اوري افنيري 

عودي عودي شولميت / أوري أفنيري


بِيت سيغر مسّ حياتي مرّة واحدة فقط. ولكن أيّ مس كان ذاك؟!

كان ذلك قبل أيام قليلة من حرب حزيران عام 1967. بعد نحو ثلاثة أسابيع من التوتّر المتزايد وصلت شرارة الحرب إلى نقطة الاندلاع. علمتُ أن المعركة ستبدأ خلال عدّة أيام، أو ربّما ساعات.

اتصلت دينا دينور، زوجة ك.تشاتنيك، كاتب الهولوكوست، من أجل دعوتي لحضور اجتماع مع بيت سيغر. دينا هي امرأة مثيرة للإعجاب، عقدت في شقّتها لسنوات مجموعة صغيرة من النشطاء اليهود والعرب من أجل مناقشة مسائل السلام.

وقد تم عقد اللقاء مع سيغر في فندق "هيلتون". لقد كانت حزينة، كئيبة، ولكن بشكل غريب أيضًا سعيدة. فكرنا في جميع شبانهم وشباننا، الذين يعيشون ويتنفّسون هذه اللحظات، وعلى وشك الموت في الأيام القريبة.

كنّا مجموعة من نحو ثلاثين رجلا وامرأة، يهودًا وعربًا. غنّى لنا بيت، عازفًا على الغيتارة. أغانٍ عن السلام، عن الإنسانية، عن الثورة. كنّا متأثرين جدًّا.

ومنذ ذلك الحين لم أجتمع ببيت مرّة أخرى. ولكن بعد مرور 19 عامًا، وبشكل مفاجئ، حظيتُ ببطاقة بريدية منه. جاء فيها بالإنجليزية: "عزيزي أوري أفنيري؛ مجرّد رسالة قصيرة من الامتنان العميق لتصميمك على الوصول إلى الناس والعمل. وآملُ في الفترة القادمة حين تزور الولايات المتحدة، أن نلتقي بك أنا وعائلتي. بيت سيغر". إلى جانب التوقيع ثلاثة أحرف صينية ورسم لغيتارة.

قبل يومين من وفاة بيت سيغر، قمنا بدفن شولميت ألوني. ربما كان بعض الناس الذين شاركوا في ذلك اللقاء حاضرين هذه المرّة أيضًا.

شولا، كما كانت تُدعى، كانت إحدى القياديات القلائل لليسار الذين تركوا بصماتهم على المجتمع الإسرائيلي بشكل دائم.

رغم أنّها كانت أصغر منّي بخمس سنوات، ولكن كنّا ننتمي إلى نفس الجيل، جيل مقاتلي الاستقلال. كانت حياتنا في خطوط متوازية، وتعلّمنا في المدرسة أنّ الخطوط المتوازية تكون قريبة جدًّا من بعضها البعض، ولكنّها لا تلتقي أبدًا.

انتُخِبَ كلانا للكنيست في نفس الوقت. قبل ذلك كنّا نشطاء في نفس المجال. كنت رئيس تحرير مجلّة ركّزت، من بين أمور أخرى، على النضال من أجل حقوق الإنسان. كانت هي معلّمة ومحامية، واشتهرت بصفتها تدافع عن حقوق المواطن في الصحف والإذاعة.

يبدو ذلك سهلا، ولكنّه كان ثوريًّا. بعد الاستقلال، كانت إسرائيل لا تزال بلادًا حيث الدولة هي كلّ شيء. كان المواطنون متواجدين فقط من أجل خدمة الدولة، وعلى وجه الخصوص الجيش. الجماعة كانت كلّ شيء، وكان الفرد قريبًا من الصفر.

دعت شولا لمبدأ معاكس: الدولة قائمة من أجل خدمة المواطنين. وللمواطن حقوق لا يمكن سلبها. أصبح ذلك جزءًا من الإجماع الإسرائيلي.

ومع ذلك، كان هناك فرق كبير بين وضعها ووضعي. جاءت شولا من قلب المؤسسة، التي كرهتني كره الموت. لقد ولدت في حيّ فقير في تل أبيب، حيّ نافي شآنان، وحين تجنّد كلا والديها في الحرب العالمية الثانية مع الجيش البريطاني، تم إرسالها إلى قرية الشباب بن شيمن، وهي مركز للتعليم الصهيوني. تعلم معها شمعون بيريس في تلك المدرسة. بينما كنت في ذلك الوقت عضوًا في منظمة "الإتسل"، التي عارضت المؤسسة بشكل تامّ.

بعد بن شيمن انتقلت شولا إلى كيبوتس ألونيم، وهناك التقت بروبين ألوني، الذي كان اسم الكيبوتس على اسمه، وتزوّجته. أصبح روبكا ضابطًا كبيرًا، وكان مسؤولا عن تهويد الجليل.

بالإضافة إلى كتابة المقالات والأحاديث الإذاعية، التي كانت شولا منشغلة فيها بشكاوى المواطنين، فقد أقامت أيضًا حفلات للزواج. كان هذا على حافّة القانون، حيث إنّ جميع مسائل الأحوال الشخصية كانت (وظلّت) بيد الحاخاميّة، والتي لم تكن تعترف بالمساواة مع المرأة.

كانت في الكنيست عضوًا في حزب العمل (الذي كان يسمّى حينها مباي)، وخضعت للانضباط الحزبي. وكنت أنا حزب نفسي، أملك الحريّة في أن أقوم بكلّ ما أشعر به. كان بإمكاني أن أقوم بالكثير من الأمور التي لم تستطع هي القيام بها، مثل تقديم اقتراحات قانون ليبرالية: إضفاء الشرعية على حالات الإجهاض، السماح ببتر الأعضاء للزراعة، إلغاء قانون الانتداب الذي كان يحظر العلاقات بين مثليّي الجنس بالتراضي بين البالغين، وما شابه ذلك.

وقد طالبت بالفصل التامّ بين الدين والدولة. كانت شولا معروفة بمهاجمتها للإكراه الديني في مسائل حقوق المواطن. ولذلك صُدمتُ في إحدى المحادثات الأولى لنا في الكنيست - حيث كانت لا تزال تسكن في "بيت فرومين" في وسط مدينة القدس، حين أعربت عن معارضتها الشديدة للفصل. "أنا صهيونية"، قالت لي، "والشيء الوحيد الذي يوحّد اليهود في العالم هو الدين. ولذلك لا يمكن أن يكون في إسرائيل فصل بين الدين والدولة".

من تلك النقطة وما بعدها توسّعت رؤية شولا سنة بعد أخرى. في رأيي، هذا هو منطق الفلسفة اليسارية، الذي لا مفرّ منه.

ركّزت في البداية على حقوق المواطن. ومن هناك توسّعت لحقوق الإنسان. ومن ثم للفصل بين الدين والدولة. وبعد ذلك إلى موضوع النسوية. ومن هناك للعدالة الاجتماعية. ووصلت في النهاية إلى نضال مصمّم من أجل السلام وضدّ الاحتلال. وطوال كلّ ذلك كانت متمسّكة بالصهيونية.

لم يكن هذا طريقًا سهلًا. في أوائل عام 1974، حين انتخبت شولا للكنيست مجدّدًا، وفي هذه المرّة على رأس قائمة "راتس"، أوصلتها في طريقي إلى حيفا. وتناقشنا خلال ساعة السفر. قلت لها: الآن، وأنت زعيمة حزب، عليك الانضمام إلى النضال من أجل السلام. "دعنا نقسّم العمل بيننا"، أجابت، "أنت تهتم بالسلام وأنا اهتم بحقوق المواطن".

ولكن بعد 20 عامًا، أصبحت شولا ناشطة مجتهدة ومهمّة من أجل السلام، لقيام دولة فلسطينية وضدّ الاحتلال.

كان لدينا شيء آخر مشترك؛ كانت جولدا مئير تكرهنا نحن الإثنين حدّ الموت.

طالما كان ليفي أشكول يرأس حزب مباي، وهو رجل اجتماعي، كانت شولا تتجاهل خطّ الحزب. حين توفّي أشكول فجأةً، انتقلت العصا ليد جولدا، وتغيّرت قواعد اللعبة فجأة.

كانت جولدا امرأة مستبدّة، وكما قال عنها ديفيد بن غوريون، إنّها تنجح في أن تكره الآخرين. كانت شولا امرأة شابّة، ذات مظهر جيّد وصاحبة تفكير ذاتي، وقد استفّزتها. وبحلول عام 1969 استبعدت شولا من مكان مؤثّر في قائمة الحزب. وفي عام 1973، حين حاولت شولا الوصول مجدّدًا إلى مكان مؤثّر، قامت جولدا بعمل خسيس؛ حيث أزالت شولا من القائمة في اللحظة الأخيرة تمامًا.

كان ذلك في وقت متأخر جدًّا حيث لم يتبقّ لشولا وقت لإنشاء قائمة جديدة. ولكن حدثت معجزة. استعدّت مجموعة من النسويات لتقديم قائمة خاصّة بهنّ. وكنَّ قد أنجزنَ كلّ الإجراءات القانونية، ولكن لم يكن لديها فرصة لاجتياز نسبة الحسم. وهكذا نشأ مزيج مثاليّ؛ زعيمة دون قائمة، لقائمة دون زعيمة.

وخلال الساعات المتبقّية حتى نهاية موعد تقديم القوائم، رأيت شولا منشغلة بكومة كبيرة من الورق وتحاول ترتيب نماذج التوقيعات. ساعدتُها في إنهاء المهمّة بالوقت المحدّد.

هكذا ولد الحزب الجديد، الذي يسمّى اليوم ميرتس. في الضربة الأولى فازت بثلاث مقاعد.

وكانت أفضل لحظات شولا في عام 1992. حيث فازت ميرتس بـ 667,250 صوتًا، وأصبحت قوّة سياسية. وكان رئيس الحكومة الجديد، إسحاق رابين، محتاجًا لها لتشكيل ائتلاف. حصلت شولا على الوظيفة التي رغبت بها: وزيرة التربية.

وكانت المشكلة أنّ الـ 44 مقعدًا لحزب العمل والـ 12 مقعدًا لميرتس لم تكن كافية. كان رابين بحاجة إلى الأحزاب الدينية.

ولم يكن الانتقال من صراع ائتلافي إلى تشكيل حكومة شيئًا سهلا. كان صعبًا بشكل خاصّ على شولا، التي كانت واعظة أكثر من كونها سياسية. والسياسة هي - كالمقولة المأثورة عن بسمارك - "فنّ الممكن". لم تكن شولا جيّدة في التسويات.

ومع ذلك، في البداية، حين قرّر رابين أن يطرد من البلاد 415 ناشطًا إسلاميًا، دعمت شولا هذا القرار. واحتجاجًا على هذا القرار التعسّفي، أقمنا - أنا وأصدقائي - "غوش شالوم". اعترفت شولا في نهاية المطاف بأنّ تصويتها لصالح الطرد كان "كسوفًا".

ولكن المعاناة جاءت بعد ذلك. لم تعتقد شولا أبدًا أنّ عليها إخفاء أفكارها. كانت صادقة. ربّما صادقة أكثر من اللازم.

وقد صرّحت بآرائها كوزيرة للتعليم بشكل حرّ جدًّا. حرّ أكثر من اللازم. في كلّ مرة كانت تبدي رأيها بفصل من الكتاب المقدّس، كان المتديّنون يتسلّقون على الجدران.

وكانت الذروة حين صرّحت بأنّه يجب تدريس نظرية داروين في المدارس، بدلا من قصّة خلق العالم. كان ذلك أكثر من اللزوم. طلب المتديّنون إزاحة شولا من وزارة التربية. كان رابين مشغولا بعملية أوسلو للسلام، وكان محتاجًا للأحزاب الدينية. تمّ استبعاد شولا من الوزارة.

في جنازتها ألمَح أحد أبنائها، في خطاب تأبين برّاق، أنّه قد تمّت "خيانتها"، وأنّ تلك اللحظات كانت الأصعب في حياتها. عرف جميع الحاضرين عمّ يتحدّث، رغم أنّه لم يفصّل.

عندما أقال رابين شولا من الوظيفة المفضّلة لها، لم يهرعوا لمساعدتها. ادّعى بعضهم أنّها تصرّفت بغباء. كان عليها أن تعلم أن الانضمام إلى ائتلاف مع المتديّنين سيكلّفها ثمنًا باهظًا. لو لم تكن مستعدّة للسكوت، لما كانت لتنضمّ إلى الحكومة من البداية.

كانت ميرتس هي إبداع شولا. مؤسّسو الأحزاب هم في العادة ذوو شخصيّة قويّة، حيث ليس من السهل العمل معهم. تآمر أعضاء الحزب ضدّها، وفي نهاية المطاف استبدلوا يوسي سريد بها، الذي انتقل من حزب العمل إلى ميرتس. انخفض الحزب في الكنيست من 12 إلى 3 مقاعد.

لم تجذب شولا انتباه الجمهور في السنوات الأخيرة. لم أراها في المظاهرات في الأراضي المحتلة. ولكنّها حاضرت دون كلل أمام جميع الفئات، في كلّ مكان قام بدعوتها. حين ظهرنا معًا في مناسبات سياسية، كانت متشائمة، وكنت متفائلا.

في إحدى فوراته الصاخبة والصريحة قال الحاخام عوفاديا يوسف بأنّه فيما لو ماتت شولميت ألوني، فسيقيم وليمة.

لم يكن في هذا الأسبوع وليمة. حتّى رجال اليمين اعترفوا بمساهمتها الكبيرة لإسرائيل. ميرتس، التي لديها الآن ستّة مقاعد، تزدهر في آراء الجمهور.

الفصل السابع من "نشيد الأناشيد" يبدأ بالكلمات: "عودي عودي شولميت، عودي عودي!" ليس هناك أمل بأن يحدث ذلك. وليس هناك الكثير من الفرص ليكون هناك شولميت ألوني أخرى. لن يخلق مثلها بعد.