اوري افنيري 

الصليبيون والصهيونيون / أوري أفنيري


تظهر مؤخرًا الكلمتان "الصليبيون" و "الصهيونيون" أحيانًا كثنائي. ظهرت الكلمتان معًا في فيلم وثائقي شاهدته مؤخرًا عن داعش في كل جملة تقريبًا نطق بها المقاتلون الإسلاميون، ومن بينهم فتيان.

كتبتُ قبل ستين عامًا مقالا كان عنوانه كما يلي تمامًا: "الصليبيون والصهيونيون". يقولون أنه كان الأول حول الموضوع.

أثار هذا المقال معارضة كبيرة. واعتقدوا في ذلك الحين أنه ليس هناك تشابه أيًّا كان، لا سمح الله. خلافًا للصليبيين، فاليهود هم قوم. وخلافًا للصليبيين، الذين كانوا ذوي مستوى ثقافي منخفض مقارنة بالمسلمين الحضاريين في ذلك الوقت، فالصهيونيون هم من ذوي المستوى التقني المرتفع جدًا. على عكس الصليبيين، فالصهيونيون يعملون عملا جسمانيًّا. (كان ذلك طبعًا، قبل حرب 1967).

قد رويت عدة مرات قصة ميْلي إلى تاريخ الصليبيين، ولكنني لست قادرًا على الصمود أمام إغراء سردها مرة أخرى.

في حرب 1967، حاربت سرية "ثعالب شمشون" والتي كنت عضوًا فيها في الجبهة الجنوبية. عند انتهاء الحرب، بقي قطاع الساحل الضيق على طول البحر بين أيدي المصريين. سميناه "قطاع غزة"، وأقمنا حوله عددًا من نقاط المرابطة.

بعد ذلك ببضع سنوات، قرأت الأعمال التذكارية للمؤرخ البريطاني ستيفن رنسيمان، "تاريخ الحروب الصليبية".‬ لفتت انتباهي حالا صدفة غريبة: بقي بعد الحملة الصليبية الأولى قطاع على طول شاطئ البحر، وصل حتى أشكلون، بين أيدي المصريين. بنى الصليبيون حوله عددًا من التحصينات، تقريبًا في نفس الأماكن التي فيها نقاط المرابطة الخاصة بنا.

عندما انتهيت من قراءة مجلدات الكتاب الثلاثة، قمت بعمل لم أقم به من قبل ولا بعد ذلك أيضًا: كتبت رسالة إلى الكاتب. أثنيت على إبداعه وسألته: هل فكرت ذات مرة أن هناك تشابهًا أيًّا كان بينهم وبيننا؟

وقد تلقيت إجابة في غضون أيام. كتب رنسيمان، أنه لم يفكر في ذلك فحسب، بل أنه فكر في ذلك كل الوقت. إلى درجة، أنك فكرت أن تسمي الكتاب باسم تحت عنوان ثانوي: "المرشد العملي للصهيونيين حول كيف يمكنهم القيام بهذا". لكن، زملاءه اليهود، نصحوه بالامتناع عن ذلك، قال رنسيمان. وأضاف دعوة: إذا تسنى لي زيارة لندن ذات مرة، فسيكون مسرورًا إذا زرته.

وبعد نحو شهرين، سنحت لي الفرصة زيارة لندن واتصلت به هاتفيًّا. ودعاني لزيارته حالا.

(على فكرة، كان اسم رنسيمان معروفًا لي. والده، ولطر الذي كان يحمل لقب نبالة، أرسله عام 1938 رئيس الحكومة البريطانية، نيفيل تشامبرلين، في بعثة وساطة بين ألمانيا النازية وتشيكوسلوفاكيا. وقد أحدث فوضى عالمية عندما تقدم بالتحية إلى مستضيفه الألمان بتحية "يحيا هتلر".

وعندما قرعت جرس بابه، فتح ستيفن رنسيمان الباب بنفسه، جنتلمان إنكليزي، طويل القامة، وعمره نحو خمسين عامًا. وبما أنني أحب الإنجليز حبًا من الدرجة الأولى، سحرتني آدابه الأرستقراطية.

بعد تناول كأس من الشيري، دخلنا في جدل حول التشابه الصليبي الصهيوني ولم ننتبه للوقت أبدًا. قارنا طوال ساعات بين الأحداث وبين الشخصيات. من كان هرتسل الصليبي (البابا أوربان)، ومن كان بن غوريون الصليبي (جودفري بلدوين؟)، من هو رينالد دي شاتيلون (موشيه ديان)، من هو نظير رايمون من طرابلس الإسرائيلي، الذي أراد صنع السلام مع المسلمين (أشار رينسمان بآداب إليّ).

وبعد سنوات، دعا رينسمان زوجتي راحيل وأنا لزيارته في برج حماية اسكتلندي قديم، والذي كان قد وصل إليه من لندن، وهو بناية بُنيت في ذلك الحين بهدف الحماية من الإنجليز. وخلال وجبة العشاء، روى لنا رينسمان عن الأشباح التي تسكن في المكان. تفاجأنا راحيل وأنا عندما اتضح لنا أنه يؤمن بذلك حقًا.

فصلت ستمائة سنة على الأقل بين الحركتين، والخلفية السياسية، الاجتماعية، الحضارية والعسكرية الخاصة بكلتيهما، طبعًا، تختلف كليًّا. ولكن هناك بعض أوجه الشبه.

لقد اجتاح الصليبيون والصهيونيون (مثلا، الفلستيون الذين كانوا قبلهم) البلاد من الغرب. عاشوا في حين كان ظهرهم باتجاه البحر وأوروبا، ووجههم أمام العالم العربي المسلمي. عاشوا في حرب مستمرة.

في ذلك الحين، دعم اليهود العرب. لقد أثرت المذابح المروّعة التي قام بها جزء من الصليبين بحق فئات يهودية على طول نهر الراين في طريقهم إلى البلاد تأثيرًا عميقًا في الوعي اليهودي.

فبعد أن احتلوا القدس، ارتكب الصليبيون جريمة وحشية أخرى. ذبحوا كل سكان المدينة، من اليهود والمسلمين، الرجال والنساء والأطفال. وفقًا للمؤرخ المسيحي في ذلك الوقت، "وصل الدم إلى الركب".

لقد حارب اليهود في حيفا وهي إحدى المدن الأخيرة التي سقطت في أيدي الصليبيين، بجرأة إلى جانب جنود حرس المسلمين.

ترعرعت في شبابي على كره الصليبيين، ولكنني لم أدرك أن المسلمين كانوا يكرهونهم أكثر بكثير. لقد أدركت ذلك عندما طلبت من الكاتب إميل حبيبي التوقيع على بيان من أجل حكم إسرائيلي فلسطيني مشترك في القدس. لقد ذكرت في البيان كل الحضارات التي أثرَت المدينة سابقًا، ومن بينها الفترة الصليبية. وعندما أدرك حبيبي أنني ذكرت الصليبيين في المستند، رفض التوقيع. "كانوا عصابة من المقاتلين!" قال. ولذلك كنت مضطرًا إلى حذفهم لكي يوقع.

عندما يجمع العرب بيننا وبين الصليبيين، فهم يريدون القول إننا لسنا سوى غزاة، ونحن غرباء في البلاد والمنطقة.

ولذلك فإن المقارنة خطرة جدًا. إذا كانت هناك كراهية كبيرة لدى العرب تجاه الصليبيين بعد ستمائة سنة، فكيف سيتصالحون معنا ذات مرة؟

وبدلا من إضاعة الوقت في الجدال حول السؤال هل هناك تشابه أم لا، من المجدي لنا تعلم تاريخ الصليبيين.

يتطرق السؤال الأول إلى الهوية. من نحن؟ هل نحن أوروبيون نتجابه مع منطقة معادية؟ هل نحن "جدار ضد البربرية الآسيوية"، وفقًا لما أعلن عنه بنيامين زئيف هرتسل؟ هل نحن "فيلا في أدغال"، وفقًا لإعلان إيهود باراك المشهور؟

باختصار، هل نرى أنفسنا تابعين لهذه المنطقة أم أننا أوروبيون وصلنا عن طريق الخطأ إلى القارة غير الصحيحة؟

برأيي، هذا هو السؤال المركزي للصهيونية منذ يومها الأول. فهي أمْلَت وما زالت تُملي أعمالنا حتى يومنا هذا. عرضتُ في كراسة نشرتها عشية حرب 1967 تحت اسم "حرب أو سلام في الإقليم السامي"، طرحت هذا السؤال منذ الجملة الأولى.

من وجهة نظر الصليبيين فهذا لم يكن سؤالا أبدًا. فهم كانوا براعم الفروسية الأوروبيون، وجاءوا لمحاربة الإسلام. في الحقيقة، أحيانًا وقعوا على اتفاق "هدنة" مع المسلمين، وخاصة أمراء دمشق، ولكن الحرب كانت ملخص وجودهم. وبقي القلائل الذين سعوا من أجل صنع السلام والتسوية، أمثال رايمون من طرابلس في الهامش.

تتواجد إسرائيل في وضع شبيه. صحيح، أننا لا نعترف أبدًا بأننا نطمح إلى الحرب، وندعي أن العرب هم من يرفض صنع السلام. ولكن، ترفض دولة إسرائيل منذ يومها الأول تحديد حدودهم، وهي على استعداد أحيانًا لبسط سيطرتها بالقوة - تمامًا مثل الصليبيين. واليوم، بعد 65 عامًا منذ قيام الدولة، يتطرق ما يزيد عن نصف الأخبار اليومية في وسائل الإعلام لدينا بشكل أو بآخر إلى الحرب ضد العرب، داخل الدولة وخارجها. (قبل أسبوعين، طلب وزير الزراعة، يائير شمير، اتخاذ التدابير للحد من نسبة الولادة لدى البدو في النقب - أشبه بفرعون في القصة التوراتية).

تعاني دولة إسرائيل من شعور عميق من فقدان الثقة، والذي يتجسد بآلاف الأشكال المختلفة. وبما أن الدولة تشكل من نواحي كثيرة قصة نجاح وكذلك دولة عظمى عسكريًّا على المستوى العالمي، فإن الشعور بعدم الأمن يثير الدهشة. أعتقد أن مصدر الشعور يعود إلى عدم انتمائنا إلى المنطقة التي نعيش فيها. نحن فيلا في الأدغال، أو لمزيد من الدقة جيتو محصن في هذه المنطقة.

يمكن القول إن هذا الشعور هو شعور طبيعي، لأن معظم الإسرائيليين هم من أصل أوروبي، ولكن في الحقيقة هذا ليس صحيحًا. 20%‏ من مواطني إسرائيل هم من العرب. من بين المواطنين اليهود، قدم، على الأقل - هم أو ذووهم- من بلاد عربية، وتحدثوا فيها العربية واستمعوا إلى الموسيقى العربية. تحدث وكتب كبار الفلاسفة الشرقيين، الرمبام، العربية وكان الطبيب الخاص بصلاح الدين، القائد المسلمي الكبير. كان يهوديًا عربيًا تمامًا كما كان باروخ سبينوزا يهوديًا برتغاليًّا وكان موزيس ميندلسون يهوديًا ألمانيًا.

هل كان الصليبيون أقلية أرستقراطية في البلاد، كما يدعي المؤرخون الصهيونيون بشدة؟ هذا يعود إلى من يروي ذلك.

عندما وصل كبار الصليبيين إلى البلاد، كان معظم مواطنيها من المسيحيين، أعضاء صفوف دينية شرقية. ولكن، نظر إليهم الغزاة الكاثوليك على أنهم منحطون. حظي النصارى المحليون، بمعاملة احتقار وتمييز. فقد شعروا أنهم أقرب إلى العرب مقارنة بـ "الإفرنج" المبغوضين، ولم يمارسوا الحداد عندما تم طردهم أخيرا من البلاد. واعتنق معظم هؤلاء المسيحيين الإسلام على مر الوقت، وهم آباء الكثير من الفلسطينيين المسلمين في أيامنا.

درس واحد من المجدي لنا تعلمه أنه علينا أن نولي اهتمامًا للهجرة. كانت حركة نشطة من القادمين والمهاجرين في المجتمع الصليبي. ويدور الآن جدال صاخب لدينا حول الهجرة. يسافر شبان، ومعظمهم مثقف، مع عائلاتهم إلى برلين ودول أوروبية وأمريكية أخرى. نفحص سنويًّا بقلق الوضع لدينا: كم من اليهود قدموا إلى إسرائيل بسبب معاداة السامية وكم إسرائيليًّا فر بسبب الحروب والتطرف اليميني إلى أوروبا؟ بالنسبة للصليبيين، كانت تلك مأساة.

أحد الأسباب لذلك هو أن الصهيونيين يرفضون رفضا تاما مقارنتهم بالصليبيين وذلك بسبب نهايتهم المأسوية. بعد فترة دامت نحو مائتي سنة في البلاد، وفيها الكثير من المد والجزر، تم إلقاء آخر الصليبيون إلى البحر، حرفيّا، عبر رصيف ميناء عكا. إسحاق شمير، والد يائير المذكور آنفا، استخدم تعبيرًا اصطلاحيًّا "البحر هو البحر ذاته والعرب هم ذات العرب".

طبعًا، لم تكن لدى الصليبيين قنابل ذرية وغواصات ألمانية.

عندما يستخدم مقاتلو داعش وعرب آخرون الكلمة "الصليبيون"، فهم لا يقصدون الغزاة في فترة العصور الوسطى فقط. هم يقصدون كل النصارى في أوروبا وأمريكا. عندما يتحدثون عن "الصهيونية"، هم يقصدون كل الإسرائيليين اليهود، وأحيانًا كل اليهود في العالم.

أعتقد أن ربط هاتين الكلمتين معًا يشكل خطرًا كبيرًا. لا أخشى من قدرة داعش العسكرية، الهامشية، ولكن من قوة أفكارها. فهذه ليس بمقدور أي متفجر أمريكي إلغائها.

ليس هناك وقت. علينا عزل أنفسنا عن الصليبيين، هؤلاء في ذلك الحين واليوم أيضا. 132 سنة بعد قدوم المستوطنين الصهيونيين الأوائل إلى البلاد، حان الوقت أن نعرّف أنفسنا كما نحن حقًا: شعب جديد وُلد هنا في البلاد، شعب تابع لهذه المنطقة، وأبناؤه حلفاء طبيعيين لكل سكان المنطقة الذين يسارعون من أجل الحرية والديموقراطية.