اوري افنيري 

بكلمة واحدة: أوف! / أوري أفنيري


جون كيري المسكين. قدّم هذا الأسبوع صوتًا عبّر فيه أكثر من ألف صفحة من هراء الدبلوماسية.

في شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ أوضح كيف أنّ أعمال الحكومة الإسرائيليّة خرّبت "عملية السلام". انتهكت إسرائيل التزاماتها بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، وبالمقابل أعلنت عن عملية بناء كبيرة في القدس الشرقية. وفي نهاية كلامه قال: "أوف"!

"أوف" هو صوت الهواء الخارج من البالون. إنه تعبير جيّد، لأنّ "عملية السلام" لم تكن من البداية أكثر من بالون مليء بالهواء الساخن.

لا حاجة لإدانة جون كيري. إنّه تطرّق لكلّ الموضوع بجدّية. هو سياسي متمرّس، وقد حاول جاهدًا تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. علينا أن نشكره على جهوده.

تكمن المشكلة في أنّ كيري لا يملك فكرة عن المشكلة التي تدخل فيها.

كلّ "عملية السلام" تدور حول خطأ. هناك من سيقول: حول الكذب.

الكذب هو أنّ لدينا جانبَين متساويَين في الصراع. رغم أنّه صراع خطر، وقديم. ولكن الصراع القابل للحل هو عندما يجتمع العقلاء من كلا الجانبَين ويناقشون المسألة بإرشاد محكّم مستقلّ.

إنّ أيّا من هذه الافتراضات ليست ملائمة. المحكّم لم يكن مستقلّا. الزعماء لم يكونوا عقلاء. والأهمّ من كلّ ذلك: الطرفان لم يكونا متساويَين.

ميزان القوى بين إسرائيل وفلسطين ليس متعادلا. في جميع المجالات العملية: العسكرية، الدبلوماسية، الاقتصادية؛ فهو أقرب إلى واحد مقابل ألف.

لا يوجد مساواة بين المحتلّ والذين احتلّوا، الظالم والمظلوم. لا يستطيع السجّان والسجين أن يتفاوضا في ظروف من المساواة. حين تكون لدى أحد الأطراف سيّطرة مطلقة على الجانب الثاني، يراقب كلّ تحركاته، يستوطن أرضه، ويسيّطر على تدفّق الأموال إليه، يسجن أفراده حسب رغبته، يعرقل توجّهه للأمم المتحدة والمحكمة الدولية؛ فكيف يمكننا حينئذ أن نتحدّث عن المساواة؟

حين يكون طرفا المفاوضات غير متساويَين إلى هذه الدرجة، يمكن إصلاح الوضع فقط بواسطة وسيط داعم للطرف الضعيف، أي "تفضيل مصحح". ولكن حدث العكس: الدعم الأمريكي لإسرائيل بالذات هائل ومستديم.

في كافة فترة "المفاوضات" لم تفعل الولايات المتحدة بأي شيء من أجل منع المستوطِنين من خَلق حقائق على الأرض، تلك الأرض التي تهدف المفاوضات إلى تقرير مصيرها.

الشرط المسبق لأيّة مفاوضات هو أن يكون لكل جانب، على الأقل فهم أدنى - ليس فقط بخصوص مصالح ومتطلّبات الجانب الآخر، وإنّما أيضًا فهم عالمه الروحي، صورته الذاتية ومبناه العاطفي. دون ذلك، ستكون جميع أعمال الجانب الآخر تبدو وكأنّها فاقدة للمعنى وغير منطقية.

قال لي بطرس بطرس غالي مرّة - وهو أحد أذكى الأشخاص الذين قابلتهم في حياتي: "إسرائيل لديها الخبراء الأعظم في شؤون العالم العربي. لقد قرأوا جميع الكتب، المقالات، كلّ كلمة كُتبت عن هذا الموضوع. إنّهم يعرفون كلّ شيء ولا يفهمون شيئًا. لأنّهم لم يعيشوا يومًا واحدًا في بلد عربي".

ينطبق الأمر ذاته على الخبراء الأمريكيين، بل أسوأ من ذلك. في واشنطن يستنشق الرجل الهواء النقيّ في قمم جبال الهملايا. عندما يلقون نظرة من داخل القصور الفخمة في عاصمة العالم، والتي يتم فيها تقرير مصير الأمم، تبدو الشعوب الأجنبية صغيرة، بدائية وليست ذات شأن. يختبئ هنا وهناك خبراء حقيقيّون، ولكن أحدًا لا يستشيرهم في الحقيقة.

لا يوجد لدى رجل الدولة الأمريكي أدنى فكرة عن التاريخ، النظرة إلى العالم، الأديان، الأساطير أو الصدمات التي تشكّل المواقف العربية، ناهيك عن النضال الفلسطيني. ليس لديه صبر على مثل هذا الهراء.

ويبدو أنّ الفهم الأمريكي لإسرائيل أفضل من ذلك بكثير. ولكن هذا أيضًا مجرّد وهم.

يعلم السياسي الأمريكي الكثير عن اليهود. الكثير منهم من اليهود أنفسهم. كيري أيضًا، كما يبدو، يهودي جزئيًّا. يشمل فريق السلام التابع له الكثير من اليهود، بل والصهاينة. وهذا يشمل في الواقع الرجل الذي يدير المفاوضات، مارتن إنديك، الذي عمل سابقًا في اللوبي الصهيوني، إيباك. مصدر الاسم إنديك هو اللغة اليديشية (الديك الرومي).

يفترض الأمريكيّون أنّ الإسرائيليين لا يختلفون كثيرًا عن يهود الولايات المتحدة. ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا. يمكن لإسرائيل أن تدّعي بأنّها "الوطن القومي للشعب اليهودي"، ولكن هذا الادعاء لم يهدف سوى للاستفادة من الشتات اليهودي ولتخريب "عملية السلام". في الواقع هناك تشابه بسيط فقط بين الإسرائيليين والشتات اليهودي، ليس أكثر بكثير ممّا بين الألمان واليابانيّين.

قد يشعر مارتن إنديك بالقرب من تسيبي ليفني، بنت مقاتل منظّمة الإتسل (أو "الإرهابي" بلغة البريطانيين). ولكن هذا مجرّد وهم. إنّ الأساطير والصدمات التي شكّلت شخصية ليفني مختلفة جدّا عن الأساطير والصدمات التي شكّلت إنديك، الذي درس في أستراليا.

لو عرف أوباما وكيري أكثر، كانا سيفهمان من البداية أنّ البنية السياسية في إسرائيل الآن تمنع تمامًا إمكانية الانسحاب من المستوطنات أو التسوية في القدس.

كلّ ذلك صحيح أيضًا بالنسبة للجانب الفلسطيني.

الكثير من الفلسطينيين مقتنعون تمامًا أنّهم يفهمون إسرائيل. بعد كلّ شيء، فهم يخضعون لها منذ عشرات السنين. مكث الكثير منهم سنوات طويلة في السجون الإسرائيلية ويتحدّثون العبرية بطلاقة. ولكنّهم أخطأوا كثيرًا في علاقاتهم مع إسرائيل.

كان الخطأ الأخير هو أنّ الفلسطينيين اعتقدوا أنّ الإسرائيليين سيطلقون سراح الدُفعة الرابعة من الأسرى. كان ذلك شبه مستحيل. جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية، بما في ذلك المعتدلة، تتحدّث عن "القتلة الفلسطينيين"، وليس عن نشطاء فلسطينيين أو مقاتلين فلسطينيين. تتنافس أحزاب اليمين مع بعضها البعض ومع مجموعات يمينية من "ضحايا الإرهاب" في إدانة الفضيحة الرهيبة. الكثير منهم يعارضون إطلاق سراحهم أيضًا مقابل بولارد.

كان من الممكن أن نتوقّع بأن يفهم الإسرائيليون المشاعر العميقة التي نشأت لدى الشعب الفلسطيني في أعقاب عدم الإفراج عن الأسرى، والذين بنظره أبطال وطنيّين وحيث إنّ الإسرائيليين أنفسهم أطلقوا في الماضي سراح أسرى عرب مقابل أسير إسرائيلي واحد. سمّيَ ذلك وقتئذ "استعادة الأسرى".

يقولون إنّ إسرائيل تبيع كلّ "تنازل" ثلاث مرّات: المرة الأولى حين تؤكّده، المرة الثانية حين توقّع على الاتفاق والمرّة الثالثة حين تطبّق الالتزام فعليّا. كان الأمر كذلك، على سبيل المثال، حين آن الأوان لتنفيذ المرحلة الثالثة من الانسحاب في الضفة، ولكنه ما لم يحدث.

لا يعلم الفلسطينيون شيئًا عن التاريخ اليهودي كما يُدرّس في المدارس الإسرائيلية. إنّهم يعرفون القليل جدّا عن المحرقة، وأقلّ من ذلك عن جذور الصهيونية.

بدأت المفاوضات الأخيرة كـ "محادثات سلام"، واستمرّت في مناقشة "الاتفاق الإطاري" وتحوّلت إلى محادثات حول المحادثات.

ولكن لا أحد يرغب في إنهاء هذه المهزلة، لأن الجوانب الثلاثة جميعها تخاف من البدائل.

الجانب الأمريكي يخاف من هجوم الجرافة الصهيونية العملاقة الإنجيلية الجمهورية الأدلسونية على حكومة أوباما في الانتخابات القريبة. يحاول رجال وزارة الخارجية الأمريكية الآن بشكل محموم الانسحاب من "أوف" كيري. هو لم يقصد، معاذ الله، أن يحدّد بأنّ إسرائيل وحدها مذنبة. كلا الجانبان مذنبان. السجّان والسجين مذنبان بشكل متساوٍ.

لدولة إسرائيل هناك، كالعادة، مخاوف كثيرة. إنّها تخاف من انتفاضة ثالثة، والتي من الممكن أن تندلع سوية مع حملة عالميّة لنزع شرعية إسرائيل ومقاطعتها، وخصوصا في أوروبا.

وهي تخاف أيضًا من أن تتقدّم الأمم المتحدة - التي اعترفت حتى الآن بفلسطين فقط كدولة ليست عضوا - وتعترف بها أكثر فأكثر.

وتخاف القيادة الفلسطينية من انتفاضة ثالثة، والتي قد تنتشر وتتحوّل إلى حمّام دم. فرغم أنّ جميع الفلسطينيين يتحدّثون عن "انتفاضة غير عنيفة"، فالقليل من يصدّق ذلك. إنّهم يتذكّرون أنّ الانتفاضة الثانية بدأت بشكل غير عنيف. ولكن الجيش الإسرائيلي ردّ بإطلاق النار تجاه قادة المظاهرات، وأدّى ذلك إلى عمليات انتحارية.

ردّ أبو مازن بغضب على عدم إطلاق سراح الأسرى، وهو أمرٌ أذلّه شخصيًّا. وكردّ على ذلك وقّع على 15 اتفاقية دوليّة. ردّت حكومة إسرائيل هي أيضًا بشراسة؛ كيف يجرؤ على ذلك؟

في الواقع، لم يكن لهذه الخطوة أهمّية كبيرة. بتوقيع واحد حصل أبو مازن على اتفاقية جنيف. وبتوقيع آخر انضمّ إلى اتفاقية لحماية الأطفال. هل لم يكن ينبغي علينا أن نستقبل ذلك بترحيب؟ ولكن حكومة إسرائيل تخشى أن تكون هذه خطوة قبيل قبول فلسطين بعضوية كاملة في الأمم المتحدة وفي المحكمة الجنائية الدولية، ومن ثمّ يمكن اتهام الإسرائيليين في جرائم الحرب.

يخطّط أبو مازن أيضًا لخطوات مصالحة مع حركة حماس وإقامة انتخابات فلسطينية، من أجل تعزيز الجبهة الداخلية.

تفضّل جميع الجهات استمرار "المحادثات" الفارغة من المضمون.

إنْ كنتم مكان جون كيري المسكين، ماذا كنتم ستقولون؟

"أوف"! يبدو أنّه أقل شيء.