُتل هناك من قبل منفّذ العملية العربي الذي اختطف سلاحه. لا نعلم كثيرا عن الجندي، فهو شاب ذو مظهر محبّب، يبلغ من العمر 19 عاما. الشخص الثاني هو المهاجم، محمد العقبي، في الحادية والعشرين من عمره. بشكل مفاجئ جدّا كان بدويا من المنطقة، ليس لديه ماض "أمني". هذا مفاجئ، لأنّ البدو يتطوّعون في الجيش والشرطة ويتعلّمون في جامعة بئر السبع. ولكن هذا لا يمنع الحكومة من محاولة سلب أراضيهم وتوطينهم في بلدات مكتظّة. ولا يعلم أحد لماذا قرّر ابن الصحراء هذا، عندما استيقظ في ذلك اليوم، بأن يكون شهيدا وأن ينفذ العملية. فوجئت عشيرته بذلك، كجميع الآخرين. يبدو أنه أصبح متديّنا جدّا وتأثر من الأحداث في جبل الهيكل. وسوى ذلك، مثل جميع البدو في النقب، فقد تأثر بالتأكيد على ضوء محاولات الحكومة في سلب أراضيهم. ولذلك أطلق النار على المارّة. من غير الواضح إذا كان قد أطلق النار من مسدّس كان بيده، أو من سلاح اختطفه من الجندي. حتى بعد أن قرأتُ آلاف الكلمات، فإنّ الأمر ما زال مبهما لي. ولكن من شدّ معظم الانتباه لم يكن الجندي أو منفّذ العملية، وإنما الضحية الثالثة. كان اسمه هبطوم زرهوم، وهو لاجئ في التاسعة عشرة من عمره من إريتريا - واحد من خمسين ألف إفريقي اجتازوا حدود النقب بشكل غير مشروع. لقد كان بريئا من كل جريمة. فقد دخل صدفة إلى مبنى المحطة بعد العملية، وظنّ بعض الواقفين جانبا عن طريق الخطأ أنّه شريك في العملية. لم يكن لديه مظهر يهودي حقّا. أطلِقت النار عليه فأصيب. وعندما كان ملقى على الأرض، مضرجا بالدماء وعاجزا، هوجم من قبل من كانوا في المكان، وركلوه من كل حدب وصوب. ركله البعض على رأسه، وضربه البعض الآخر بكرسي وبطاولة. عندما وصل إلى المستشفى كان ميتا. تم تصوير كل شيء بسرور من قبل الواقفين جانبا بهواتفهم النقالة، وخلال وقت قصير عُرض ذلك بشكل موسّع في جميع القنوات التلفزيونية. (أظهر التحليل الذي تم بعد موته بأنّ الرصاصات هي التي أدت في نهاية المطاف إلى وفاته). لا يمكن التهرّب من حقيقة أنّه كان حادثا من العنصرية الضارية، حرفيّا. يمكن أن نفهم بشكل ما التعامل الوحشي مع منفّذي العمليات الجرحى - لا أن نبرّر ولا أن نسامح، ولكن على الأقل أن نفهم. لدينا صراع مستمر ما يزيد عن 130 عاما، وفي كلا الجانبين نشأت أجيال في أجواء من الكراهية. ولكن طالبي اللجوء؟ في إسرائيل الجميع يكرههم تقريبا. لماذا؟ فقط لأنهم غرباء، ليسوا يهودا. حتى لون بشرتهم لا يمكن أن يوفر تفسيرا كاملا - فلدينا يهود داكني البشرة، من مهاجري إثيوبيا، وهم مقبولون "مثلنا". لقد كان الفعل الشنيع من الإعدام خارج نطاق القانون للضحية هبطوم زرهوم وهو يحتضر قبيحا تماما ومثيرا للاشمئزاز. كان يمكن لذلك أن يجعل الإنسان يائسا من دولة إسرائيل، لو لم يحكي القصة أحد المارّة المجهولين، وهو مئير سقا، سائق يهودي في منتصف العمر، عاد إلى المكان وقصّ القصّة في التلفزيون، وهو يعترف بأنّه غير قادر على النوم منذ ذلك الحين. حكى القصة باكيًّا. |