|
||
في كتابِه "كفاحي" (الذي سيفقِد قريبًا حُقوقَ طبعه، بحيث يتمكّن أيّ شخص من إعادة طَبعه)، جسّد هتلر حكمة تُفيد بأنّ الناس يميلون إلى تصديق الكذبة كلّما كانت أكبر، وكلّما جرى تكرارها أكثر. ينطبق هذا أيضًا على اتفاق أوسلو. فمنذ أكثر من عقدَين، يكرّر اليمين المتطرّف دون توقّف الكذبة أنّ اتفاق أوسلو لم يكن خيانة فحسب، بل أنه فشِل فشلًا ذريعًا أيضًا. يقولون لنا إنّ أوسلو مات - إنّه مات، في الواقع، لحظة ولادته. وقد بدأ قسم كبير من الشعب يصدِّق ذلك. لكنها كذبة. الإنجاز الرئيسي لأوسلو، الحدث الذي غيّر التاريخ، تحقّق يوم 10 أيلول 1993 - وهو بالصدفة ذكرى مولدي السبعين. في ذلك اليوم، تبادل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس الحكومة الإسرائيلية رسالتَي اعتراف متبادل. اعترف ياسر عرفات بدولة إسرائيل، فيما اعترف إسحاق رابين بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثّلًا للشعب الفلسطيني. لا يمكن للجيل الحاليّ (في الجانبَين) أن يفهم كاملًا معنى هاتَين الخطوتَين التوأمَين. فمنذ ولادتها، قبل ذلك بنحو مئة عام، أنكرت الحركة الصهيونية مجرّد وجود شعب فلسطينيّ. فقد أمضيتُ أنا نفسي مئات الساعات من حياتي محاوِلًا إقناع الشعب الإسرائيلي بأنّ ثمة أمة فلسطينيّة. وقد صرّحت جولدا مائير، كما هو معلوم، أن "ليس هناك ما يُدعى شعبًا فلسطينيًّا". وأنا فخور جدًّا بردّي عليها في أحد النقاشات في الكنيست: "سيّدتي رئيسة الحكومة، قد تكونين صادقة. قد لا يكون هناك شعب فلسطينيّ حقًّا. لكنّ ملايين البشَر يؤمنون، مخطِئين تمامًا، أنهم شعب، وهم يتصرّفون كشعب، فهم إذًا شعب!" لم يكن الإنكار الصهيوني مجرّد نزوة. فالهدف الصهيوني الأساسي كان السيطرة على "أرض إسرائيل"، جميع "أرض إسرائيل". وتطلّب هذا إبعاد سكّان البلاد. لكنّ الصهيونية كانت حركة "مثاليّة". كان الكثيرون من ناشطيها الأوروبيّين الشرقيين مشبَعين بأحاديث ليو تولستوي وباقي المنظِّرين اليوتوبيين. ولم يتمكّنوا من التعامُل مع واقع أنّ بناء "دولتهم الفاضلة" ممكن فقط على أنقاض شعبٍ آخَر. لذلك، كان الإنكار الصهيوني حيويًّا من الناحية الأخلاقية. كان الاعتراف الإسرائيلي بالشعب الفلسطيني، إذًا، عملًا ثوريًّا. بالنسبة للفلسطينيين، كان الاعتراف أصعب أيضًا. منذ اليوم الأول للنزاع، رأى جميع الفلسطينيين تقريبًا، وفي الواقع جميع العرب تقريبًا، الصهيونيين قبيلة غازية كانت تعتزم السطو على وطنهم، طردهم، وبناء دولة القراصنة الخاصّة بهم على الأنقاض. لذلك، كان هدف الحركة الوطنية الفلسطينية تفكيك الدولة الصهيونية ورمي اليهود إلى البحر، كما فعل أجدادُهم حين رموا آخر الصليبيين من رصيف ميناء عكّا، بكلّ بساطة. وإذا بقائدهم المعبود، ياسر عرفات، يأتي ويعترف بشرعيّة دولة إسرائيل، عبرَ الانقلاب على أيديولوجية مئة سنة من الصراع، فقد فيها الشعب الفلسطيني معظم وطنه، وأضحى معظم أبنائه فيها لاجئين. في اتّفاق أوسلو، الذي وُقِّع بعد ثلاثة أيّام في حديقة البيت الأبيض، قام عرفات بأمر نُسي كليًّا في إسرائيل، فقد تنازل رسميًّا عن 78% مِن أراضي فلسطين التاريخيّة. والرجل الذي وقّع الاتّفاق بيده كان أبا مازن. أتساءل إن كانت يده قد ارتعشت قبل التوقيع على هذا التنازُل الهائل، قبل دقائق معدودة من مصافحة عرفات ورابين. أوسلو لم يمُت. فرغم الشوائب البارزة في الاتّفاق (وفق عرفات: "الاتّفاق الأفضل في الوضع الأسوأ!")، غيّر اتّفاق أوسلو جوهر الصراع، لا الصراع نفسه. السلطة الفلسطينية، التي هي أساس الدولة العتيدة، لا تزال قائمة. فلسطين مُعترَف بها من قِبل معظم دول العالم، وجزئيًّا على الأقلّ من الأمم المتحدة. أضحى حلّ الدولتَين، الذي كان يومًا فكرة مجموعة هامشيّة مجنونة، موضع إجماع عالميّ. استمرّ التعاون الهادئ، ولكن الحقيقيّ، في مجالاتٍ عديدة. لكنّ كلّ هذا طبعًا بعيد عن واقع السلام، الذي توقّعه الكثيرون منّا، ومن بينهم رون بونداك، في ذلك اليوم السعيد الباعث على التفاؤُل - 13 أيلول 1993. بعد عشرين عامًا ونيّف، لا تزال ألسنة لهب الصراع مرتفعة. وكثيرون لا يتجرّأون على لفظ كلمة "سلام"، كما لو كانت رذيلة إباحيّة. فما الذي لم يجرِ كما يجب؟ يعتقد فلسطينيون كثيرون أنّ التنازلات التاريخية لعرفات أتت أبكر ممّا يجب، وأنّه كان عليها تقديمها فقط بعد أن تعترف إسرائيل بأنّ الدولة الفلسطينية هي الغاية النهائية للمسار. غيّر رابين كلّ وجهة نظره في الحادية والسبعين من عمره واتّخذ قرارًا تاريخيًّا، لكنه لم يكن الرجل المناسب للتقدُّم إلى الأمام. فقد تردّد، انتظر، وأعلن أن "لا تواريخ مقدَّسة". أصبحت هذه المقولة ستارًا لانتهاك العديد من الالتزامات. كان يُفترَض أن يجري توقيع الاتّفاق النهائي عام 1999. قبل ذلك بكثير، كان يجب افتتاح "المعابر الآمنة" الأربعة بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان انتهاك ذاك الالتزام هو ما أمّن انشقاق غزة عن السلطة الفلسطينية. انتهكت إسرائيل كذلك الالتزام بتنفيذ "الدفعة الثالثة" من الانسحاب من الضفّة. فقد أمست منطقة C في الواقع جزءًا من إسرائيل تنتظر الضمّ بشكل رسميّ، كما تُطالب أحزاب اليمين. صحيح أنّه لم يكن هناك التزام بتحرير الأسرى. لكنّ المنطق السليم يفرض ذلك. فقد كانت عودة الأسرى العشرة آلاف ستُثير الجوّ. بدل ذلك، بنت الحكومات الإسرائيلية، اليمينية واليسارية، مستوطنات جديدة بوتيرة محمومة. شجّعت الانتهاكات الأولى للاتّفاق وإفشال المسار كلّه المتطرفين من الجانبَين. فقد اغتال المتطرّفون الإسرائيليون رابين، فيما استهلّ المتطرّفون الفلسطينيون معركة تفجيرات قاتلة. تحدثتُ في الأسبوع الماضي عن عادة حكوماتنا عدم احترام الالتزامات الخطيّة، كلّ مرة تظنّ فيها أنّ المصلحة الوطنية تتطلّب ذلك. كجنديّ في حرب 1948، شاركتُ في الهجوم الكبير لافتتاح الطريق إلى النقب، الذي كان معزولًا من قِبل الجيش المصري. كان ذلك انتهاكًا للهدنة (الثانية) التي أعلنت عنها الأمم المتحدة. وقد تمّ استخدام تقنيّة بسيطة لإلقاء اللوم على العدوّ. استخدم أريئيل شارون نفس التقنيّة لاحقًا حين خرَق وقف إطلاق النار على الجبهة السورية، وتسبّب هناك بحوادث دامية، بهدف ضمّ "المناطق المنزوعة السلاح". في وقتٍ لاحق، استُخدمت ذكرى تلك الحوادث لضمّ هضبة الجولان. كانت حرب لبنان الأولى خرقًا مباشرًا لوقف إطلاق النار الذي جرى التوصّل إليه قبل عام عبر دبلوماسيين أمريكيين. كانت الحجّة واهية كالمُعتاد: حاولت مجموعة إرهابيّة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن. وحين أبلغ رئيس الموساد مناحيم بيجن أنّ تلك المجموعة الإرهابيّة تقاتِل منظمة التحرير الفلسطينية، أجاب بيجن، كما هو معروف: "كلهم منظمة التحرير!" في الحقيقة، حرص عرفات كثيرًا في تلك الفترة على الحفاظ على الهدنة، لأنه كان يخشى غزوًا إسرائيليًّا. وقد نجح أيضًا في فرض وقف إطلاق النار على التنظيمات المتطرّفة. خلال 11 شهرًا، لم تشهد الحدود اللبنانية إطلاق رصاصة واحدة. لكن حين تحدثتُ قبل بضعة أيّام إلى مسؤول سابق في الأجهزة الأمنية، قال لي بمنتهى الجديّة: "لقد أطلقوا الرصاص علينا هناك كلّ يوم. كان الوضعُ لا يُطاق". بعد ستّة أيّام من الحرب، جرى التوافق على وقف إطلاق النار. لكن في تلك الساعة، لم تكن قوات الجيش الإسرائيلي قد نجحت في حصار بيروت بعد. لهذا السبب، خرق شارون الهدنة، وعزل طريق بيروت - دمشق الحيويّة. نجمت الأزمة الحاليّة في "عمليّة السلام" عن رفض الحكومة الوفاء بالتزاماتها إطلاق سراح أسرى في يومٍ مُحدَّد. كان الانتهاك واضحًا إلى حدّ أنه جعل جون كيري يتمتِم الـ "بوف" الشهيرة. في الحقيقة، لم يتجرأ بنيامين نتنياهو على تنفيذ التزامه، بعدما حرّض شركاؤه ورجاله في الإعلام الشعبَ لأسابيع ضدّ تحرير "القتَلة" الذين "أيديهم ملطَّخة بالدِّماء". في اليسار أيضًا، لم يُسمَع طلب إطلاق السراح بصوتٍ عالٍ. والآن، تتبلوَر أمام أعيننا رواية كاذبة جديدة. فالأكثرية الساحقة في إسرائيل مقتنعة تمامَ الاقتناع أنّ الفلسطينيين هم مَن انتهكوا الاتّفاق بانضمامهم إلى 15 معاهدة دوليّة. وبعد هذا الانتهاك الواضح للاتّفاق، كانت حكومتنا مبرَّرة في رفض إطلاق سراح الأسرى. كرّر الإعلام هذا التزوير للوقائع كثيرًا، حتّى أصبح حقيقة. نعود إلى جُناة أوسلو. لم أكُن شريكًا في العمليّة (التي لم أكن أدري بوجودها)، لكنني زرتُ عرفات في تونس حين كانت المحادثات تجري في أوسلو. تحدثتُ إليه حول التسويات المتنوّعة الممكنة. ليرقُد رون بونداك بسلام - فرغم أنّ السلام، الذي سعى في أثره، لا يزال يبدو بعيدًا، فإنه إتيانًا سيأتي. |